الكهف والدجّال
بقلم د. محمد فتحي الشوك
قراءة سورة الكهف أو جزء منها يوم الجمعة، سنّة حميدة دأب عليها المسلمون منذ فجر الإسلام، اتباعًا لسنّة خير الخلق واتقاء لفتنة الدجّال، فهل نحن في عصر الدجّال؟ وما خصوصية هذه السّورة لتقينا من فتنته والفتن بصفة عامّة؟
عديدة هي الأحاديث النّبوية المتعلّقة بفضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة نذكر من بينها:
1- «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق» «رواه أبو سعيد الخدري».
2- «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» «رواه الحاكم والبيهقي».
3- «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال» «أخرجه مسلم وأحمد وأبو داوود والترمذي والنّسائي عن أبي الدرداء».
4- «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال» «أخرجه أحمد والنسائي ومسلم وابن حيّان عن أبي الدرداء».
هي إذا دعوة لقراءة سورة الكهف أو جزء منها ليلة الجمعة ويومها قصد التّنوير واتّقاء لفتنة الدجّال. هي دعوة للقراءة وتكرار لأوّل أمر ربّاني نزل قبل أوامر العبادات والطّاعات وهي دعوة عامّة لا تستثني أحدًا.
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)».
هي أمر للإنسان المميّز بعقله بالقراءة الموضوعية «اقرأ كما يريد ربّك لا كما تريد نفسك» لكتاب اللّه المنظور «التأمل والملاحظة في الخلق»، وكذلك المكتوب «القلم» بما يمكّن من الاكتساب ثمّ الفهم والتحصيل ونموّ مجاله المعرفي. «ورد لفظ العقل بمشتقاته في القرءان 49 مرة، وبالعدد نفسه ورد لفظ النّور»، والقراءة وظيفة عقلية عليا وسامية ليست مجرد التعرّف على الرّموز المرسومة وتحويلها إلى أصوات مسموعة، بل هي فهم المضمون وإدراك المقصود وأثر تتركه الكلمات في ذهن القارئ، تتجلّى أفكارًا وتبرز سلوكًا.
هي قراءة إيجابية منتجة مثمرة يتمّ فيها النقل بالعقل وتنتج فكرًا.
والسؤال هنا هل نقرأ كما أمرنا اللّه الذي حدّد كيفيتها ونوعها بحيث تكون للّه بالّله؟
أمّا عن سورة الكهف التي ينصح بقراءتها يوم الجمعة فلها فضائل عدّة ومعاني متعدّدة؛ فهي سورة مكّية عدد آياتها 110، ترتيبها في المصحف 18 «بعد سورة الإسراء»، عدد كلماتها 1583، وعدد حروفها 6425، وهي التي تتضمّن الكلمة التي تتوسط كل كلمات القرءان الكريم، وعددها 77439، وهي كلمة «وليتلطّف»، الواردة في الآية 19 من السورة، وهو بالأهمية بمكان باعتبار أن للقرآن بعدًا هيكليًّا وهندسيًّا، والكهف زيادة على معناه المباشر في كونه بيتًالكهف ا «منقورًا في الجبل» ملجأ ومنجى، فهو شكل هندسي هيكل له محور ومركز تنطلق منه أبعاد المكان والزمان.
وقد تضمّنت سورة الكهف أربع قصص رئيسية لها رسالاتها الخاصة وبينها ارتباطات منطقية:
1- قصة أصحاب الكهف:
دون الخوض في العدّة والمدّة التي لها معاني وأسرار عدّة في حلّها نجاة للأمة، هي دعوة للعامة ممن وحّد وخاف على إيمانه «فتنة الدين» أن يتوقّف عن الدوران، ويبحث عن ملجأ يقيه العاصفة وشرّ ما تجيء به الرّياح «زمن الفتن الهالكة»، هي استكانة وتناغم مع الفطرة وتجنّب استهلاك النّفس في صراعات عبثية ومحاولة لإيجاد وضعية توازن نفسي، بالتركيز على الذات، وهي استراحة وإراحة للشّعور وتوكّل حقيقي في اللّاشعور، هي دعوة لإصلاح الذّوات، التّصالح مع الفطرة، وزرع للآمال في إمكانية التّغيير، والمفتاح في الإيمان والتوجّه والإخلاص والتوكّل والثّقة في العليّ القدير، وهي عمليات فكرية وسلوكية وإصلاحات نفس جسدية لا تعني التّواكل واللامبالاة والاستقالة من المسؤولية، أو القطيعة مع الواقع والعزلة والهروب، بل هي تهيّؤ واستعداد للحظة الصّحوة والميلاد، والمطلوب تنقية النّفوس وخصوصًا الباطن «اللاشعور»، وهي عامّة مطالب بها أيّ كان.
