اللغة المفقودة.. عن كتاب “البديل المشروع”
بقلم مصعب الأحرار
بينما أمارسُ شغفي في تتبع سير الحضارة الإسلامية ويشغل ذاتي مستقبلُ الربيعِ العربي الذي مثّل في نفسي نقطة تحوّل جذري؛ بل جاء الربيع العربي وأنا في بداية تشكلي الثقافي والفكري فكأنما ولدتُ مع الربيع، فلما جاءت الثورات بهذا الحِراك كنت أبلغ من العمرِ سبعةً عشر عاماً؛ كنت اتتبع سير الربيع خطوة بخطوة وأحداثه المتتالية والمتسارعة جداً؛ تكشفت لي في خلال هذه الفترة موازين ضخمة في سير الشعوب وبنيتها وتركيبتها وموقعنا من العالم؛ ليس موقعنا الجيوسياسي ولا الجغرافي فحسب بل موقعنا الثقافي والفكري أيضاً ومقدار بعدنا وقربنا عن عوامل النهضة التي رسمها النص القرآني بصورة زاهية تشكل معالم الرشد وخمائر البناء لكل حضارة أصيلة ذات طابع خُلودي.
بينما أنا في ظل هذا التسارع من الأحداث الجسام وتسابق الأقلام إذ جَعلت هذه الثورات من شعوبنا كتّاباً ومدونين واشعلت ركام الفكر والمراجعات وهذا ما لم يلاحظه من لا يرى في الربيع غير الدم القاني الذي سال من الشهداء أو ذلك الركام المنهار من الإسمنت؛ فمن أعظم ما أنجزته ثورات الربيع رغم طول صدامها والفوضى التي افرزتها معاندة المستبدين؛ أنها بعثت الأقلام واستثارت الفكر وأشعلت جذوة النظر في سير الأمةِ وماضيها ومستقبلها وتفتيش بنيتها الاجتماعية لإصلاح عميق جذريٍ قادم. فبدأ المفكرون والساسة والإعلاميين والمثقفين في تدافع ثري وهذا الصقل هو الذي سيرسي هذه الأمة للرشد بإذن الله.
ومن هنا فإن الساحة الفكرية ظلت بؤرة تدبُّ بالنشاط واستقبلت الشعوب كما هائلاً من الكتب مع بداية الربيع مباشرة من مفكري الأمة ونخبتها؛ بيد أنني اريد الحديث عن كتاب جديد أصدره الدكتور علاء الدين آل رشي وهو مفكرٌ سوري وباحث في الشأن الفكري والسياسي وله رؤية جميلة تمزج بين الدين في أصوله القيمية وبين ما توصلت له التجربة البشرية في شرعةِ حقوق الإنسان ويرى أنها تلتحمُ مع الدين رغم بشريتها بيد أن الدين خالد راسخ وطيد بتربة البشر. فقد كتب آل رشي هذا الكتاب موجهاً لكل من النخب والعوامِ على حد سواء؛ والكتاب بعنوان “البديل المشروع.. أحمد معاذ الخطيب بين الديني والسياسي والوطني”، وهو يعرض رؤية الأستاذ الخطيب وفكره الذي اختلط بالإنسان والقرآن ودمج الوحي بالواقع برؤيةٍ اعتدالية وسطيّة رفيعة.
نحاول في مقالين أن نعرض ملامح حول هذا الكتاب الثري المهم الذي سيكون رصيداً وإضافة حقيقية لثورات الربيع ومستقبل الشعوب والذي سيسهم بشكل كبير في تكوين خميرة الوعي التي افتقدتها الثورات طوال مسيرتها وكما عبّر عن ذلك الدكتور الشنقيطي بقوله: “من غيرِ خميرةٍ فكرية وأخلاقية ناضجة لا تنجح الثورة أصلا؛ بل تتحوّل إلى حرب عدميّة؛ وإن هي نجحت في معركةِ الهدم فإنها تفشلُ في معركة البناء”.
فالكتاب مهم لعدة أسباب:
1- أنه عرض أحداث الثورة الأكثر تعقيداً وتشابكاً في ثورات الربيع (الثورة السورية)، فهي الثورة التي اجتمعت فيها خيوط السياسة السورية والعربية والدولية وخرائط الاقتصاد وتقاطعات المذاهب من سنة وشيعة وتشابك الأعراق من عرب وكرد ودروز وآشوريين وغيرهم من مكونات الشعب السوري العظيم.
2- أنه كتاب ذو طابع وسطي معتدل فلا هو للتطرف الديني ولا هو للتطرف العلماني ولا هو للتعصب الوطني؛ فقد مزج فيه الدكتور علاء بموقع كل من هذه المسميات في خارطةِ البشر.
3- الكتاب يقطع الطريق على تيارات التطرف الديني التي تستميت في الغلو ويقطع الطريق على مافيا السياسة العلمانية المتزمتة التي لا ترى من القوى الإسلامية إلا مجموعة من الرجعيين فلا ترى البعد الديني الإنساني العميق المكنون في ذات التيارات نفسها.
4- الكتاب وضّح أنه لا زال وسيظل في الأمة من يحمل أنموذجاً صالحاً يحتذى في الفكر والوطنية والدين والسياسة كما تمثّل ذلك في الأستاذ احمد معاذ الخطيب الذي جعله الكاتب نموذجاً وقائدا للفكرة التي دار حولها الكتاب.
5- كما تكمن اهمية جزء ضخم من الكتاب في أنه إضافة للساحة الفكرية في الشرق الأوسط للغته المفقودة إلا عند القليل من النخب الإسلامية كانت أو العلمانية؛ فلغته هادئة تمزج بين الواقعية في تناول الأحداث وبين المثال الأخلاقي الذي نادى به الوحي.
يقول الدكتور علاء في تصديره للكتاب أنه يكتبه وفي مخيلته ثلاث أصناف:
“العلمانيون السوريون فقد رأيت عند الكثيرين منهم أحكاماً جائرةً فيما يتعلق بالدين ودوره ومبالغات كبيرة في تحميل الإسلاميين المأساة؛ بل وتملص العلمانيين من أي مسؤولية مع أنهم شركاء في كل ما حصل”.
“الإسلاميون السوريون والذين على الرغم من بسالتهم وشهامتهم إلا أنهم وقعوا في مطبات ولعل في سيرة ومسيرة الخطيب استعادة للرشاد فهو منهم وإن تفوّق عليهم”.
“المواطن السوري الذي فقد الثقة والأمل في كل شيء بسبب طول المأساة؛ واهتزاز الزعامات وشيوع هدر الكرامات، فلعلة في مرافقة هذه الصفحات يتحقق له شيء من الارتواء والسكينة لروحه، وعقله وقضيته، ولعله يتمكن من التعرف على نموذج من نماذج كثيرة لمن صدق مع الله ومع الناس – وآل رشي يعني نموذج الأستاذ الخطيب في تمثله وتجليه في السياسي والديني والوطني “.
ويمتاز الكتاب بلغته المعتدلة التي فُقدت في ظل الاحتقان؛ فالمستبدين قد اجتهدوا في تحويل الربيع العربي لبركان مشحون بالدماء ليحرفوا الثوار عن مسارهم الحقيقي؛ وقد غزى المستبدين اللغة الإيدلوجية الحادة وبثوا سمومها في جميع أطياف وألوان المكونات وحاولوا بوسعهم كله أن يواروا لغة العدل والاعتدال والتراحم لكن هيهات للحق أن يموت؛ فهذا الكتاب وغيره يمثل جهداً ثرياً في تعزيز لغة الربيع المفقودة طوال السنوات التي خلت؛ وإن كان الكتاب عن الأستاذ معاذ الخطيب إلا أنه اتخذ من الخطيب نموذجاً من نماذج متعددة لها شأن في الأمة؛ والكتاب يحاول جاهداً أن يبرز دور هؤلاء الزعماء من قادة الأمة الذين لم يعطوا حقهم فالنخب الواعية هي التي تقود الشعوب لبر الأمان بعد أمان الله ورعايته.
وفي ظلال هذه المعاني نطوف ونجتهد في لملمة الأفكار النهضوية وأسسها وبنيتها التي قامت عليها فكرة الكتاب محاولين تحفيز كل مهتم بشأن نهضة الأمة ان يطلع على الكتاب وعلى غيره من الكتب التي في مثل لغته التركيبية بين الديني والوطني والسياسي؛ وفي الحلقة الثانية إن شاء الله نتحدث عن منطلقات السياسي والديني والوطني في الكتاب وكيف تناولها آل رشي متمثلةً في نموذج الأستاذ الخطيب.
(المصدر: مدونات الجزيرة)