اللحظات الأخيرة في حياة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة أظلم في المدينة كل شيء بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى الرسالة وبلغ الدين كما أمره ربه وجاهد في الله حق الجهاد؛{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، توفي نبينا محمد ﷺ في هذا التاريخ في يوم الاثنين تحديداً بعد أن عانى مع المرض لأيام، وكان هذا الخبر هو المصيبة الكبرى لدى المسلمين، حتى ما استطاع كثيرٌ من الصحابة أن يقف على قدميه وبعضهم كذب الخبر من أصله، فبموت الرسول ﷺ قد انقطع خبر السماء، الذي خرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم وقد عرفوا به حقيقة الحياة الدنيا وحقيقة وجودهم فعاشوا لغاياتهم العظمى وأهدافهم السامية مستهدين بما أرشدهم إليه معلمهم الأول سيدنا محمد ﷺ.
سنذكر في هذا المقال اللحظات الأخيرة في حياة النبي ﷺ وكيف تلقى الصحابة خبر موت النبي ﷺ ونورد الأخبار والأحاديث في ذلك، ونذكر وقع هذه الفاجعة بالنسبة للمسلمين وما ترتب عليها من أمور.
1 – كان أبو بكرٍ يصلِّي بالمسلمين؛ حتَّى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوفٌ في صلاة الفجر، كشف النَّبيُّ(ﷺ) سِتْرَ الحجرة، ينظر إلى المسلمين، وهم وقوفٌ أمام ربِّهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته، وجهاده، وكيف نشأت أمَّةٌ تحافظ على الصَّلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيِّها وغيبته، وقد قرَّت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النَّجاح الَّذي لم يُقَدَّر لنبيٍّ، أو داعٍ قبله، واطمأنَّ أنَّ صلة هذه الأمَّة بهذا الدِّين، وعبادة الله تعالى صلةٌ دائمةٌ، لا تقطعها وفاة نبيِّها، فملئ من السُّرور ما الله به عليم، واستنار وجهه؛ وهو منيرٌ. (السِّيرة النَّبويَّة، للنَّدوي ، ص 401)
يقول الصَّحابة رضي الله عنهم: كشف النَّبيُّ(ﷺ) سِتْرَ حجرة عائشة ينظر إلينا؛ وهو قائمٌ، كأنَّ وجهه ورقةُ مصحفٍ، ثمَّ تبسَّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظنَّنا أنَّ النَّبيَّ(ﷺ) خارجٌ إلى الصَّلاة، فأشار إلينا أن أتمُّوا صلاتكم، ودخل الحجرة، وأرخى السِّتْر. [البخاري (4448)]. وانصرف بعض الصَّحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكرٍ على ابنته عائشة، وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة – إحدى زوجتيه، وكانت تسكن بالسُّنح- فركب على فرسه، وذهب إلى منزله. (السِّيرة النَّبويَّة ، أبو شهبة، (2/593).
2 – في الرَّفيق الأعلى:
واشتدَّت سكرات الموت بالنَّبيِّ(ﷺ) ، ودخل عليه أسامة بن زيد؛ وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السَّماء، ثم يضعها على أسامة، فعرف أنَّه يدعو له، وأخذت السَّيدة عائشة رسول الله، وأوسدته إلى صدرها بين سَحْرها، ونحرها، فدخل عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وبيده سواكٌ، فجعل رسولُ الله (ﷺ) ينظر إليه، فقالت عائشة: اخذه لك؟ فأشار برأسه: أنْ نعم، فأخذته من أخيها، ثمَّ مضغته، وليَّنته، وناولته إيَّاه، فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكلُّ ذلك وهو لا ينفكُّ عن قوله: «في الرَّفيق الأعلى» [البخاري (4437)، ومسلم (2444/87)].
وكان(ﷺ) يُدخل يده في رَكوة ماءٍ، أو علبةٍ فيها ماءٌ، فيمسح بها وجهه، ويقول: «لا إله إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ!» ثمَّ نصب يده، فجعل يقول: «في الرَّفيق الأعلى» حتَّى قُبِضَ، ومالت يده. [البخاري (4449].
وفي لفظ: أنَّ النَّبيَّ(ﷺ) كان يقول: «اللّهُمَّ! أعنِّي على سكرات الموت». [أحمد (6/64)، والترمذي (978)، وابن ماجه (1623)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (1093)].
وفي روايةٍ: أنَّ عائشة رضي الله عنها سمعت النَّبيَّ(ﷺ) ، وأصغت إليه قبل أن يموت؛ وهو مُسْنِدٌ إلى ظَهْره يقول: «اللّهُمَّ! اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى!». [البخاري (4440)، ومسلم (2444/85)].
وقد ورد: أنَّ فاطمة رضي الله عنها قالت: واكرب أباه! فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فلـمَّا مات؛ قالت: يا أبتاه! أجاب ربّاً دعاه. يا أبتاه! من جنَّة الفردوس مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. فلـمَّا دُفِن(ﷺ) قالت لأنسٍ: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله(ﷺ) التُّراب؟! [البخاري (4462)].
3 – كيف فارق رسول الله(ﷺ) الدُّنيا؟
فارق رسول الله(ﷺ) الدُّنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبُه ملوك الدُّنيا، ويَفْديه أصحابُه بنفوسهم، وأولادهم، وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمةً، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقةً. [البخاري (4461)]. وتُوفِّي(ﷺ) ؛ ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعير. (السِّيرة النَّبويَّة ، للنَّدوي ، ص 403)
وكان ذلك يوم الإثنين 12 ربيع الأوَّل سنة 11 للهجرة بعد الزَّوال، وله(ﷺ) ثلاثٌ وستون سنَّة [البخاري (3902 و3903)، ومسلم (2351)]، وكان أشدَّ الأيام سواداً، ووحشةً، ومصاباً على المسلمين، ومحنةً كبرى للبشريَّة، كما كان يومُ ولادَته أسعدَ يومٍ طلعت فيه الشَّمْس.
يقول أنسٌ رضي الله عنه: كان اليوم الَّذي قدم فيه رسول الله(ﷺ) المدينة أضاء منها كلُّ شيءٍ،فلـمَّا كان اليوم الَّذي مات فيه أظلم منها كلُّ شيءٍ. [أحمد (3/221)، والترمذي (3618)، وابن ماجه (1631)]، وبكت أمُّ أيمن فقيل لها: ما يبكيك على النَّبيِّ(ﷺ) ؟ قالت: إنِّي قد علمت: أنَّ رسول الله(ﷺ) سيموت، ولكنْ إنَّما أبكي على الوحي الَّذي رُفِع عنَّا. [مسلم (2454)، وابن ماجه (1635)].
4 – هول الفاجعة، وموقف أبي بكرٍ منها:
قال ابن رجب: ولـمَّا تُوفي رسولُ الله(ﷺ) اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهِشَ، فخولط، ومنهم مَنْ أُقْعِد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقل لسانُه، فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موتـه بالكلِّيَّة. (لطائف المعارف، ص 114)
قال القرطبيُّ مبيِّناً عظم هذه المصيبة، وما ترتَّب عليها من أمور:
من أعظم المصائب: المصيبةُ في الدِّين. قال رسول الله(ﷺ): «إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ؛ فليذكر مصابه بي، فإنَّها أعظم المصائب» [الطبراني في الكبير (6718)، والبيهقي في شُعَب الإيمان (10152)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/2)].
وصدق رسولُ الله(ﷺ) ؛ لأنَّ المصيبة به أعظمُ من كلِّ مصيبةٍ يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انقطع الوحي، وماتت النُّبوَّة، وكان أوَّل ظهور الشَّرِّ بارتداد العرب، وغير ذلك، وكان أوَّل انقطاع الخير، وأول نقصانه. (تفسير القرطبيِّ، 2/176)
لقد أذهل نبـأُ الوفاة عمرَ رضي الله عنه، فصار يتوعَّـد، وينـذر مَنْ يزعُم: أنَّ النَّبيَّ(ﷺ) مات، ويقول: ما مات، ولكنَّه ذهب إلى ربِّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً، ثمَّ رجع إليهم. والله! ليرجعنَّ رسولُ الله كما رجع موسى، فليقطِّعنَّ أيدي رجالٍ، وأرجلهم زعموا: أنه مات. (السِّيرة النَّبويَّة ، لأبي شهبة، 2/594).
ولـمَّا سمع أبو بكرٍ الخبر؛ أقبل على فرسٍ من مسكنه بالسُّنْح؛ حتَّى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلِّم النَّاس، حتَّى دخل على عائشة فتيمَّم رسولَ الله(ﷺ) وهو مُغشَّى بثوبٍ حَبرةٍ، فكشف عن وجهـه، ثمَّ أكبَّ عليه، فقبَّله، وبكى، ثمَّ قال: بأبي أنت وأمي! والله! لا يجمع الله عليك موتتين، أمَّا الموتة الَّتي عليك فقد متَّها. [البخاري (4452، 4453)]. وخرج أبو بكرٍ؛ وعمر يتكلَّم، فقال: اجلسْ يا عمر! وهو ماضٍ في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في النَّاس خطيباً بعد أن حمِد الله، وأثنى عليه، قال: أمَّا بعد: فإنَّ مَنْ كان يعبد محمَّداً؛ فإنَّ محمَّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، ثمَّ تلا هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
قال عمر: فو الله! ما إن سمعت أبا بكر تلاها، فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمتُ: أنَّ رسول الله(ﷺ) قد مات. [البخاري (4454)].
قال القرطبيُّ: هذه الآية أدلُّ دليلٍ على شجاعة الصِّدِّيق، وجراءته؛ فإنَّ الشَّجاعة، والجرأة حدُّهما: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النَّبيِّ(ﷺ) ، فظهرت عنده شجاعتُه، وعلمه، قال النَّاس: لم يمت رسول الله(ﷺ) ، منهم عمر، وخرِسَ عثمان، واستخفى عليٌّ، واضطرب الأمر، فكشفه الصِّدِّيق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْح. (تفسير القرطبيِّ، (4/222).
فرحم الله الصِّدِّيق الأكبر! كم من مصيبةٍ درأها عن الأمَّة! وكم من فتنةٍ كان المخرج على يديه! وكم من مشكلةٍ، ومعضلةٍ كشفها بشهب الأدلَّة من القرآن، والسُّنَّة، التي خفيت على مثل عمر رضي الله عنه! فاعرِفوا للصِّدِّيق حقه، واقدروا له قدره، وأحبُّوا حبيب رسول الله(ﷺ)، فحبُّه إيمانٌ، وبغضه نفاقٌ. (مرض النَّبي ووفاته، ص 24).
ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: “السيرة النبوية”، للدكتور علي الصلابي.
المراجع:
- السِّيرة النَّبويَّة لأبي الحسن النَّدويِّ، دار التَّوزيع والنَّشر الإسلاميَّة – القاهرة.
- السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القرآن والسُّنَّة لمحمد أبو شهبة، دار القلم – دمشق، الطَّبعة الثَّالثة، 1417هـ 1996م.
- تفسير القرطبيِّ لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد الأنصاريِّ القرطبيِّ، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت – لبنان، 1965 م.
- مرض النَّبيِّ(ﷺ) ووفاتُه وأثره على الأمَّة لخالد أبو صالح، دار الوطن، الطَّبعة الأولى، 1414هـ.
- السيرة النبوية، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2004م.