مقالاتمقالات مختارة

اللادينية.. ردة العصر الكبرى

بقلم د. محمد السباعي – مدونات الجزيرة
شهد التاريخ الإسلامي حوادث ردة عديدة أبرزها وأعنفها تلك التي حدثت في القبائل العربية إثر وفاة سيد المرسلين وخاتم النبيين، الثورة الكبيرة التي وأدها أبو بكر الصديق في مهدها بإيمانه وعزمه الذي ليس له مثيل في التاريخ، ومنها أيضا حركة التنصير التي انتشرت بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، حيث نشطت فيها الإرساليات وحركات التنصير، والتي لعبت فيها محاكم التفتيش الخبيثة دورا كبيرا، ومنها أيضا كذلك قضايا شاذة من ارتداد بعض ضعاف العقول وصغار النفوس من المسلمين عن دينهم في الهند واعتناقهم للبرهمية والآرية، لكنها تبقى حوادث نادرة جدا، وفي حقيقة الأمر أن تاريخ الإسلام لا يعرف الردة العامة -إذا استثنينا إسبانيا البائسة- إذا صح أن نسميها ردة، كما اعترف به مؤرخو الديانات.
وقد اتسمت هذه الحوادث بسمتين، أحدهما المقت الشديد من المسلمين، والآخرى الانفصال عن المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه المرتد، وكانت الردة انتقالا من مجتمع إلى آخر، ومن حياة إلى أخرى، وكانت أسرة المرتد تقاطعه وتهجره تقصيه فلا مصاهرة، ولا زواج، ولا توارث، وعلى إثر هذه الأحداث اجتاحث المجتمع الإسلامي موجة عنيفة من السخط والاستنكار والقلق، وكانت هي الحديث العام والشغل الشاغل للعامة فضلا عن الخاصة من العلماء وأهل الغيرة الدينية. ومع ذلك فحوادث الردة على ندرتها لم تؤثر في الحياة، ولم تنقص من اعتقاد المسلمين مثقال ذرة من إيمان!

لكن في العهود الأخيرة وإبان الغزو الاستعماري للشرق الإسلامي، جرب هذا الأخير ردة عنيفة اكتسحت العالم الإسلامي من المحيط إلى الخليج، نبذت جميع حركات الردة التي سبقتها في العنف والعموم، وفي العمق وفي القوة، ولم يخل منها قطر من الأقطار الإسلامية، وقلما خلا منها بيت من بيوت المسلمين. هي ردة تلت غزو أوروبا للشرق الإسلامي غزوا سياسيا وثقافيا، وهي أعظم ردة ظهرت في عالم الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.

اللادينيون الماديون يعيثون في الجامعات ومختلف المعاهد فسادا وينشرون فكرهم المنحرف الباطل، ويشككون الطلاب في دينهم، ويروجون للشبهات والخرافات والأساطير

ولا بأس أن نورد تعريفا موجزا لماهية الردة في الاصطلاح الإسلامي، حيث عرفها بعضهم: “بأنها إبدال دين بدين، وعقيدة بعقيدة، وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه وثبت بالضرورة من دين الإسلام”.

لقد حملت إلينا أوروبا المادية فلسفات بنيت أساسا على إنكار أسس الدين وثوابته، وإنكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة العظمى التي أخرجت هذا العالم من العدم إلى الوجود وبيدها زمام الكون. من هذه الفلسفات ما تبحث في علم الحياة والنشوة والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة، ومهما اختلفت هذه الفلسفات الباطلة في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعا تلتقي على النظرية المادية المحضة إلى الإنسان وإلى الكون والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما.

لقد غزت هذه الفلسفات العالم الإسلامي وتغلغلت في أحشائه وكانت أعظم ديانة (اللادينية) ظهرت بعد الإسلام في التاريخ، أعظمها انتشارا وأعمقها جذورا وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الإسلامية وزبدتها عقلا وثقافة، ودانت بها كما يدين المسلم بالإسلام والمسيحي بالمسيحية، فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعارها وتجل قادتها ودعاتها وتدعو إليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الأديان والنظم والعقليات، وتؤاخي كل من يدين بها. إنها الديانة اللادينية ديانة الطبقة المثقفة! التي تملك زمام الأمور في البلدان الإسلامية.

هذه الديانة التي قامت على الإلحاد وإنكار فاطر الكون، وإنكار المعاد وحشر الأجساد، ووجود الجنة والنار، والثواب والعقاب، وإنكار كل ما يمت إلى الدين بصلة، فلقد غزت الأسر والبيوت والجامعات والكليات والمعاهد العليا والمدارس والثانويات والمؤسسات بكل أنواعها، فما من أسرة مثقفة – إلا من عصم ربك – إلا وفيها من يدين بهذه الديانة “اللادينية” وإن أبى أصحابها أن يسمونها ديانة، فإن خلوت بهم واستنطقتهم عرفت أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا بالأنبياء ولا بالقرآن الدستور الكوني الخالد، وأفضلهم من يقول إنه لا يفكر بمثل هذه المسائل ولا يهتم بها.

هؤلاء اللادينيون الماديون يعيثون في الجامعات ومختلف المعاهد فسادا وينشرون فكرهم المنحرف الباطل، ويشككون الطلاب في دينهم، ويروجون للشبهات والخرافات والأساطير العجيبة والغريبة التي ورثوها أبا عن جد، واستوردوها من الأسواق الأوروبية المتخلفة التي عاشت في ظلمات بعضها فوق بعض، فلولا النور الإسلامي الذي سطع بالأندلس لبقيت أوروبا في جهلها وظلامها الدامس إلى قيام الساعة.

إنها ردة ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل بالهم، لأن أصحابها لا يدخلون كنيسة ولا معبدا ولا يعلنون ردتهم وانتقالهم من دين إلى دين، ولا تنتبه لهم الأسر فلا تقاطعهم ولا تهجرهم ولا تقصيهم، بل يظلون يعيشون فيها ويتمتعون بكامل حقوقهم، وقد يسيطرون عليها، ولا ينتبه لهم المجتمع فلا يعاتبهم، وإن انتبه لهم اعترضته فئة تتملك زمام الحياة وبيدها الأمر والنهي، فتنصرهم على من يعارضهم ويعاديهم، يظلون يعيشون في هذا المجتمع وقد يسيطرون عليه.

وأجد نفسي أتساءل.. عن هؤلاء الماديين الذين يعيشون في أرض الله ويأكلون من رزقه، وأصبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وكرمهم وحملهم في البر والبحر، بعدما أوجدهم من العدم كيف ينكرون ويجحدون خالقا بهذه العظمة ويؤمنون بالمادة؟ عن أي مادة تتحدثون؟ إنها قضية العالم الإسلامي الكبرى اليوم، إنها مشكلة الأمة الإسلامية العظمى، ردة تنتشر وتغزو المجتمع الإسلامي بهذا الشكل ثم لا ينتبه لها أحد، ولا يفزع لها علماء الدين إلا من رحم الله! أفيقوا من غفلتكم فإما نكون أو لا نكون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى