الليبراليون العرب وحفلات الكراهية
بقلم وسام الكبيسي
يكتب أحدنا مقالة فتتناوشه السهام، أوُيطلق تغريدة فتطارده الصيحات، أو ربما يحدث أن تعبر عن رأيك في موضوع يتعّلق بتركيا أو تتصّدى لأخبار مزّيفة يأنس بعضهم ويبتهج بترويجها، فتجد نفسك في أتون معركة ذخيرتها من العبارات المدببة والمفردات الحادة المارقة من الذوق والخلق، الخالية من الحّس السوّي.
الكذب والتزييف والتلفيق والافتراء، والهمز واللمز والنبز والوخز… وأضف ما شئت، عند أمثال هؤلاء بات هو القاعدة وما سواه هو الاستثناء، فواحدهم لا يستحي من فعله، حتى ولو بان كذب ادعائه أو تلفيق دليله أو بطلان عبارته، بل قد يزداد عنادا ومكابرة، وربما لجأ إلى الاستطالة في عرض المقابل وشخصنة الموقف للهروب من النقاش أو حرفه عن مساره الطبيعي، حتى ليخيل إليك وأنت تتعب نفسك في جلب أدلتك وتوثيق دعاواك، أن تقليب النظر في الدليل والوصول إلى الحقيقة التي هي مقصد كل باحث أو صاحب مروءة والتبين قبل إطلاق الأحكام، هي آخر ما يفكر أو يهتم به هذا الصنف من البشر.
يغلب على هؤلاء طابع الفكر الليبرالي، والهوس بتقليد الفكر والسلوك الغربي، أو هكذا هم يصورون أنفسهم أو يزعمون على الأقل، لأن الليبراليين العرب لا يشابهون الليبراليين في الغرب ولا يشتركون معهم إلا في الاسم، فمع ما قد يطرح من مآخذ على الليبرالية عموما – وليس هنا محل نقاشها – فإن أصحاب النزعة الليبرالية في الغرب مثل جان لوك وآدم سميث وجيرمي بينثام وغيرهم قد وضعوا قواعد جوهرها يقوم على العقد الاجتماعي، وحرية الفرد في الفكر والسلوك ما دام لا ينقض هذا العقد ولا يناقضه.
تعرف الليبرالية بأنها مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.. ويقوم مرتكز الليبرالية على مبدأ الاستقلالية للأفراد والمجتمعات والدول، وبمعنى أدق : التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي او الداخلي، سواء كان دولة أم جماعة أم فردا… والانطلاق نحو تكريس الحريات بكل صورها المادية والمعنوية ضمن عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، تتفق عليه الاغلبية ولا يخرج عنه أحد من أفراد المجتمع. للزيادة: انظر [الموسوعة السياسية: ج5[.
هنا يظهر الليبراليون العرب وهم واقعون في تناقض غريب، فهم ليبراليون في المظهر والتنظير، ولكنهم راديكاليون أشد ما تكون الراديكالية في الجوهر والتطبيق، حيث يمارسون مع الآخر كل ما يناقض الحرية الشخصية التي هي أس النظرية الليبرالية، من إقصاء وازدراء وتكميم للأفواه ومصادرة للآراء وعدم قبول للمخالف حتى وإن تنازل وقبِل التعاطي معهم عبر نفس الآليات والوسائل والأدوات التي هم أوجدوها ونادوا بها! إذ يبدو أن الأمر الوحيد المقبول عندهم هو أن يحمل الآخر فكرهم أو يكون تابعا لهم.
هذا لا يعني أن الآخر (في مقابل الليبراليين) ملاك لا يعتريه الخطأ أو النقص، ولكن فارق كبير بين أن نقبل الآخر ونتطارح معه الحوار في مساحة الفكر، والبحث عن المشتركات في مساحة الفعل والسلوك، وبين أن نرفض الآخر لمجرد أنه لا يتوافق مع ما نحمله من منظومات قيم وأفكار.
