إعداد أحمد الظرافي
الاستعمار الغربي والأقليات
إن العلاقة التحالفية بين القوى الاستعمارية الصليبية والأقليات الطائفية والدينية في المشرق الإسلامي، وخاصة بلاد الشام، ترجع إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وهي الفترة التي شهدت بداية الحراك والنهوض في أوساط هذه الأقليات مثل الموارنة والدروز والنصيريين، وخاصة هذه الأخيرة، بعد أن ظلت غارقة في سباتها وجهلها وتخلفها لقرون عديدة في معاقلها المنيعة على المنحدرات الغربية للجبال الساحلية في سوريا، والتي عرفت تاريخيا باسم جبال البهرة، ثم جبال النصيريين.
وقد جاءت هذه العلاقة في إطار المؤامرة الصليبية الكبرى على دولة الخلافة العثمانية، التي كان ذكر اسمها يبث الرعب في قلوب الأوروبيين، وخاصة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وذلك بغية نخرها من الداخل، جنبا إلى جنب مع العدوان عليها من الخارج.
ثم تطورت تلك العلاقة تطورا خطيرا في أوائل القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، واتفاقية سايكس بيكو السرية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا لاقتسام بلدان المشرق الإسلامي، ثم صدور وعد بلفور عام 1917 المشئوم بأن تكون فلسطين وطن قومي لليهود.
وذلك أن الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم الانجليز، والذين خططوا لإقامة الكيان الصهيوني، وزرعه في فلسطين، وقلب بلاد الإسلام، حرصوا، بالتنسيق مع الحركة الصهيونية العالمية، حليفتهم في تلك الحرب، على أن يكون هذا الكيان الصهيوني الدخيل، محاطا بفسيفساء من الأقليات الطائفية والدينية، لضمان الحياة والاستمرارية لهذا الكيان الغريب، والوافد، بل وليكون له مركز الصدارة في المنطقة، عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
وفي غضون ذلك تبادل الحلفاء الأدوار، في دعم تلك الأقليات فدخل الانجليز، على خط دعم الدروز والشيعة، ودخل الفرنسيون على خط دعم الموارنة والنصيريين، وعمل كل منهما، على استقطاب تلك الأقليات وإنزالها من معاقلها الجبلية، وتنظيمها، وتشجيعها على الانخراط في الحياة السياسية، تحت راية المستعمر، ومن ثم الاعتماد عليها، في إدارة البلاد، بغية تأهيلها، لكي تحل محله بعد رحيله، لدرجة أن تسمية النصيريين بــ (العلويين) صدر الأمر بتعميمها بقرار رسمي من قبل المندوب السامي الفرنسي، في بيروت عام 1920.
ولقد قام الفرنسيون في بداية فترة احتلالهم لسوريا عام 1920 بتقسيم سوريا إلى دويلات متعددة على أساس طائفي ومناطقي، ومن تلك الدويلات دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين المستقلة، ودولة الموارنة (لبنان الكبير)، ودولة جبل الدروز.
ولعل أوجز وأبلغ كلام حول اهتمام المستعمرين بالأقليات ما جاء في مذكرات رئيس وزراء فرنسا السابق جورج كليمنصو حيث قال: (لقد كان أصدقاؤنا الانكليز أسبق منا إلى التنبه إلى موضوع الأقليات المذهبية والعرقية في بلاد المشرق العربي، وقد اتفقت وجهتا نظرنا كليا حول هذا الموضوع).
وكذلك فإن المستشرق الانجليزي الشهير فليبي، قد أعلنها بكل صراحة ووضوح عندما صرّح في منتصف القرن الماضي بأن سياسة الغرب في المشرق العربي بعد تقويض الخلافة العثمانية، هدفها سحق الشارع السني، وتقويض المؤسسات السنية، واستبدال الزعامات السنية، بزعامات جديدة من الأقليات، والعمل على دعم هذه الأقليات والتي “قد تتطور مع الزمن وتؤدي إلى قيام دويلات دينية سياسية متعددة وقادرة على أن تضمن مصالح الغرب من جهة وتبرر قيام دولة إسرائيل على الأسس الدينية العنصرية المعروفة من جهة أخرى”
كيف ينظر الزعماء الصهاينة للأقليات؟!
والمهم أن هذا العامل، كان من أهم العوامل التي أدت إلى بروز الأقليات الطائفية والدينية، في بلاد الشام، كالموارنة، والدروز، والنصيريين، والشيعة الأثنى عشرية، وبالمقابل تراجع دور أهل السنة، وهم الأغلبية الساحقة في هذه البلاد، ولقد كان ذلك يسير جنبا إلى جانب مع هجرة اليهود إلى فلسطين من روسيا وبلدان شرق أوروبا وبعض البلدان العربية، والتمكين لهم في أرض أولى القبلتين.
وبعد أن مكن الغرب والشرق لليهود لإقامة دولتهم الموعودة على أرض فلسطين، استغل اليهود فرق الأقليات هذه، أحسن استغلال، وحققت إسرائيل من خلالهم، ولا تزال، نتائج غاية في الأهمية، وكانت ضرباتها للأمة من خلالهم، موجعة وفي الصميم.
ولهذا فقد أوصى بن غوريون، مؤسس الدولة الصهيونية عام 1948، حكام آل صهيون قبل رحيله بالاهتمام بمسألة الأقليات فقال: (إن إسرائيل لن تكون بأمان، ولن تكون قوة إقليمية عظمى ما لم تكن محاطة بفسيفساء من الدويلات الطائفية والعرقية). ولأن بن جوريون يعتبر بمثابة نبي عند الصهاينة، فإن زعماء الصهاينة سائرون على هذه السياسة، أي الاستفادة من وجود الأقليات، والعمل على دعمها والتمكين لها في المنطقة المحيطة، لما يترتب على ذلك من إضعاف للأمة ومن شق لصفوفها.
يقول المجرم أرييل شارون في مذكراته، ص 583-584 ،ط1، 1992م، ترجمة أنطوان عبيد / مكتبة بيـسان ـ بيروت: (توسعنا في كلامنا عن علاقات المسيحيين بسائر الطوائف الأخرى لاسيما الشيعة والدروز، شخصياً طلبت منهم توثيق الروابط مع هاتين الأقليتين حتى إنني اقترحت إعطاء قسم من الأسلحة التي منحتها إسرائيل ولو كبادرة رمزية إلى الشيعة الذين يعانون هم أيضا مشاكل خطيرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومن دون الدخول في أي تفاصيل لم أرَ يوماً في الشيعة أعداء لإسرائيل على المدى البعيد).
وأما صحيفة (الجروزاليم بوست) فقد قالت في عددها الصادر بتاريخ 23/5/1985: (إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.. إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت قد حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة).
وهذا فعلا ما حدث عام 2000، حيث انسحبت منها وسلمتها إلى حزب الله، الذي خرج من رحم حركة أمل بتوافق صهيوني إيراني، حيث تم تسليحه بالسلاح الذي استولى عليه الجيش الصهيوني، من مخازن منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان عام 1982.
ويقول الباحث الأمريكي المتخصص في شئون الشرق الأوسط، روبرت دريفوس، صاحب كتاب” لعبة الشيطان ” في مقابلة مع مجلة الوطن العربي 10/3/2006:
(إسرائيل ترى الأقليات حلفاء لها مثل الموارنة والدروز والعلويين.. وأن الشيعة لم يكونوا يؤمنون بالقضية العربية بل كانوا يهتمون بقضايا أخرى، كما يشير إلى أن هناك دراسات عديدة في مراكز الأبحاث توصي بالتعامل مع الإسلاميين الشيعة لأنه يمكن الوثوق بهم على خلاف الإسلاميين السنة، بل يدعو باحثون مثل ريشارد بيرل ودانييل بليتكام لقيام جمهورية شيعية في المنطقة).
ومن أعظم المتحمسين لهذه السياسة بنيامين نتن ياهو، رئيس الحكومة الصهيونية، في الوقت الحاضر، وهو ليس سياسيا فحسب، إنما يعتبر أيضا منظرا كبيرا، وخبيرا متخصصا في شئون الحرب على الإسلام، وله كتب عديدة في هذا المجال، وهو أكبر المنافحين على بقاء نظام بعث النصيرية في سوريا، لكونه كنز استراتيجي للدولة الصهيونية اللقيطة. وهو عرّاب السياسة الأمريكية الحالية تجاه نظام الآيات الكهنوتي في طهران، والتي تقوم على “العداء وتبادل التهديدات في الظاهر، وعقد الصفقات والمؤامرات ضد البلدان الإسلامية في الباطن”.
(المصدر: مجلة البيان)