مقالاتمقالات مختارة

الليبرالي السعودي والدين

بقلم إبراهيم بن محمد الحقيل – مركز تأصيل للدراسات والبحوث

الليبرالي الغربي قاده الفكر إلى الشهوة؛ فالانغماس في الشهوات عند الغربي كان نتيجة لفكرة الحرية. أما الليبرالي السعودي فقادته الشهوة إلى الفكر، بمعنى أنه منحرف ووجد في فكرة الحرية ما يسند انحرافه؛ ولذا كان حادًا في معاداته للدين.

أكتب هذه المقالة بعد أن قامت ليبرالية سعودية متطرفة بشتم الله تعالى حين شبهت صوت مغن بصوته، تعالى الله عن قولها علوًا كبيرًا، وعاملها بما تستحق هي ومن رضي ذلك أو دافع عنه.
 
وأنا أجزم أن المقصود من هذه التغريدة القذرة استفزاز المجتمع السعودي في أقدس شيء يؤمن به، وهو الله سبحانه وتعالى، ومحاولة تحطيم المقدس في قلوب الناس. وهو الهدف الأكبر لأكثر هذه الحماقات الليبرالية، ولمن يحركون هؤلاء الإعلاميين من وراء الستار، ويدفعون لهم أموالا على هذه الحماقات.
 
والأصل أن الليبرالية في فكرتها تقف من الدين والمتدينين موقفا محايدا؛ لأن الدين في الفكر الليبرالي يدخل ضمن حرية الفكر والرأي، والحرية هي عماد الليبرالية، وهو ما تنص عليه المادتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والليبرالي الغربي يطبق هذا المبدأ في الجملة؛ فالملحد الغربي ليس له خصومة مع صاحب الكنيسة مع أن صاحب الكنيسة يكفره ويصمه بالهرطقة -أي الخروج عن التعاليم الكنسية- ويحكم عليه بالنار، ويعلن ذلك على رؤوس الملأ لا يخشى شيئًا؛ لأنه يرى أنه من حقه أن يبدي رأيه فيما يشاء ويدين بما يشاء.
 
لكن الليبرالي العربي عامة -والسعودي خاصة- يعيش أزمة حادة، وانفصاما فكريا أدى إلى انفصام في الشخصية؛ فهو يعيش بجسده في بيئة لها موروث ديني وثقافي وتكوين اجتماعي يباين الغرب، بينما فكره وعقله تسيطر عليه أفكار الغرب؛ وفي حين أن الليبرالي الغربي لا يهمه أن يوصم بالهرطقة فإن الليبرالي السعودي يغضب إن وصف بالكفر أو النفاق أو الردة أو حتى الفسق، ويدوس بقدميه ما يؤمن به من حرية الفكر والرأي التي تمنح الشخص المقابل أن يعتقد فيه ما يشاء، ويبدي اعتقاده دون خوف ولا تحفظ. حينئذ ينقلب الليبرالي السعودي إلى سلفي متشدد، وواعظ متشنج، يستدعي نصوص التكفير، ويسوقها ضد من وصم قوله بالكفر أو الردة أو النفاق، فهو يريد أن يكفر ولا يوصم بالكفر، ويريد أن يرتد ولا يوصف بالمرتد، ويريد أن يلحد ولا يطلق عليه ملحد.. يا للتناقض.
 
وأعظم من ذلك تجد أن كثيرا من الليبراليين الغربيين أرقى في تعاملهم وتناولهم لقضايا ما سمي بالإرهاب، وأكثر شفافية ومصداقية من الليبراليين السعوديين الذي تقطر أحرفهم أحقادا زرقا يتمنون أن يحتلبوا بها دماء من لم يوافقهم.
 
ودائما ما يحرج الليبرالي السعودي من يحمونه ويمكنون له في الإعلام باستفزازاته المتكررة، ويقصد أي شيء ينفس فيه عما في قلبه تجاه الدين وأهله، سواء في حوارات فضائية أو برامج مخصوصة أو مسلسلات هازلة، هذا غير الكم الهائل من المقالات الصحفية التي تتندر بالإسلام وأهله، وأجزم أن ما يكتب في الصحافة السعودية من الاستعداء على الإسلام وأهله، ومسخ شريعته، والطعن في حملتها أكثر كثافة، وأشد حدة مما يكتب في الصحافة الغربية.
 
وإذا كان الليبرالي الغربي يعيش حالة توافق في الجملة مع الديني المتعصب للكنيسة ومبادئها فإن الليبرالي السعودي يعيش حالة من العداء الهستيري للدين وأهله تجعله مكيافليا أكثر من مكيافلي نفسه في اعتقاد أن الوسيلة تسوغ الغاية، وتطبيق ذلك حرفيا بكل التزام، وليس بين عينية إلا الطعن في الدين وأهله، والاعتداء على كل مقدس عند المسلمين بالشتيمة، والحط عليه، والسخرية منه، والافتراء على حملته وترويج الأكاذيب المكشوفة التي تجاوز المجتمع تصديقها. فلماذا لم يأخذ الليبرالي السعودي من الليبرالي الغربي قبول الديني ولو طعن فيه، وأجرى عليه حكم دينه الذي يعتقده؟!
 
بمعنى: لماذا يعيش الليبرالي السعودي حالة عداء مع الدين وأهله، بينما الليبرالي الغربي لا يعيش هذه الحالة الهستيرية التي يعيشها الليبرالي السعودي؟
 
يبدو لي أن ذلك يرجع إلى أسباب أهمها اثنان:
 
السبب الأول: أن الليبرالي الغربي قاده الفكر إلى الشهوة؛ فالانغماس في الشهوات عند الغربي كان نتيجة لفكرة الحرية. أما الليبرالي السعودي فقادته الشهوة إلى الفكر، بمعنى أنه منحرف ووجد في فكرة الحرية ما يسند انحرافه؛ ولذا كان حادًا في معاداته للدين.
 
ولو قدر أن الليبراليين الغربيين قيدوا -من باب المصلحة- الحرية الشخصية فمنعوا الزنا والخمور، وقضوا على الفساد في أوربا، مع بقاء النظام السياسي ديمقراطيا، وفيه تداول للسلطة؛ لسخط الليبراليون السعوديون على الغرب وتقييده للحرية. ولو عاد نظام السلطة في الغرب استبداديا كما كان لكن بقيت فيه الفواحش والخمور لرضي الليبراليون السعوديون عن الغرب في استبداده ما دام منحلا، بدليل أن الليبراليين السعوديين كانوا يحتفون بنظامي ابن علي وحسني مبارك الاستئصاليين الاستبداديين؛ لأنهما نظامان شرّعا للفساد الأخلاقي رغم ممارستهما للاستبداد السياسي؛ فالليبرالي السعودي لا يحرك فكره إلا ما بين رجليه.
 
ومن أدلة ذلك أيضا: أن في مجتمعنا ممارسات فيها ظلم للمرأة في شتى المجلات: كعضلها عن الزواج، ومنعها من حقها في الإرث، وتعليقها، وحرمانها من أولادها، وعدم إعطاء المطلقة حقوقها، وتدني الاهتمام بالأرامل، ونحو ذلك. ولكن كل هذه المشكلات العميقة الأليمة التي تعاني منها المرأة المسكينة لا يلقي الليبرالي السعودي له بالاً، ولا تحظى بأي اهتمام منه، وينحصر اهتمامه في الشهوات فقط: الاختلاط، والسينما، والرياضة النسائية، والسفور، والتبرج، وإخراج المرأة، أي: كل ما له تعلق بالشهوات.
 
فالليبرالي الغربي لما كان الفسق والفجور أثراً من آثار الحرية التي ارتضاها وقع فيه لكنه ليس أساس مطلبه، وإنما أساس مطلبه الديمقراطية والقضاء على الاستبداد، والشفافية في محاسبة المسئول؛ ولذا تكثر الاستقالات والفضائح والمحاكمات لمسئولين غربيين، ولا يرضى الليبرالي الغربي بالاستبداد السياسي؛ لأنه قضيته التي ناضل من أجلها.
 
وحيث إن قضية الليبرالي السعودي هي الشهوة فقط؛ فإنه يعيش في كنف من هم في العرف الليبرالي مستبدون، ويدعوهم لاستبداد أكثر مع خصومه، ويشرعن للاستبداد في صحيفته أو فضائيته أو موقعه الألكتروني.
 
فالليبرالي الغربي مفكر قاده الفكر إلى الشهوانية، والليبرالي السعودي شهواني يدعي أنه مفكر!
 
السبب الثاني: أن من ركبوا الموجة الليبرالية من السعوديين على نوعين في أغلبهم:
 
النوع الأول: فلول الماركسيين والبعثيين والقوميين، وهؤلاء يحملون من الحقد على الإسلام أضعاف ما يحمله غيرهم بسبب أن الضربة القاضية لفردوس الفكر الاشتراكي ودولته الحاضنة كان على أيدي المجاهدين الأفغان ومن عاونهم من المسلمين؛ إذ تفكك الاتحاد السوفيتي عقب انسحابه من أفغانستان، فتفرق أيتامه العرب على اتجاهات شتى؛ فمنهم من آب إلى رشده، وتاب من فساد فكره، ومنهم من اعتزل عالم الأفكار وأقبل على دنياه، ومنهم من انتقل من الاشتراكية إلى الليبرالية، وانتظم جنديا ملتزما في صفوفها، وعبدا لقادتها، وسادنا في معبدها، وهو بالأمس يشتم الإمبريالية فصار يسوق لها. وهؤلاء من أشد الناس حقدا على الإسلام، وهم أكثر من ينعت الإسلاميين بالأوصاف المنفرة.
 
النوع الثاني: الناكصون على أعقابهم، وهم ممن كانوا يوما من الأيام ينتظمون في سلك أهل الدعوة والاستقامة، ثم انحرفوا عنها إلى الليبرالية، وهؤلاء عداوتهم للإسلام ودعاته شديدة جدا، بسبب أنهم يريدون إثبات أن منهجهم الجديد الذي اختاروه خيرا من القديم، ويظنون أنهم كلما ازدادوا حقدا على المنهج القديم وطعنوا فيه رأوا أنهم أقنعوا من يعرفون سابقتهم أن اختيارهم كان صحيحا.
 
بمعنى أنهم يعيشون عقدة الماضي المضيء المملوء بالابتلاءات والحرمان من شهوات الدنيا، في مقابل الحاضر المظلم الغارق في المتعة والشهوات، فيستميتون طاعنين في المنهج القديم لإثبات أنه ظلامي وأن الجديد تنويري؛ ولذا يكثر في مقالاتهم ومقولاتهم استخدام ظلامي وتنويري، والظلامية والتنوير.. فالعقد النفسية لا تفارقهم ولا سيما مع إحساسهم بالغربة في مجتمعهم وذويهم وأسرهم.
 
ويكفي لكسرهم تذكيرهم بماضيهم، وهذا النوع في الغالب يعزف عن مجتمعه، فإن استطاع الهجرة هاجر فلا يطل على الناس إلا من خلال الشاشة والصحيفة، وإلا انبت عن مجتمعه، وقطع علاقاته بقرابته ومجتمعه، وانزوى في خربته مع رفقاء فكره يعب من شهواته، ويتقمص عيشة الغربي وهو لا يحمل فكره على وجه الحقيقة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى