بقلم محمد حلمي عبد الوهاب
لا تزال الـمؤسَّسات الدِّينية “التَّقليدية” تحظى بمكانة رفيعة في الـمجتمعات العربية الإسلامية؛ فضلًا عن مكانتها التَّاريخية التي أسهمت بطبيعة الـحال في ترسيخ سُلطتِها جماهيريا. لكنَّها – على الرُّغم من ذلك – قد تعرَّضت إبَّان العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى العديد من الـمشكلات والأزمات الكبرى داخليا وخارجيا؛ والتي كان بعضها بسبب الضغوط الـهائلة التي مُورستْ من قِبَل السُّلطات والأنظمة الـحاكمة عليها قصد الـهيمنة الكليَّة.
ضمن هذا السياق علينا أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعة النشأة السياسية لبعض الـمؤسسات الدِّينية وفي مقدمتها الأزهر الشريف حيث بُديء في إنشائه في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 359هـ (= أبريل 970م) بأمر من جوهر الصّقلي في القاهرة الـمعزيّة. وقد استغرق بناؤه قرابة عامين وثلاثة أشهر، فافتُتح للصلاة في يوم الـجمعة السَّابع من رمضان سنة 361هـ. وكانت الـحكمة واضحة من إنشاء الـمسجد الـجديد، بل كانت أشد وضوحا في الـمقصد والـمغزى من أية فرصة سابقة، فقد كانت الدولة الفاطمية دولة الإمامة الشيعية، وكان الـجامع الأزهر أول مسجد أقامته الشيعة بمصر. ومن ثم، فقد كان قيام الـجامع الأزهر رمزا لسيادة دعوة دينية جديدة هي الدعوة الشيعية، كما كانت القاهرة الـمعزية رمزا لظفر الدولة الـجديدة وسيادتها. مما يعني أنه أُريد ببنائه أن يكون بمثابة الـحاضن والوعاء الفكري الإيديولوجي الديني للدولة الفاطمية، على الرغم من الاحتفاظ النسبي لاستقلاله سياسيا.
وقد صار هذا التلازم ما بين الوظيفتين: الدينية والسياسية سائدا في تاريخ الأزهر كلِّه؛ حتّى عندما أصدر قاضي القضاة صدر الدِّين بن درباس فتواه بعدم جواز أن تُقام خطبتان للجمعة في مدينة واحدة، وعليه قرَّر صلاح الدِّين الأيوبي إغلاق الـجامع الأزهر وإقامة صلاة الـجمعة بجامع الـحاكم بأمر اللَّه؛ فإن قرار إغلاقة أيضا – والذي استمرَّ ثمانية وتسعين عاما (567- 665هـ)- كان سياسيا بالدرجة الأولى، باعتباره ممثِّلا ورمزا للدولة البائدة.
أما في الوقت الراهن؛ فقد ضعُفت الـمؤسَّسات الدِّينية التَّقليدية في أغلب البلدان العربية، وانتهى وجود بعضها واقعيا. فيما عدا مصر والـمملكة العربية السعودية والـمملكة الـمغربية التي تتعدّد وتتنوّع الـمؤسّسات الدِّينية التَّقليدية فيها، فبالإضافة إلى آلاف الزوايا الصوفية الـمنتشرة في ربوع الـمملكة الـمغربية، وبالإضافة أيضا إلى كل من: وزارة الأوقاف، والرابطة الـمحمدّية للعلماء، وجامعة القرويين، ومؤسَّسة دار الـحديث الـحسَنِيَّة، هناك من الـمؤسّسات الدِّينية حديثة النشأة: الـمجلس العلمي الأعلى، والـمجلس العلمي الـمغربيّ لأوربا، ومؤسَّسة محمَّد السَّادس لنشر الـمصحف الشَّريف، ومعهد محمَّد السَّادس للقراءات والدِّراسات القرآنية، ومعهد محمَّد السَّادس لتكوين الأئمة الـمرْشدين والـمرشدات، ومؤسَّسة محمَّد السَّادس للعلماء الأفارقة، ومؤسَّسة الـمدارس العتيقة التي تضم ما يفوق مئتي مدرسة موزَّعة في أنحاء الـمملكة؛ كمدرسة البعْث الإسلاميِّ للعلوم الشَّرعية بمدينة وَجْدَة…إلخ.
على أن جزءا من الـمشكلات التي عرضت للمؤسسات الدينية التقليدية في الأزمنة الـحديثة كان بسبب سحْب بساط السُّلطة منها وانتزاع حقَّ التَّمثيل الرسميّ والـحصريّ للدِّين في الـمحافل والـمناسبات والقنوات الإعلامية لصالح رموز جماعات الإسلام السياسيِّ والدعاة الـجدد واتساع رقعة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وما رافق ذلك كله من اختلاط الـمفاهيم واختلالها، واختراق الـمؤسَّسات الدينية وأدْلجتها، وغلبة خطابات الـحاكمية، وتطبيق الشَّريعة، والولاء والبراء، ودار الـحرب ودار الإسلام، والدَّعوة إلى قيام نظام حكم إسلاميٍّ …إلخ.
