مقالاتمقالات مختارة

الكبر.. داء القلب العضال

الكبر.. داء القلب العضال

بقلم د. خالد روشة

الكبر: شعور خادع بالاستعلاء، مصحوب باحتقار الناس والترفع عليهم، فهو انفعالات داخلية أساسا، كما قال الله _عز وجل_: “إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ” (غافر: من الآية56).. وما يظهر من سلوكيات المتكبر ترجمة لهذه الانفعالات.

وقد قسم العلماء الكبر إلى باطن وظاهر “فالباطن: خلق في النفس، والظاهر: أعمال تصدر عن الجوارح، فالأصل هو الخلق الذي في النفس، وهو الرضا إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه؛ وبه ينفصل الكبر عن العجب؛ فإن العجب لا يستدعي غير المعجب.

والكبر سمات تظهر في سلوكيات المتكبر حتى تعلو كلامه وحركاته وسكناته.. بل وطموحاته وأفكاره، وينتج عنها وضع نفسه في مكانة أعلى من الآخرين..
وقد يحاول المتكبر أن يخفي تلك الصفة الذميمة إذا انكشف بعض حاله ولكنه يقاسى في سبيل ذلك ثم إذا بصفته تلك تنكشف شيئا فشيئا في زلفات اللسان ومختلف المواقف.

سماته وعلاماته:
إن شر أنواع الكبر ما يمنع استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له فقد تحصل المعرفة للمتكبر ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق قال الله _تعالى_: “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً” (النمل: من الآية14) ومن أنواع الكبر الدعاوى والمفاخر وتزكية النفس وحكايات الأحوال في معنى المفاخرة للغير والتكبر بالنسب فمن له نسب شريف يحتقر من ليس له ذلك النسب وان كان أرفع منه عملاً قال ابن عباس _رضي الله عنهما_: “يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى” وكذلك التكبر بالمال والولد “أنا أكثر منك مالاً وولداً” “أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال” التكبر بالجمال والقوة وكثرة الأتباع ونحو ذلك “ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي” “وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي” وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن كمالاً في نفسه أمكن أن يتكبر به حتى إن الفاسق ليفتخر بكثرة شربه للخمر مثلا ولفجوره لظنه أن ذلك كمالاً.

رؤية الإسلام لمرض الكبر:
قال الله _تعالى_: “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ” (الأعراف: من الآية146)، وقال _سبحانه_: “كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ” (غافر: من الآية35)، وقال _سبحانه_: “إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ” (النحل: من الآية23).

وقال _صلى الله عليه وسلم_ “لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة خردل من كبر” أخرجه مسلم، وقال _صلى الله عليه وسلم_: “يقول الله _تعالى_: “الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في جهنم ولا أبالي ” أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وقال _صلى الله عليه وسلم_: “ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر” رواه البخاري.

قال سفيان بن عيينة: “من كانت معصيته في شهوة فأرجوا له التوبة فإن آدم _عليه السلام_ عصى مشتهيا فغفر له، ومن كانت معصيته في كبر فاخشوا عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرا فلعن”.

والعبد المؤمن يستعذب طاعة الله وترتاح لعبادته نفسه إذا علم نفسه الخضوع والذل له _سبحانه_ قال _سبحانه وتعالى_: ” إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ” ووصف الصالحين من عباده، فقال: ” فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ”. وقال _سبحانه_: “إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون”.

تواضع النبي _صلى الله عليه وسلم_:
قال الله _تعالى_: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً” (الفرقان: من الآية63) ولقوله _عز وجل_: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر: من الآية88) وقد كان _صلى الله عليه وسلم_ مثالا يحتذى به في تواضعه وسمته أليس قد وصفته عائشة _رضي الله عنها_ بأن كان خلقه القرآن؟ فهاهو يخبر عن نفسه فيقول: “لا آكل متكئا” وكانت مشيته عليه _صلى الله عليه وسلم_ كأنما ينحدر من صبب وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وقال _صلى الله عليه وسلم_: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبدا لله ورسوله” ولما أراد أحدهم أن يحدثه أخذته هيبة فارتعد، فقال له _صلى الله عليه وسلم_: “هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة” وفي البخاري من حديث انس _رضي الله عنه_ قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة….
لتأخذ بيد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فتنطلق به حيث شاءت وكان الرجل إذا دخل على أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ يسأل أيكم محمد.

والصديق _رضي الله عنه_ يودع جيش أسامة وأسامة _رضي الله عنه_ على فرسه وهو يسير على قدميه فيقول أسامة لتركب أو لأنزل فيقول الصديق ومالي لا أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ثم يستأذن أسامة وهو الخليفة يستأذن أسامة في عمر فيقول: أتأذن لي بعمر استعين به على أمور المسلمين؟!!

