المحاكمات السياسية
بقلم د. حسن سلمان
عرف التاريخ البشري قديما وحديثا ما يعرف بالمحاكمات السياسية وهي استغلال السلطة السياسية لنفوذها في مواجهة الخصوم السياسيين أو ذوي الرأي والفكر المخالف ويتم توظيف السلطة القضائية في تمرير ما تريد السلطة السياسية تجاه خصومها من عقوبات والتاريخ الإسلامي ليس بدعا من التاريخ البشري فقد عرف محاكمات سياسية أو فكرية تم القضاء فيها على الخصوم أو التضييق عليهم أو طردهم أو حبسهم دون جريمة تستحق ذلك سوى الخلاف الفكري والسياسي ولقد كان كبار الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ضحايا هذا النوع من الممارسات السلطوية الجائرة والظالمة في مواجهة خصوم الفكر والرأي السياسي ولقد تم استغلال بعض المفاهيم الشرعية كالردة ومخالفة الإجماع والخروج على ولي الأمر أو التحفظ والامتناع في البيعة أو غيرها من المفاهيم ليتم من خلالها ضرب الخصوم والقضاء عليهم.
وفي ذات السياق تم التوسع في القتل والحبس والضرب وغيرها من العقوبات بحجة التعزير وأن لولي الأمر أن يفعل بخصومه ما يشاء تعزيرا عندما لا يجد عقوبة نصية يوقعها على المخالفين وربما تم ذلك أحيانا دون المحاكمات الصورية للسلطة القضائية التي دورها هو دور المحلل أو التيس المستعار كما معلوم في الفقه.
وفي ظل سطوة السياسي على مفاصل كافة السلطات في النظام السياسي لا يمكن بأي حال من الأحوال تصور العدالة أو تحقيق حكم الشرع مهما تدثر به السياسي لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة واستقلال السلطة القضائية شرط في تنفيذ حكم القانون وتحقيق العدالة وبالتالي فإن المحاكمات لقادة الفكر والرأي مهما كانت دواعيها ومسوغاتها فإن الغالب فيها هو الخصومة الفكرية والسياسية ولا علاقة للدين وحمايته والحفاظ عليه بتلك المحاكمات بل ربما شوهت الدين وخرجت عن مقاصده الكلية ليتحول الدين خادما لا مخدوما وتابعا لا متبوعا ومحكوما لا حاكما لأنه يكون قد تم توظيف الدين في مواجهة خصوم السلطة السياسية ظلما وعدوانا.
وما نشاهده في الفترات الأخيرة من هجمة شرسة في الجزيرة العربية على الدعاة والعلماء وقادة الإصلاح السياسي والحقوقي مصحوبا بتوجهات علمانية ظاهرة غير مستترة في توجيه المجتمع بعيدا عن ثوابته الدينية والاجتماعية والثقافية لهو مظهر من مظاهر توظيف مؤسسات الدولة في مواجهة من تعتبرهم خصوما فكريين أو سياسيين بعيدا عن وجود جرائم حقيقية مرتكبة.
ولعل ما ظهر أخيرا من حديث عن محاكمة فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة ( فرج الله كربه ) واتهامه بجرائم تتعلق بالإرهاب ومطالبة القضاء بإجراء عقوبة الإعدام عليه يظهر حجم الكارثة والمأساة التي وصلت إليها الحالة في تلك الديار في مواجهة الرأي الآخر ومحاولة سوق المجتمع كرها نحو مسارات العلمنة دون مقاومة لهذا التوجه من العلماء والدعاة وهذا بطبيعة الحال سيجعل الدولة في مواجهة ذاتها لأنها ستناقض طبيعة التأسيس الظاهرة في نشأة الدولة وارتباطها بالإسلام وتحالف الدعوة والدولة لعقود من الزمان وبالتالي فإن هذه المحاكمات ستؤدي لمآلات كارثية على الدولة والمجتمع وخاصة إذا ما تم تسليط السيف وإراقة دماء المخالفين.
والخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بالتصالح مع هوية المجتمع ودينه وشريعته والابتعاد عن جر المجتمع لمسارات مناقضة له ثم حمله عليها عنوة وكذلك إطلاق سراح كافة المعتقلين من رجال العلم والدعوة والفكر والإصلاح.
قال تعالى (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ).
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)