وبالإضافة إلى ما سبق أيضا، هنالك – بطبيعة الـحال – مشكلة التَّرهُل الكبير الذي عانت منه الـمؤسَّسات الدِّينية التَّقليدية: إمَّا بسبب الظروف التي أحاطتْ بنشأة وتطور مفهوم “الدَّولة الـحديثة” والـمجتمعات الـحديثة، وما نتج عنه من إحساس كثير من مُمثِّلي تلك الـمؤسَّسات بفُقدان الـهمِّ التَّجديديِّ الضَّروري لمواكبة العصر ومُسْتجداته؛ فضلا عن فقدان الـهِمَّة، وإمَّا بسبب إخفاقات تجارب السَّابقين في هذا الـمضمار وتهاوي مشاريع الإصْلاح والتَّجديد من الدَّاخل؛ بفضل سيطرة التَّيارات الـمحافظة التَّقليدية؛ كما حدث في تجربتيْ الإمام محمَّد عبده (1849- 1905م) وتلميذه الشَّيخ مصطفى الـمراغي (1881- 1945م) الإصلاحيتيْن بصفة خاصَّة.
أمَّا على مستوى الـمناهج التَّعليمية؛ فقد شهدت العقود الأخيرة اصطفافا كبيرا للتَّيارات النَّصيَّة والسَّلفية بالـمعنى العام يناوئُ الاشتغالَ الفلسفي وكلَّ نزعةٍ نقديةٍ؛ خوفا من أن يفتحا أبوابا جديدة من التَّأويل النَّصيِّ وإعادة إنتاج معارفه بما لا يتوافق مع الـمنظومة الفقهية الراسخة تاريخيا. فعلى الرُّغم من دعاوى تنقيح الـمناهج الدِّراسية وإعادة هيكلة برامجها في الـمؤسَّسات الدَّينية التَّعلمية؛ فإنها لا تزال تزخر بالعديد من الأمثلة الصَّارخة على انفصامها النَّكد عن الواقع؛ فضلا عن مجافاتها للعقل ولمنظومة القيم والـحقوق الإنسانية.
إن الـمتابع لتاريخ الإصلاح في الأزهر الشريف لا يفوته أن يلحظ معالم ذلك التوتّر الـحي الذي كان – ولا يزال – قائما وطاغيا بين فريقين من أبناء الأزهر: الإصلاحيون الذين يرون أن الأزهر في أمسِّ حاجة إلى بثِّ روح الاجتهاد والتجديد فيه من جانب. والـمحافظون التَّقليديون الذين يعارضون كلَّ جهد مبذول من أجل تحديث الـمؤسَّسة الأزهرية من جانب آخر. وعلى الرُّغم من أنَّ هذا الـملمح – الصراع والتنازع فيما بين الـجانبين – قديمٌ قِدَم الأزهر ذاته؛ إذ لا نعدم وجوده في حقب التَّاريخ الـمختلفة، فإنَّ وطيسه قد زاد بصفة خاصة في الآونة الأخيرة.
فدائما ما كان هناك نوع من الشدِّ والـجذب بين الـمنتسبين للأزهر في عصوره الـمختلفة، وإن طغى عليه التَّعصُّب لهذا الـمذهب الفقهيّ أو ذاك؛ حتَّى في الأوقات التي أُغْلِق فيها الأزهر بأمر من صلاح الدِّين الأيوبيِّ، فالشافعية والأشعرية في الفقه والعقيدة كانا يتمترسان في معسكر واحد ضدَّ كلٍّ من الـحنابلة والشَّيعة في الفقه والعقيدة. وقد بلغ الأمر حدودا يصْعُب تصديقُها؛ على نحو ما فعل أبو البركات محمَّد بن الـموفَّق الـخبُوشانِيِّ (510 – 587هـ)، الذي نبش بقايا الشاعر الصوفيِّ الـحنبليِّ ابن الكيزاني (ت562هـ)، حيث يقول اليافعيِّ عنه إنه ”قَدِم إلى الدِّيار الـمصرية وأظهر النَّاموس وتزهَّد، وكان يركب الـحمار فيقف على السُّلطان صلاح الدِّين وأهله. وأعطاه السُّلطان مالًا فبنى به الـمدرسة التي بجانب الشَّافعي، رحمه اللَّه، وكان كثير الفتن – منذ دخل مصر إلى أن مات – ما زالت الفتنة قائمة بينه وبين الـحنابلة وابن الصَّابوني وزين الدِّين بن نُجَيَّة، يُكفِّرونَه ويُكفِّرهم، وكان طائِشًا مُتهوِّرًا، نبَش على ابن الكيزانيِّ وأخرج عِظَامَه من عند الشافعيِّ، وهو يقول: لَنْ يكون صِدِّيقٌ وزِنْدِيقٌ في موْضعٍ واحِد! مُثيرًا بذلك حُنْقَ الـحنابلة، مُعْلِنا انتصارَه عليهم”! وتلك قضية أخرى ربما نعرض لها في مقال لاحق.
(المصدر: إسلام أونلاين)