مقالاتمقالات مختارة

اللا انتماء.. بين التصوّف والإلحاد

اللا انتماء.. بين التصوّف والإلحاد

بقلم محمد الشافعي

إنْ شرعنا في الحديث عن اللا-انتماء وعن اللامنتمي، فلنْ يسطعَ شمسُ أحدِهم إلّا كولن ولسن، الكاتب، الروائي، والفيلسوف الإنجليزي الشهير، فهو الذي تحدّث عن اللامنتمي بعُمق مُنقطع النظير، إلى أنْ قال النقّاد فيه: أنّ كتابه هذا من أعظمِ كُتبِ التحليل التي صدرتْ في أوروبا منذ كتاب (سُقوط الغرب) لاشبنجلر، وفي هذا المقال، سيكون الطرح طرحاً علميّاً، يحملُ في ثناياه مقارنات بين فلسفة ولسن، وبين لا انتماء المؤمنين مِنّا وعلى رأسهم أهل التصوّف.

أحدْ أهمّ الأسئلة التي طرحها ولسن في كتابِه هو: كيف يَستطيع أنْ يكون الإنسان أقوى، وكيف يَستطيع أنْ يُقلّل من عُبوديته للظُروف؟ وهذا السُؤال كأنّه كانَ الجواب على أمثلتِه اللامنتمية! فقدْ حلّل ولسن أَنفُساً وتعمّق في شخصيّاتٍ على مستوىً عالٍ من اللانتماء ورفضْ للمجتمع، سواءً كانوا فلاسفة أو فنّانين، ولمْ تقتصرْ أمثلته على الملاحدة، بلْ تطرّق أيضاً إلى الوجوديّة المؤلّهة كالفيلسوف الدنماركي كيركغارد، ولعلّه من أقوى الفلاسفة الوجوديين المؤمنين، وحتّى المُلحد في نظره هو مؤمن، ولكنّه مُؤمن بعدم وجود إله أو قوة عليا تُسيطر على الكون، وهذا صحيح اصطلاحاً، فالمُلحد يُعرّف على أنّه الشخص الذي يُؤمن بعدم وجود الله، وليس عدم إيمانه بالله!

سأسلّط الضوء في القسم الأوّل من المقال على نظريّات ولسن وعلى لا انتمائه، وسُأُعلِّق بعدها على كلامه، وسأعرضُ بعدها لا انتمائيّة المؤمن وكيف أنّها تجاوزتْ كلَّ ما قيل هنا، يقول ولسن: (أمّا اللامنتمي فإنّهُ لا يرى العالم معقولاً ولا يراه مُنظّماً، وحينَ يقذفُ بمعانيه الفوضوية في وجه دعّة البرجوازي، فليسَ ذلك لأنّه يشعرُ بالرغبة في قذف معاني الاحترام بإهانة لإثارتها، وإنّما لأنّه يحسُّ بشعورٍ يبعثُ على الكآبة، شعورٌ بأنَّ الحقيقة يجبُ أنْ تُقال مهما كلّفَ الأمر، وإلا فلن يكون الإصلاح مُمكناً)، وقدْ كانَ نيتشه سيد الموقف بالنسبة لولسن وتحديداً في هذه العِبارة، فهو الفيلسوف العدميّ الغارق في الكآبة، والغارق في قانونه المثاليّ، ولعلَّ الرسّام الهولندي فان كوخ قدْ أخذَ نصيبه الوافر من عدمْ معقوليّة هذا العالمْ، ونهايته أقوى دليل على هذا.

أغلب الملاحدة يصلون إلى طريق مسدود غالباً، واعتقادهم هذا يكون مُكابرة وعزّة نفس، ولا انتمائهم يصلُ بهم إلى يأس وإلحاد كما ألبير كامو

ويقول أيضاً: (إنّني مُوقن أنَّ اللامنتمي إذا تعلّمَ ليعرف نفسه، وشدَّ العزم ليسطُره على حياته بدلاً من أنْ ينجرف ورائها لانتهى رائداً في سُلَّم الحضارة بدلاً من أن يكون رافضاً له)، كما هو معروف، فكولن ولسن من الفلاسفة الوجوديين الذين أصّلوا لوجوديّة مُتفائلة، بعيداً عن التشاؤم والانعزال، فهو يُؤمن بأنَّ جميع اللامنتمين، ليسوا إلّا عباقرة ومواهب ضائعة لم تُستغلَّ، فهو يرى أنّهم أساس الحضارة إنْ لم يكونوا على هذا الشكل من الرفض والانعزال، واتّخاذ هذا الموقف منْ العالَم.

يستطرد ولسن في الحديث عن دوستويفسكي، سارتر، همنغوي، والراقص الروسي نجنسكي، ويتعمّق في أفكارهم وتحليلاتهم على اختلافها، يتحدّث عن نجنكسي ورقصه، وكيف أنَّ هذا الفعل هو أحدْ أشكال هروبه من اللا-انتماء المحتوم عليه! ليُجنَّ بعدها وينتحر، وإذا صحَّ القول، فإنَّ الصميم الذي يُريده ولسن، هو إيجاد أو خلقْ حالة من التديّن أو المعنى عندْ هؤلاء القوم اللامنتمين، وهؤلاء وبلا أدنى شكّْ فهم أذكياء عباقرة حاولوا جاهدين الوصول إلى لا انتماء بمعنىً حقيقي يحملْ في جُعبته جدوى وغاية.

منْ هنا سأقفز إلى الشِقِّ الثاني من هذا المقال، ألا وهو تجارب المتصوّفة في اللانتماء، وكيفَ أنّه السبيل الحقّ بعيداً عن جدليات ولسن المُؤرّقة لأدمغة البشر، كنتُ قدْ كتبتُ مقالاً عن الإمام الغزّالي، ولكنْ لمْ أذكرْ فيه حزئيّة معيّنة، وهي عُذره في اعتزال البشر، فقدْ قالَ رحمه الله: عُذري منقوشٌ على الخاتمِ، وقدْ كان نقشُ خاتمِه: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)، تصوّر أهل التصوّف واضح فيما يخصُّ اللا-انتماء، وإنْ تمعّنا في قولِ الغزّالي سنجدُ أنَّ ابتعاده نتيجة فقدْ ثقته في عوام البشر ككل، وأنَّ السواد الأعظم من الفاسقين، وتصديقاً لهذا، نرى قولُ الله جلَّ وعلا: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، هذا أحدْ الجوانب العُزلة التي نراها في الغزّالي.

ثمَّ نرى العالًم ابن الجوزي يقول: (راحةُ النفس في العُزلة)، والأمثلة كثيرة متبوعة بعمالقة، كجلال الدين الرومي، ابن العربي، والحلّاج وإنْ كانَ مثيراً للجدل والخائض فيه سيضطرب ولنْ يستطيع تحديد خطأه منْ صوابه، ولكنْ أرى أنَّ هذا الدرب هو دربُ العارفين بالله، فيقول الحسن البصري عليه رحمةُ الله: (وُلدتُ وحدي وسأموتُ وحدي، فمالي والبشر).

مُشكلة الملاحدة هي عِناد مُطلق، وأتحدّاهم أنْ ينظروا إلى ما طُرح من فلاسفة المُسلمين وعُلمائِهم، ولكنَّ الكُفرَ عِناد، أولمْ يقلْ ربُّ العزّة: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)

وردَ في رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا، قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، آية تُلخّص حياة هذا الإمام المُجاهد، باختصار وعُمق لا يطوله ردّ! رأيي المتواضع في هذا، حتّى بلا انتمائك ستكون شوكةً في حلق السائد! وأظنُّ لو أنَّ ولسن اطّلع على تجارب المتصوّفة في عالمنا الإسلامي لوجدَ ضالّته، فقدْ كان يُحاول ويُكابدْ لإيجاد معنى من لا انتماء كلّ من حللهم في كتابه! ولطالما كانَ هُناك حلقة مفقودة في كلِّ ما قال حينذاك.

اللا-انتماء هو الحلّ في نظري، ولكنْ منْ دون ثابت مُطلق ومسلّم أوحد، ألا وهو الله سيكونُ عبثيّاً، والقارئ الفاحص لجميع هذه التجارب منْ أصحاب الأثر، سيصل للمعنى على رُغمه، فأغلب الملاحدة يصلون إلى طريق مسدود غالباً، واعتقادهم هذا يكون مُكابرة وعزّة نفس، ولا انتمائهم يصلُ بهم إلى يأس وإلحاد كما ألبير كامو، والذي وصفه بيجوفتش بالمُلحد الأقرب إلى الإيمان، وبرتراند رسل ألحدَ بسبب سُؤال (منْ خلقَ الله؟) وتخبّطَ الرجل في مبدأ الغائيّة، والحادِث والمحدَث، وقدْ سقطَ في كلام غاية في السذاجة وعدمْ الفهم.

كما قُلتُ في بداية المقال، هي مُقارنات، والذي قرأ لولسن وغيره، ولم يتعرّضْ لعمالقة التصوّف ومنظّريها، فقد غابَ عنه الكثير، وسيدخل في مُهاترات وهاوية سحيقة! مُشكلة الملاحدة هي عِناد مُطلق، وأتحدّاهم أنْ ينظروا إلى ما طُرح من فلاسفة المُسلمين وعُلمائِهم، ولكنَّ الكُفرَ عِناد، أولمْ يقلْ ربُّ العزّة: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، وما أحوجنا إلى أنْ نتفكّر في هذه الآية، فهي تصفْ كمّ التخبّط الذي يعيشُه ملاحدة هذا الزمان، والسلامُ على منْ اتبّع الهُدى.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى