مقالاتمقالات مختارة

المؤمن بين استبطاء النصر والأخذ بالأسباب

المؤمن بين استبطاء النصر والأخذ بالأسباب

بقلم د. سيرين الصعيدي

اقتضت المشيئة الربانية أن يكون #الابتلاء سنة كونية لا ينجو منها مخلوق في هذه الحياة، لا سيّما وأن هذه الدّار إنّما هي دار عملٍ ومرتحل، فلا بد من ابتلاء تتمايز به الصفوف، وتُكشف معادن الناس؛ ليستحق كل عامل بما عمل جزاءه في دار الجزاء.

والناظر في قصص السابقين والتفكر بما عرض لهم من ابتلاءات -تشعل الشيب في رؤوس الولدان- يدرك أنه ما كان لينجو من سنة الابتلاء أحدٌ ابتداء من الأنبياء -عليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم- ومن دونهم، حتى يتساوى في ذلك البر والفاجر.

ولو تأملت سنة الابتلاء في خلق الله لوجدت أن أنبياء الله أشد الناس ابتلاء، وهم صفوة البشرية والأكرم على الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنّ من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” [مسند أحمد بن حنبل]، فقف على قصصهم -عليهم الصلاة والسلام- وتفكر بما مرّوا به ليكونوا القدوة لنا في كل كأس من الألم نتجرعه، فنقتفي أثرهم ونحذو حذوهم في السراء والضراء وفي المنح والمحن، وكل له شكل من الابتلاء يناسب قدرته ووسعه الذي كلفه الله به.

وسجال الأحداث التي تشهدها الساحة اليوم والفتن التي تغشانا كما قطع الليل المظلم، تجعلنا نرتقب تغير الأحوال، وننتظر وعد الله في النصر والتمكين، لنجد عبارة تتكرر على مسامعنا: “أوَ لسنا أصحاب حق فلِم لا تتدخل قدرة الله لتنصفنا من ظلم الظالمين، وتعيد الحقوق المغتصبة، أوَ لسنا حراس للمقدسات، لم لا يخسف الله بمن دنّس ترابها واغتصب خيراتها، فينتقم منهم شر انتقام!” وحقيقة الأمر أن الذي ينظر للأمور بهذه النظرة ويستبطئ المَدَد الإلهي في النصرة والتمكين إنما تدل نظرته على قصور في فهم سنة الابتلاء بداية، ومن ثم تفصح عن جهله وانقطاع الصلة بينه وبين سيرة أسلافه من دعاة الخير والصلاح، على رأسهم الأنبياء ومن تبع خطاهم.

من يستبطئ المَدَد الإلهي في النصرة والتمكين إنما تدل نظرته على قصور في فهم سنة الابتلاء بداية، ومن ثم تفصح عن جهله وانقطاع الصلة بينه وبين سيرة أسلافه من دعاة الخير والصلاح

ومما استوقفني من صور الابتلاء وتأخر النصر والتمكين على الرغم من كثرة شواهد الابتلاءات في صفحات النبوة، ومن سار على نهجهم لأذكّر أولئك الذين أصابتهم آفة الاستعجال، ويستبقون رؤية النتائج ويعجلون في قطف الثمار قبل أخذ الأسباب في تعهد الزرع، إنما استوقفني نموذجان تأخر فيهما نصر الفئة المؤمنة، واشتدت صور العذاب وألوانه في صفوفها، فيحدث أن يقضي البعض دون أن يشهد الانتصار والتمكين، ليكون لنا في ذلك عبرة بالغة ودروس تستدعي منا التريث وإعادة حساب مواقفنا وآرائنا وسلوكياتنا في كثير من الأمور، لا سيما والأمة ترزح تحت وطأة الفتن واشتداد الأزمات في ساحتها، مما جعل أبصار الناس متعلقة بالسماء انتظاراً ودعاءً ورجاءً بأن تنكشف الغمة، ويتحقق النصر، ويكون التمكين للصالحين في هذه الحياة.

النموذج الأول/ قصة أصحاب الأخدود

وردت قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج؛ لتبقى على مدار الزمان علماً ونبراساً في تحمل المؤمن الشدائد في سبيل رسالته، والاصطبار عليها دون أن يفتّ من عضده جني ثمار صبره أو شهود انتصار الحق في زمانه؛ لأنّ هذه الفئة المؤمنة والتي أبت إلا الثبات في وجه طواغيت الأرض الذين نصّبوا أنفسهم آلهة تعبد من دون الله، فكانت النتيجة أن حفرت الأخاديد وأضرمت بها النار، وألقي بها كل من آمن بالله، وأية فتنة تبلغ من البشاعة هذا المبلغ، إذ يحرق الرجال والنساء الصغار والكبار، لا لجرم ارتكبوه غير أنهم رفضوا عبادة العباد لتحلق أرواحهم وتسمو فطرهم وتعرج في معراج العبودية لله.

ويعلق الشهيد سيد قطب على هذه السورة: “إن قصة أصحاب الأخدود -كما وردت في سورة البروج- حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل؛ فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها… كان يخطّ بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله، ودور البشر فيها، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع -وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة الدنيا- وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق، ويعدّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور”.

ولا عجب أن يتساءل أولئك الذين ينظرون للأمور نظرة سطحية، ماذا حققوا، أو ليست النتيجة هلاكهم وموتهم في أقل وقت يتصوره بشر، بدون أن تسعفهم الأقدار بفرحة انتصار يلملموا بها أشلاءهم، ويداووا بها جراحهم، ويعللوا بها قلوبهم!

وقد نسي هؤلاء الذين ينظرون إلى النصر الدنيوي على أنه غاية ترجى لنفسه، أن حلبة الصراع ما كانت لتنتهي ولو انتصر الذين قضوا نحبهم ، ومن ثم من قال إن الصراع بينهم وبين القتلة انتهى نهاية تحكم لأولئك بانتصار ولهؤلاء بهزيمة وخسران! فالصراع قائم بين الحق والباطل لم يُرفع بموت الأنبياء – صلوات الله عليهم –ما دام في هذه الحياة لا تزال طائفة باقية مستمرة على الحق لقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

النموذج الثاني/ استبطاء الصحابة – رضوان الله عليهم – للنصر في عصر النبوة

ورد في صحيح البخاري: “عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون”.

تأمل، ثلاث عشرة سنة والمسلمون في مكة من ابتلاء لابتلاء، يحاصرون في شعب أبي طالب، وفئة منهم تأكل السياط من جلودهم، وهذا خباب يكوى رأسه في النار حتى إذا طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينتصر لهم أجابه بما أجاب، وكأن كل الدماء التي أريقت والأشلاء التي تمزقت لهي قليل في سبيل دعوة الله ودين الله، كما أنها أشبه بخطوات ترص على طريق الانتصار.

بالوقوف على ما سبق، وغيرها من نماذج الصبر -الذي ضرب به الأنبياء والمصلحون أروع الأمثلة- يجعلنا نستخلص دروساً تعد عوامل تثبيت وبشرى لنا في آن واحد:

1. على المسلم أن يعلم أن دائرة سعيه تتعلق بالأخذ بالأسباب، وما بعد ذلك من نتائج هو غير مسؤول عنها، بل لا يحاسب عليها ، فكم من نبي قتله قومه دون أن يشهد انتصار رسالته، وانتشارها كما هو الحال مع أنبياء بني إسرائيل، وكم من صاحب دعوة قضى نحبه دون أن يشهد التمكين والاستخلاف، وسيرة الصحابة مليئة بمثل هذه النماذج، فغاية الأهمية في الأمر ألا تقضي وأنت في بطالة، وألا يبلغ منك اليأس مبلغاً يساوي في نظرك بين العامل وغير العامل لنصرة دينه.

2. اعلم أن أعمار الدعوات والرسالات لا تقاس بأعمار أصحابها، كما أنها أكبر من أعمار الطواغيت؛ فهي الأصل والثبات وما هم إلا دخلاء بجبروتهم وطغيانهم على البشرية.

اعلم أن أعمار الدعوات والرسالات لا تقاس بأعمار أصحابها، كما أنها أكبر من أعمار الطواغيت؛ فهي الأصل والثبات وما هم إلا دخلاء بجبروتهم وطغيانهم على البشرية

3. إنّ للنصر شروطاً وأسباباً لا بد من الأخذ بها على الصعيد الفردي والجماعي؛ لكي يتحقق وعد الله بالنصر، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، كما أن الهجرة خير مثال إذ لم تتم إلا بعد بناء النفوس على أساس متين، وقد صرح الله -سبحانه وتعالى – لعباده بشروط النصر، وتكفل لهم بعد ذلك بوفاء ما وعد به من نصر وتمكين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى