الكماليّون والأزمة الثّقافيّة في تركيا
بقلم د. مصطفى الستيتي
إن “الثّورة” الشّاملة التي شَرع في تنفيذها الكماليّون في تركيا في عشرينات القرن الماضي أحدثت دويًّا هائلاً في كلّ مكان، لا في العالم الإسلامي فحسب بل في الغرب كذلك. فهو انتقال جذريّ بالشّعب التّركي وبالثّقافة التركيّة من واقعٍ إلى واقع جديد تمامًا لم يألفه من قبل. وكانت الإجراءات المتّخذة متأثرة بشدّة بالحضارة الغربيّة، بل ربّما تجاوزتها في أحيان كثيرة. ومن المهمّ هنا أن نسلّط الضّوء على ردود الفعل لدى المثقّفين في ألمانيا، ذلك أنّ ألمانيا تَحالفت معها “الخلافةُ العُثمانيّة” التي أقدم مصطفى كمال على إلغائها وتشتيت شمل أنصارها ومنتسبيها. فما هي المآخذ التي أخذها المثقّفون الألمان على طبيعة الإصلاحات الثّقافيّة في تركيا الجديدة؟ وما هي تحذيراتهم من مآلاتها؟ وما هو طريق الحلّ حسب رأيهم؟
من حسن الحظ أنّ بعض الصّحف العربيّة التي كانت تصدر في فلسطين تناولت بشيءٍ من التّفصيل ما كان يحدث في تركيا من تغيّرات على المستوى السّياسي والاجتماعي والثّقافي في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. ومن بين الصّحف التي كانت تتميز بالثّراء والعمق في معاجلة القضايا صحيفة “الجامعة العربيّة”التي يشرف عليها ويُديرها منيف الحُسيني. فقد أوردت هذه الصّحيفة في عددين منفصلين من أعدادها هما العدد رقم 108 الصادر بتاريخ 13 فبراير سنة 1928م ، والعدد رقم 110 الصادر بتاريخ 20 فبراير سنة 1928م جردًا لمواقف بعض المثقّفين الألمان وآرائهم بخصوص ما أقدم عليه الكماليّون من إجراءات عميقة وجذريّة. وتأتي أهميّة ما أوردته الصّحيفة من كونه يُسجّل مواقف قريبة جدًّا من النّاحية الزّمنية من الأحداث الكُبرى التي وقعت في تركيا في تلك الفترة مثل إلغاء الخِلافة، ومنع لبس العمامة لدى الرّجال، وحظر الحِجاب على النّساء، وتغيير الحُروف العربية وإحلال الحروف اللاّتينيّة في مكانها، وإغلاق المدارس الدّينية وتحويل بعضها إلى متاحف، ومطاردة المعارضين وإعدامهم أو سجنهم…
تغيير قائم على الإكراه
لم تكن مواقف المثقّفين في الغرب كلّها متّفقة مع ما يحدث في تركيا من تغييرات علمانيّة راديكاليّة، فهناك منصفون يُدركون طبيعة المخاطر التي سوف تلحق بالإنسان التّركي جرّاء هذه التّغييرات المفاجئة والسّريعة وغير المراعية لسُنّة التّدّرج. وفي هذا الصّدد أوردت جريدة “الجامعة العربيّة” ما قاله الدّكتور ماكس فِيشر في جريدة “الدويتشه الجيماينة تسايتونغ” التي تصدر في برلين من أنّ النّهضة الفكريّة في تركيا تختلف اِختلافًا كلّيّا عن النّهضة الفكريّة الأوروبيّة، فإنّ النّهضة التركيّة هي عبارة عن جملة من التطوّرات التي تعاقَبت في نموّها قرونًا عديدةً، ومرّت بمراحل كثيرة. ويعتقد الدّكتور فِيشَرْ أن ما يقوم به الأتراك الكماليّون في تلك اللّحظة من عملٍ وتجديدٍ هو في حقيقة الأمر بضاعةٌ مجهّزة مُستوردة من مصانع أوروبّا، ويُراد لها أن تُغرس في المجتمع التّركي بالقُوّة والإكراه، ولهذا فإنّ الشّعب التّركي جابهها بالرّفض ولم يكن قادراً على هضم عناصر هذه التّغييرات بسرعة.
ويتساءل الكاتب عن طبيعة العقيدة التي تحرّك هؤلاء “الثّوريّين” السّائرين في نهج الثّقافة الأوروبيّة “حتّى أصبحوا لا يشعُرون بالأزمة الرّوحيّة التي يتخبّط فيها شعبهم”، ويقدم مثالاً على فشل هذه السّياسة التي أشاعت روحًا من الإحباط بين المثقّفين فانتشرت حالات كثيرة من الانتحار بينهم وهو ما “يتُثبت بوضوح ما هو مصير شعبٍ متديّنٍ يَسعون في حشوه بأتفه بقايا الأنانيّة والنّفعيّة”.
محاربة الجوانب الرّوحيّة
دأب الشّعب التّركي طوال قرون على العيش في جوّ من التّدين والرّوحانية، ونزع ُهذا العنصر من حياته يدفعُ به إلى الفراغ والإحباط. فالتديّن كامنٌ في الطّبيعة البشريّة، وهو جزء أصيلٌ فيها. ومن الواضح أنّ العلمانيّة الكمالية تأثّرت بالمذهب الشّيوعي الذي يُلغي الدّين من حياة الفرد والمجتمع ويعتبره أفيونًا ومخدّرًا للشّعوب على حدّ تعبير كارل ماركس (1818-1883م).
وفي هذا السّياق قالت جريدة “هانوفريشه كوربة” بتاريخ 23 أغسطس سنة 1927 إنّ كاتبةً تركيّة تُدعى سعاد درويش نشرت في مجلّة “ثروت فنون” مقالةً تتضمّن أنّ “الدّينَ مضرّ كدُخان الأفيون، وأنّ مخافة الله هي أنانيّةٌ غير صحيحةٍ يقوم بها الإنسان لينجّي نفسه من النّار. أمّا الأنبياء فهم أناسٌ جاؤوا للنّاس بأتمّ الأكاذيب”. فالكاتبة نزَعت عن الدّين ما فيه من إيجابيّات ونسبت إليه كلّ نقيصةٍ، فهو أفيونٌ وتعبيرٌ عن الأنانيّة، كما اتّهمت الأنبياء بالكَذب. وقد سمحت المجلّة بنشر مثل هذا الكلام، وهو ما يَعني أنّ ثمّة تساهلاً من قبل السّلطات الكماليّة مع مثل هذه الأفكار الغريبة عن المجتمع التّركي. ويعتبر الكاتب أنّ معاقبة الكاتبة بالسّجن لمدّة شهر هو مجرّد ذرّ للرّماد في العيون من أجل إسكات بعض الأصوات السّاخطة.
ولاحظ الدّكتور هِرمَن نِيفْريد في مقال كتبه في جريدة “اوغسبورغر بوست تسايتونغ” ونشر بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1927م، أنّه بسبب هذه السّياسات القاسية والصّارمة أصبحت “حياةُ الأتراك الرّوحية ترتدّ عن تقاليدها الفلسفيّة الدّينية المأخوذة عن العَرب إلى طريقة العقل المادّي التي طرحها العالم الأوروبي منذ أزمان”.
لكن رغم كلّ ما يحدث يعتقد فِيشر أنّه يوجد جيلٌ جديدٌ في تركيا يَسعى نحو التّطور والمدنيّة، لكن ذلك ليس بمعزلٍ عن هويّته وعقيدته بل هو “يودّ أن يُقيم جسرًا بين التّقاليد التّركيّة القديمة ودائرة المدنيّة الحديثة”.
تأليه العقل
من المعروف أن ثمّة أسئلة كثيرة لا يُمكن للعلم المحض أن يجيب عنها، وخصوصًا ما يتعلّق بالأسئلة الغيبيّة التي يعجز العلم عن إيجاد أجوبة مقنعةٍ لها. وفي عصر الثّورة الصّناعية الأوروبيّة نشأت ردّة فعل عنيفة ضدّ الكنيسة وكلّ ما هو دينيّ، وتمّ تقديس العقل، ولا شيء غير العقل. غير أنّ تلك الأسئلة القديمة عاودت الظّهور من جديد، ووجد النّاس أنفُسهم في حاجة للدّين لأنّه الوحيد الذي يشفي غليلهم ويُسكت الأصوات الصّاعدة من دواخلهم.
وحتّى في البلدان التي عَاشت في ظلّ أنظمة شيوعيّة قمعيّة تناهض الدّين فإنّه ما إن زالت تلك القَبضة الحديديّة التي اِستمرّت لعقود حتّى رجع النّاس إلى الدّين بشكل طبيعي وتلقائي. وهذا يدلّ على أنّ نداء الدّين في داخل الإنسان لا يُمكن إسكاته بالعقل واجتهادات العقل وأجوبة العقل. ورغم ما أثبته الواقع من حاجة المجتمعات للتّدين فإن حركة التّغيير التي قادها الكماليّون في تركيا، بعد إلغاء الخلاقة العثمانيّة شنّت هجومًا عنيفًا على هذه الجوانب لدى الإنسان التّركي، وعملت على طمس هويّته الدّينية وتجفيف جميع المنابع التي تتغذى منها هذه العقيدة. وقد اِستغرب بعض المثقفين في الغَرب ومنهم المثقفون الألمان هذا التوجّه لدى السّلطة التّركية الناشئة. فهو توجّه يَتصادم بشكل عنيفٍ مع نفسيّة الشّعب التّركي ومع ميوله الطبيعيّة.
وفي هذا السّياق أوردت جريدة “هامبورغر ناخر ايشته ” الصّادرة في هامبورغ بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1927م أنّه “يَظهر أنّ هناك ذهنيّة غريبةً تسود في الحركة الكماليّة وتسير بالتّدرّج على طريقة تُخالف نفسيّة الشّعب التّركي ونشأته وميوله. ويقول النّاقدُون إنّ الكماليّين نسُوا شعبهم ووسائط ترقيته، ورفعُوا على العرش آلهةً العَقل التي ليس في مقدُورها أن تهديَه إلى شيءٍ ينفعه في حياته الرّوحيّة”، فهم يفرضون على الفلاّح الأناضوليّ البَسيط أن يَعبد حضارةً تحمل صبغةً أجنبيّةً محضةً، ويطلبون منه أن تُصبح هذه الحضارة سرّ حياته.
إنّ الدّوائر الكماليّة المتطرّفة- كما تقول الصّحيفة – تُضحّي بحضارتها الإسلاميّة وتتنكّر لها، ولا تعترف بالفَوارق الجوهريّة بين الحضارات الكُبرى ولا تقيم لها أيّ وزنٍ. وهذا السّلوك من الكماليّين ينافي سُنن الاجتماع البَشري. بل إنّ الحركة الكماليّة انقلبت حتّى على القيم التّركية التقليديّة الأصيلة مثل الكَرم والاحترام والوفاء والصّداقة، وأحلّت محلّها الأنانيّة ومحبة الذّات. فتكون نتيجة كلّ ذلك إنسان فارغ من كلّ قيمة.
وبالفعل أصبح الشّباب الترّكي يَشعر بهذا الاهتزاز في شخصيّته، وقد لاحظت الصّحيفة أنّه أصبح يُسمع بين حلقات الشّبان المتعلّمين في تلك المرحلة قولُهم “إنّنا في الحقيقة لا نعرفُ ما نحن عليه اليوم أصلاً”، فالكماليّة أهملت بهذه السّياسة المتطرفة عنصر الاعتدال والتّوازن، ولم تستفد من القُوة الأخلاقيّة في المدنيّة الغربيّة.
والحلّ وفق ما ترى جريدة “هامبورغر ناخر ايشته ن” الصّادرة بتاريخ 9 نوفمبر 1927م هو أن يكُون التّغيير مُتدرجًا نابعًا من صميم المجتمع، مراعيًا لهويّته وماضيه وحاجاتِه الرّوحيّة والفكريّة والمادّية، فـإنّ “تغيير طريقة التّفكير في شعبٍ برمّته يحتاج إلى تطوّر زمنيّ يستغرق جيلاً كاملاً، وإلا فإنّ الإنسان يقع في غروره وقلة تقديره لروحيّة الشّعب ونفسيّته”.
والحقيقة أن الكماليّين الأتراك لم يُراعوا سنّة التّدرّج في العمليّة التّغييرية التي أقدموا عليها، كما أنّ مضمون هذه العمليّة كان بعيدًا كلّ البُعد عن هويّة الشّعب التركيّ، بل كان متصادمًا معها في كثير من المجالات ممّا ولّد له متاعب جمّة في تعامله مع تَاريخه وماضيه وحَضارتِه التي تمتدّ لقرون، ومازالت هذه المتاعب مستمرّة منذ عشرينات القرن الماضي إلى اليوم بالرّغم من الصّراع الداخلي الذي يشهده المجتمع التّركي لاستعادة التّوازن المطلوب.
(المصدر: ترك برس)