ما دفعني إلى ذكر كل ما ذكرت أعلاه هو ما عايشته خلال اليومين الماضيين على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد قادني حوار عبر “تويتر” مع أحد المغردين العرب إلى تغريدة أنزلها هذا التغريدات على المغرد ليستشهد بها على صحة ما يطرح من رأي، وهي تغريدة لشخص آخر فحواها أن إحدى الشركات التركية قد تعاقدت مع وزارة الخارجية الأمريكية على تجهيز السفارة الأمريكية التي يتم بناؤها في القدس بمنظومة أمنية معقدة ومتطورة.
بالتحري الذي قمت به عن الموضوع تبين أن الشركة التركية غير معنية بالعقد الذي أبرمته شركة أمريكية مقرها في ولاية مريلاند، كانت قد تحالفت مع الشركة التركية خلال الأعوام الماضية لتنفيذ بعض العقود والمشاريع في العراق، ولكن الشركة التركية رفضت رفضا قاطعا الدخول في ذلك العقد، وقد يكون قرارها نابعا من مبادئها، أو بناء على تخوفها من رفض وسخط شعبي في مجتمعها – حيث تمثل قضية القدس والأقصى قضية حساسة ومتأصلة في وجدان الشعب التركي على العموم – وذلك أمر عرف به الشعب التركي حتى في أشد حالات تحوله نحو العلمانية الفاقعة.
لم تكتف الشركة التركية بإبلاغ حليفتها في الولايات المتحدة عن عدم رغبتها بالاشتراك في تنفيذ العقد، بل أصدرت بيانا في هذا الشأن أوضحت فيه موقفها من العقد بوضوح، وأرسلت بيان النفي إلى وسائل الإعلام التركية التي لم تتردد في نشر الخبر، وقد افترضُت أن من أنزل التغريدة التي تتهم الشركة التركية بالتعاقد مع الخارجية الأمريكية، قد فعل ذلك بحسن نية وغيرة على القدس والأقصى وذلك يحمد له على كل حال، حتى وإن راح يربط سلوك الشركة المفترض بالحزب الحاكم وشخص الرئيس التركي أردوغان مع حزمة منتقاة من عبارات ملؤها السب والطعن، فقد فسرت ذلك بغيرته ورأيت أنها قد تغفر له فعله الخاطئ.
دخلت على الفور وغردت عدة تغريدات متبادلة مع صاحبنا الذي كنت أحاوره، وأنزلت له رابط الخبر من أحد المواقع وفيه اسم الشركة المتعاقدة، كما أنزلت رابط موقع الشركة وفيه يظهر عنوانها وأرقام هواتفها وبريدها الإلكتروني، وأرفقت رابطا لإحدى الصحف التركية التي نقلت بيان النفي الذي مر ذكره، وكنت أظن أن الرجل سينتبه إلى الخطأ الذي وقع فيه، وسيشكرني على هذا التصحيح، ولكنه فاجأني بما لم يدر في خلدي، حيث راح يكيل سيلا من الشتائم لتركيا ولرئيسها وشعبها ولم أسلم شخصيا من لسانه، وعبثا حاولت أن أصده ولكنه حظرني فورا بعد أن صدمته بالحقائق والوثائق التي أظهرت كذب حظرني فورا بعد أن صدمته بالحقائق والوثائق التي أظهرت كذب ادعائه وضعف موقفه.
بعد ذلك أوصلني البحث إلى أن أصل التغريدة التي اعتمد عليها الليبرالي العربي تعود إلى حساب لشخص يهودي! ذكرها بصيغة لا يجعلها تصلح لتكون مصدرا يعتد به أو يعتمد أو يبنى عليه، ولكن هذا أخذها وطار بها لغايات في نفسه بانت بعد ذلك من خلال ردوده المتشنجة وعباراته الجارحة البذيئة.
لا يبدو الأمر هنا حادثا فرديا، خصوصا وأنا أرى نفس المعلومة تنتقل في نفس الوقت وتتبنى نفس السيناريو وبنفس الألفاظ والعبارات والأسلوب الهجومي التسقيطي البذيء، ولكن اللافت للنظر كان هو حجم الكراهية التي يبثونها ضد الإسلاميين عموما معتبرين كل من لا يوافقهم في ما يطرحونه عدوا ويلصقون به “تهمة” باتت جاهزة وتقوم على شيطنة فصيل من الفصائل التي تؤمن بالمرجعية الإسلامية وتتخذها منطلقا لها، وهم الإخوان المسلمون.
بمجرد أن تدخل لتعقب على تغريدة من هذا النوع بتغريدة مضادة تجد عشرات الأشخاص ينتمون لأكثر من دولة! يردون عليك في نفس الوقت، وجلهم يمارس أسلوبا منظما وألفاظا سوقية يترفع عنها السوي ويشمئز منها ذو الذوق السليم، وهم في ذلك يؤسسون لحالة من الكراهية يراد لها أن تتأصل داخل وبين شعوب منطقتنا العربية – الإسلامية، وأن تحدث شروخا في النسيج الاجتماعي والتوافق الوجداني الذي تتأسس على مشتركات كثيرة من المبادئ والقيم والتقاليد والتأريخ المشترك خلال قرون طويلة من الزمن.
لقد مرت المجتمعات الغربية في بدايات القرن المنصرم بشيء قريب من هذا الذي نعيشه اليوم، ولكنهم تغلبوا عليه عبر الحوار والبحث عن المشتركات وتعظيمها، والاتفاق على قواعد مشتركة يلتزم بها الجميع ويتحرك تحت سقفها القانوني والقيمي، ولذلك حل التواصل بدل التدابر، والتحاور والتشاور والتزاور بدل التناحر، والتكامل بد بدل التدابر، والتحاور والتشاور والتزاور بدل التناحر، والتكامل بدل التآكل، وكنا نمني النفس أن يكون الليبراليون العرب بنفس درجة انفتاح أقرانهم الغربيين على مخالفيهم، ولكنهم للأسف جاؤونا بقشور الليبرالية فقط، كالغراب الذي صبغ ريشه ليشابه الهدهد، وهيهات له ذلك.
الغريب في شأن الليبراليين العرب هؤلاء أنهم عاشوا عهودا كانت فيها تركيا متخلفة مدينة فلم نسمع منهم كل هذا الكم من التخذيل والطعن في التجربة، وعاشوا عهودا كانت فيها تركيا تحت حكم العسكر والاستبداد فلم نر منهم كل هذه الحفلة من الكراهية والسب واللمز، وعاشوا عقودا كانت فيها تركيا داخلة في علمانية متوحشة لم تراع تدين الشعب التركي ولا قيمه الراسخه! ولكننا لم نسمع تباكيهم على الدين والمقدسات ومحاربة المنكرات الذي نسمعه اليوم بالذات بينما تركيا تستعيد هويتها وعافيتها الحضارية وذاكرتها الثقافية، وتبني نموذجها الجديد القائم على التعددية والانفتاح وتنمية الإنسان واحترام حقوقه وكرامته!
إنهم يشعرونك وأنت تسمعهم يتحدثون، وكأن الرئيس أردوغان وحزبه هم الذين سلموا القدس لليهود، أو أنهم هم الذين باشروا العلاقات السياسية التي كانت مقطوعة قبل مجيئهم مع تل أبيب، مع أن أي مراقب منصف يعرف أن تركيا اليوم تبدو في حالة صعود استراتيجي، وتظهر أقوى من أي وقت مضى وفي جميع المجالات، وتمارس حالة واضحة من الندية مع القوى الإقليمية والدولية، وكل ذلك يمكن أن أوجدت البيئة أن يكون رصيدا تستفيد منه دول المنطقة وشعوبها متى تحين المناسبة، ووضعت قواعد ناظمة للتوافق والتكامل بين دول المنطقة، عبر الكثير من التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، والقليل من الأيديولوجيا، في أحرج مرحلة، تحمل غيومها العديد من المهددات الخارجية والداخلية لدول المنطقة وشعوبها، وهي فرصة يمكن أن تضيع في وسط ضجيج الكراهية الذي يمارسه الليبراليون العرب الجدد ويعينهم عليه بعض العلمانيين، وتساعدهم – للأمانة – ردات فعل غير موزونة ولا محسوبة من قبل بعض العرب ذوي التوجهات الإسلامية.
نحتاج هنا أن نتوقف قليلا ونسأل: هل الليبراليون العرب معنيون فعلا بقضية الأقصى والقدس الشريف وحقوق الشعب الفلسطيني، والحريات المدنية والدينية، وغير ذلك، أم هي مجرد شعارات يطرحونها ليشوشوا على الوضع المسكون بالتشويش أصلا في المنطقة؟!
وما مدى توافق انتقادهم مثلا لانتشار محلات الرقص أو تعاطي الخمور أو اللباس غير المحتشم للنساء في شوارع تركيا – وهي عبارات طالما رددوها وملؤوا وسائل التواصل الاجتماعي بها – مع القيم الليبرالية التي تقوم على احترام حرية الفرد؟ أو بالأحرى السؤال هنا ما مدى التناقض الذي يبدو جليا؟ ولماذا لم يظهر تباكيهم يوم كانت المحجبة التركية ممنوعة من العمل في الوظيفة والدراسة في الجامعة وُينظر لها باحتقار وازدراء؟
هكذا يظهر الليبراليون العرب الجدد وهم متناقضون وليس لهم نسق فكري وقيمي ولا توجه سلوكي واحد، وسبب ذلك أنهم لا ينزعون في مجمل تصرفهم إلى تحقيق وجودهم والمناداة بمبادئهم ومنافسة الآخرين ببرامجهم وخططهم، بل تراهم يحشدون همهم وجهدهم قي هدم الآخر ومحاولة إفشال نموذجه وبرامجه ولو على حساب دولهم وشعوبهم! وهم يتشابهون من هذه الناحية مع بعض الأحزاب التركية التي لم تقدم برامج واضحة في الانتخابات الفائتة، ولسان حالهم كان يقول؛ ليسقط أردوغان وحزبه أولا ثم يكون لكل حادث حديث، وهي نفس العقلية التي كانت عليها تركيا قبل أن يمسك أردوغان وحزبه دفة الحكم وينهض بتركيا في كل المجالات.
بل هكذا يظهر الليبراليون العرب الجدد وهم ناقمون على العلماء والمحدثين والفقهاء والأصوليين، وعلى قيم الأمة التي يسمونها (التقاليد البالية)، وعلى المجتمعات العربية الإسلامية وبالأخص الأكثر حيوية وقابلية للنهوض من بينها، وعلى تأريخ الأمة في كل مراحله الأموية والعباسية والعثمانية على وجه الخصوص، لما تمثله من إسقاطات يتخيلونها عند الاستدعاء والربط مع الحكومة التركية وحزبها الحاكم حاليا، وتزداد تعجبا هنا حين تراهم يتجنبون أو يقللون من شأن حزبها الحاكم حاليا، وتزداد تعجبا هنا حين تراهم يتجنبون أو يقللون نقد العصر الجاهلي عند العرب قبل الإسلام!.
الأغرب هنا أن يشارك في حملة الكراهية هذه بعض “الإسلاِمبراليين” الجدد وهم فئات بات الجميع يعرفهم، وهم بدورهم واقعون تحت حملة من الكراهية والإقصاء والتسقيط، قد تكون أخطر من سابقتها لكونها تتسلح بنصوص واستدلالات ذات أبعاد دينية، وأيضا تحت تناقضات غريبة قد نتناولها يوما في مقال آخر، ولكن حسبنا أن نذكر اليوم أحد تناقضاتهم، حيث يحرمون الخروج على السيسي وأمثاله من المتسلطين بقوة الجيش أو سطوة القبيلة، ولكنهم ينادون بالخروج على الحكام الذين جاؤوا إلى قصور الرئاسة عبر إرادة شعبية لا تشوبها شائبة واحدة. ولله في خلقه شؤون.
(المصدر: ترك برس)