2- قصة الرجلين والجنتين «فتنة المال والمعاملات»:
وفيها مقارنة سلوكية وممارسة عملية للتوكّل الحقّ والتوحيد والثقة في المعبود، إيمان وعمل ونتيجة محسوسة من جنس العمل «العمل والتحفيز بالمكافأة»، والمطلوب هنا تنقية الظّاهر، وهي كذلك عامّة مطالب بها أيّ كان.
3- قصة سيدنا موسى «عليه السلام» مع الرّجل الصّالح «الخضر عليه السّلام» أو فتنة العلم:
من تلقّى الألواح وظنّ باكتمال علمه «الشريعة» انطلق في رحلة معرفيّة أثبتت له أن لا علم إلا ما علّمتنا، وأن الشريعة لا تعني الحقيقة، كما أنهما يترافدان بينهما برزخ لا يبغيان، إذ غُييب السؤال أهمّ أداة في المعرفة المنطقية، مع عدم فهم العلاقة السببية وصار العلم أمرًا وملكًا.
والمطلوب هنا التواضع وعدم التسرّع في الأحكام، والإقرار بأن المعرفة غير قابلة للحصر، وأن لكل شيء حقيقته.
4- قصة ذي القرنين «فتنة السلطة»:
دون التعمّق في المغزى الخفي والاستنتاجات الاستشرافية، كانت رحلة في الوجود الحسي التجريبي، حيث يتجلى اتباع السّببية والعلاقات الجدلية، فيها جهد واجتهاد، واتخاذ الأسباب، واستنتاجات منطقية، ومكافآت حسّية، والمطلوب هنا اتّخاذ الأسباب مع الاحتساب واحترام القوانين الطّبيعية.
ولعلّ ما يجمع بين هذه القصص الأربعة هي عنصر الفتنة، والّتي تدرّجت من الدين إلى المال إلى العلم ثمّ السلطة، وهي الأبواب الّتي سيشتغل عليها الدجّال الّذي طالما حذّرنا منه الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- وهي فتن لن تستثني أحدًا، عامّة وخاصّة، وظاهرة، وباطنة.
ولعل مجرد عرض لما نعيشه حاليًّا من سفك دماء المسلمين، وهتك أعراضهم على أيدي بعضهم بعضًا، وتعاظم الفتن التي صارت كقطع اللّيل المظلم، يؤكّد لكلّ ذي عقل وبصيرة أننا في الجوّ العامّ المهيأ لبروز الدجّال للعيان والعوامّ الباحثين عن البراهين الحسّية؛ فالأعور أيضًا من يرى بعين واحدة، من يطفّف في الميزان، ومن يكيل بمكيالين، ومن يمارس الإيحاء وسحر العيون، من يزيّف الحقائق ويضلّل ويكذب ويتنفس كذبًا، ويمارس الدجل مستعملًا في ذلك جميع الأساليب و«الفنون» «من منتجات العصر التكنولوجي». ومن يصنّف من اتّبعه بالأخيار ومن خالفه بالأشرار، واعدًا من ولاه بجنّة، ومتوعّدًا من عاداه بالنّار، والأمثلة على ذلك متعددة وما أكثر الدجّالين في عصرنا .
والاتقاء والوقاية من هذا «السحر» والفتن لا يتمّ إلا باتباع ما سبق واستيعابه، وليست مجرّد تلاوة لا تتعدّى الحناجر أو حرز أو كلمات مطلسمة، وفي الختام ندعو اللّه أن يقينا شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.