المآزق الإنسانية لحديث النهايات
بقلم بنداود رضواني
من بين ما تقوم عليه العولمة في بنائها الفكري التمركز حول حديث النهـايات؛ عبـر الترويج لنهاية حتمية لا مفر منها تترصد النماذج الحضارية القائمة على التمايز الهوياتي والتباين الثقافي، بفعل استيفاء أغراضها الزمنية – حسب ادعاءات هذا الحديث – وانتهاء راهنيتها وصلاحيتها. في مقابل التبشير في الآن نفسه بفتوحات العولمة وانتصارات الأخلاق الكونية المادية. لكن البادي أن تسويق لغة النهـايات (نهاية التاريخ، نهاية المثقف، نهاية الإنسان، نهاية الوطن والوطنية، نهاية الأيديولوجية، نهاية الهوية…)؛ لا يراد منه إعلان بلوغ هذه القضايا درجة الكمال أو لحظة الاكتمال، بقدر ما يستبطن في الجوهر أفكاراً رافضية لقانون التداول، وعدمية ثقافية تجاه الآخر، كما يكشف عن الممارسة الإقصائية التي تلفُّ موقف العولمة من الهوية، نتيجة حالة الاضطراب التي تعاني منها هذه اللغة في بنيتها الفكرية ومرجعيتها الأيديولوجية تجاه قانونَي التنوع الثقافي والاختلاف الحضاري.
فغضُّ الطرف عن نواميس التداول الحضاري يحيل على المجتمعات المغـايرة للغـرب؛ فهي – اليوم قبل الغد – مقبلـة على الفنـاء، وآيلـة للـزوال، وأن كل شـيء قـد انتهى، وأن كائنات أخـرى في الانتظار لتحل محلها على هذا الكوكب، فأنصار الهوية اليوم في ألطف نعوت حديث النهايات كائنات ماضوية تفتقر إلى الفاعلية وغير جديرة بمواكبة التحولات العالمية المتسارعة والمتشابكة. لذا وجب استبدالها بأخرى تكون أكثر تجاوباً مع الحداثة السائلة، وأسرع في التحلل من أغلال المقدس وقيود الهوية. فوَفْقَ زعم أيديولوجية النهـايات، فإن «البشرية دفعت – وما تزال – أثماناً باهظة، دماً ودماراً، قهراً وهدراً، من جراء إعلانات الهوية والتشبت بالانتماءات الألفية أو الأسطورية، أكانت الهوية دينية أم قومية، اجتماعية أم سياسية»[1].
ومما يؤسف له، أن الصخب الفكري والجلبة الإعلامية اللذين رافقـا هذا الحديث، قد عملا على تعمية كثير من مثالبه وتناقضاته؛ فاضطرب على إثره قطاع معتبر من المثقفين العرب، وفي المقابل برز (منظرو النهايات) خلاله أشبه بالقياصرة الفاتحين، واتخذت أفكارهم مُسُوحاً من العصمة والقداسة رغم اعتراض هذا الخطاب على المقدس والتقديس جملة وتفصيلاً.
في ساحة الأفكار، ثمة إصرار عولمي على التبشير ببـدايات جديدة يوازيه إمعان في تثبيت أيديولوجية النهايات. هذا الإصرار يتقاسم السلاح نفسه مع عساكر الاستشراق المصوب على مفردات الحضارة العربية والإسلامية؛ فحـديث النهايات مولع بتشويه الآخر ومُصِرٌّ على التفاخر بالعولمة باعتبارها الأنموذج المرجعي والأسمى في العالم! كل ذلك تمهيد لاستبدال أنموذج معولم يحاكي الغرب ويتماهى مع نظرته للإنسان والكون ويتوحد معه في رفضه للماورائيات والمُغَيَّبَات بهذا الآخر، ومن أجل ذلك يتدثر هذا الحديث في عالم المطارحات الفكرية بلبوس العلمية ورداء التثاقف؛ في حين أنه يمثل أحد التعابير الخفية لليبرالية المتوحشة، وشكلاً آخر من أشكال الإكراه الأيديولوجي المنافح عن النظرة الغربية القائمة على أساس تفوق الرجل الغربي على من سواه… ولئن كانت الرغبة في الزعامة والتطلع إلى التفوق على الآخر في مضمار التسابق الحضاري أمراً مستساغاً وشأناً مقبولاً، إلا أن (النهايات) لا تقارب هذه الحظوظ والمآرب من الزاوية الفطرية، ولا من الجانب السُنَني لامتلاك زمام القيادة الحضارية، بل إن الهوس الـمَرَضي بالسيطرة على الغير، والسعي وراء تحقيق أمجاد العولمة والتمكين لانتصاراتها وفتوحاتها، والتغافل عن مآزقها الفكرية وأزماتها الأخلاقية، يضع خطاب النهايات ضمن دائرة الجدل السفسطائي، الذي لا تعني حقيقته إلا الأحاديث المليئة بتمويه الحقائق وقلبها، وتشويه الأحوال الصحيحة أو المقبولة.
يحرص حديث النهايات على الترويج لمفاخرالعولمة ومناقبها، والتأكيد على نزاهتها من معايب الهـوية ونقائص الخصوصية، عبر وسيلتين:
الأولى: التفريخ المتزايد للمراكز الأكاديمية والبحثية للتبشير بزمن الحداثة السائلة، وإغراق عالم الأفكار بأطاريح عن مثالية العولمة وحاجة الجميع إليها وإلى التعولم.
والثانية: تطويع مختلف آليات الإعلام وتقنيات التواصل بين يدي حـديث النهايات؛ لإشاعة مثالية العولمة ومحاسنها الإنسانية… فمنطق (المثالية) يبرز متجذراً في ثنايا هذا الحديث أثناء تفكيكه؛ إذ يستحيل الفصل بينهما البتة؛ فالمثالية المحتفى بها في أيديولوجية فرانسيس فوكوياما وعلي حرب وغيرهما؛ لا تعني في هذا المقام الدلالة الفلسفية كما يراها أفلاطون وكانط وهيغل وغيرهم، القائمة على العقل أساساً للمعرفة، خلافاً للفلسفة المادية ذات المنزع الحسي؛ بل المراد هنا الوصف المرتبط بكلِّ ما هو كامل في بابه وجدير أن يقتدى به. لكن هل في الإمكان الحديث عن مثالية عولمية بالمعنى الأخير في خضم الإكراه الأيديولوجي والعدوان الرمزي الممارسَين على المفردات الحضارية الممانعة للغرب؟
إن أول ما يعترض دعوى (مثالية العولمة)، التناقض الذي يطبع حديث النهايات؛ فحيناً يرفع هذا الأخير شعارات من قبيل: حقوق الإنسان، والتعايش السلمي بين الدول والاحترام المتبادل، وحوار الحضارات… لكن في الغالب من الأحايين لا يفتر عن استدعاء منطق الإقصاء بغية التهجير القسري للثقـافات المحلية من مجالاتها التاريخية نحو المجهول، وتوطين الثقافة الغربية بديلاً عنها. أما الإسهامات النقدية والمراجعات الأيديولوجية التي تستهدف مشاريع العولمة وما يدور في فلكها؛ فمآلهما: إما التطويق وإما الإبعاد.
أما ثاني الاعتراضات، فكامن في مرواحة نظرة حديث النهايات إلى الدين بين التسليع والتهجين، بين التشييء والمسخ؛ مسخٍ يتشكل عبر عملية مزاوجة مِلِّيَّة بين اليهودية والنصرانية والإسلام لاستيلاد ديانة كونية هجينة تنصهر عبر تعاليمها الخصوصياتُ العقائديةُ وتتوحد من خلاله الشرائع المتباينة، بل جمع حتى تلك المتناقضة منها؛ فتمتزج بذلك دقات جرس الكنيسة ببوق الكنيس مع أذان المسجد، فيما يبدو إعلاناً عن إقام ما يُنعَت في التداول العولمي بالصلاة الإبراهيمية.
وفي زاوية أخرى مقابلة لزاوية التهجين، تتم عملية إعادة تصنيع الدين في مختبرات البحث الإستراتيجي الأمريكي بأدوات السياسة والاقتصاد والفن والإعلام، يتم ذلك على نحو تشيئي. لكن مع ذلك فأمثال هذه التجارب عبر تاريخ الإنسانية قد أبانت عن قليل من النجاح وفي بيئات محـدودة، إلا أنها باءت بالفشل في فضاءات حضارية أخرى، وهـذا النجاح النسبي لا ينم بتاتاً عن المقـدرة الهائلة للعـولمة في إخضاع الدين للمنطق المادي والسلعي، بل عائد بالدرجة الأولى إلى طبيعة الديانة التي تكون قابليتها للتشييء مركوزة في نصوصها الدينية وتفسيراتها اللاهوتية كما هو الحاصل في اليهودية والنصرانية، أما الإسلام وقد مرَّ على وجوده أكثر من أربعة عشر قرناً، وتعرض عبر تاريخه الطويل لهجمات قاسية، لكن رغم ذلك لم ينل تحريف الغالين ولا انتحال المبطلين ولا تأويل الجاهلين شيئاً من إلهية النص الديني وقدسيته، ولا من قيمه وإنسانيته.
تجزم مقررات علم الأنتروبولوجيا خصوصاً في القسم المرتبط بتاريخ الحضارات، بأن استهلال السقوط الحضاري يبدأ لحظة الاعتلال بالأمراض الاجتماعية والأخلاقية، فيتشكل عقبَه ما يطلق عليه: الاستبدال أو الاستخلاف أو التداول.
وللتحقيق، فالسقوط الحضاري لا يعني وقوع صدمة حضارية، ولا يقتضي بالضرورة تحولاً من الشهود إلى العدمية، ولا انسلاخاً عن البزوغ والإشراق إلى التجلبب بلباس التلاشي والأفول عن ساحة الوقائع والأحداث مرة واحدة. بمعنى آخر: التداول الحضاري ليس بالضرورة قطيعة مفاجئة بين حضارة قد نالت منها أدواء الترهل وأمراض الشيخوخة، وبين حضارة بديلة تخرج على عَجَل إلى ساحة الشهود الحضاري.
فابستمولوجيا القطيعة في خطاب النهايات تبدو غير متمكنة من وقائع التاريخ ولا من فلسفته، ولربما تتغاضى عن نواميس الاستخلاف والاستبدال؛ فالقطيعة التي يبشر بها هذا الخطاب في الواقع هي قطيعة متوهمة؛ فهل يصح – مثلاً – أن ننظر إلى العلمانية والعولمة والحداثة وما بعد الحداثة بمعزل عن إسهامات الفكر اليوناني في سيرورتها التاريخية بدءاً من التقعيد إلى الاكتمال؟ ألا يجدر بنا حين نتحدث عن العلوم والمعارف والقيم الإنسانية المتداولة في الفضاء الغربي أَن نعترف بمساهمات الحضارة الإسلامية في هذا الشأن؟ وهب أن الفكر الغربي اليوم قد استنفد أغراضه من اللاهوت الكنيسي ونبوءات التوراة اليهودية، وقطع حاضره عن نصوص الكتاب المقدس ولاهوت بولس… ليس صحيحاً أن يكون من وراء الترويج لمنطق القطيعة هو استهداف الفكر الغربي بقدر ما أن المبتغى من ذلك كله عزل الآخر عن هويته الدينية وفصله عن محيطه الاجتماعي والثقافي، وفي الغالب من الأحوال فهذا الآخر ليس إلا إنسان الحضارة العربية والإسلامية.
[1] علي حرب، حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، طبعة 2000، ص21.
(المصدر: مجلة البيان)