وعمر _رضي الله عنه_ لبس ثيابه يوم الجمعة وكان قد ذبح للعباس فرخان وكان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه أي الميزاب ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غيرها ثم جاء وصلى بالناس ثم أتاه العباس، فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ففعل ذلك.

أنواع الانحرافات الباطنة المرتبطة بالكبر:
كثير من الانحرافات يؤدي إليها الكبر مثل: رفض الحق، وازدراء الآخرين، وسوء الظن بهم،والكذب في مدح النفس، وذكرها بما فيها وما ليس فيها، وسرعة الغضب والانتقام، وحب السيطرة، والافتخار، والرياء، والمن، ورد النصيحة، كما يخفي الكبر حيلا دفاعية؛ كإسقاط الأخطاء على الآخرين، وتبرير التصرفات وتصويبها على كل حال.

وبالجملة فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ عزه، وما من خلق حميد إلا ويتنازل عنه ليحفظ كبره، فلا يترك له هذا الكبر خلقا من أخلاق أهل الجنة إلا جرده، فلا غرابة أن يخبر _صلى الله عليه وسلم_ بأن من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر لا يدخل الجنة”.

أسبابه:
قد يكون الكبر ناتجاً عن شعور بالنقص أو شعور بالكمال، فهو في كلتا الحالتين ناتج عن إدراك خادع للذات، فإذا توافرت في يد الشخص الأدوات التي يعبر بها عن هذا الشعور الخادع ظهر الكبر في سلوكه.
والإنسان محب لنفسه بالأصالة ساع إلى تجميل ذاته وتزينها فاهتمامه بنفسه أكثر من أي شئ آخر في العالم، والمتكبر تكمن مشكلته في أنه يرى نفسه على إنه شئ كبير للغاية وقد يعلم عن نفسه النقص في جانب من الجوانب لكنه يعتز بذلك النقص إعزازا ينسيه مساوئه.

والمتكبر مصطلح مع نفسه في مواطن الفخار وعندما يعظمه الآخرون ويوقرونه إلا إنه حيث كان إهماله والتنزيل من قدره فهو متصارع مع نفسه مختل في توازنه، لذلك فأكثر المتكبرين سريعو الغضب لأنفسهم، لا يطيقون المكوث في مكان لا يعبرون عن أنفسهم فيه كما إن كثيرا من المتكبرين على علاقة سيئة بكثير من المحيطين بهم.

والأشياء التي يكون بها الكبر كثيرة، غير أن هذه الأشياء التي يكون بها التكبر، ليست هي السبب في تكبر أصحابها، فهي من نعم الله، تكون في أيدي البعض سببا للكبر، وفي أيدي آخرين مدعاة للتواضع، وهذا يعود بنا إلى تعريف الكبر،وأنه إدراك خادع للذات والواقع، يلتمس الظهور بأعمال، وتسخر لأجله أدوات.

ولا شك أن التمييز بين الشعور الباطن والتصرفات الظاهرة سيوجهنا عند المعالجة حتى نعرف ماذا نعالج؟ فالذي يعالج هو ذلك الشعور الناشئ عن أفكار واعتقادات خاطئة، فإذا تعدلت الأفكار تغيرت طريقة التصرف تبعاً لها.

علاجه:
علاج الكبر يبدأ أولا بالوعي بهذا الخلق، وضرورة تعديله، ولهذا فإن أول علاج هو معرفة ضرر هذا المرض الخبيث، ثم الاستعاذة بالله _سبحانه_ منه قال _سبحانه_: “إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ” (غافر: من الآية56).
فإذا تغيرت نظرته للمرض واتضحت له حقيقته وأصبحت موازينه في الحكم عليه هي موازين الإسلام، اجتهد للتخلص منه فيأخذ حينئذ بخطوات العلاج الأخرى وهي خطوات علمية وعملية.

فالعلاج العلمي وهو استكمال لذلك الحكم العام الذي استفاده من القرآن والسنة، أن يعدل أفكاره عن نفسه، ليكون نظرة صحيحة عن الذات فهو الضعيف الفقير الذليل الذي ما يلبث عمره أن ينتهي في أية لحظة وما يلبث أن يمرض بأصغر وأقل فيروس أو بكتيريا وما يلبث أن ينقطع جهده بأقل مجهود أو عمل!! “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (فاطر:15)، قال الغزالي: “أن يعنف نفسه، ويعرف ربه _تعالى_، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر؛ فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع”.

والكبر مرض يمكن علاجه ولكن قد فشلت فيه الأدوية البعيدة عن الإيمان إذ إنه ينمو في بيئة الأثرة وحب الذات، وأما العلاج الإيماني فهو النافع فيه إذ يأمر الإيمان بالحرص على مصلحة الآخرين والتواضع لهم وخفض الجناح قال الله _تعالى_: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر: من الآية88)، وقال _سبحانه_: “أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” (المائدة: من الآية54)، وقال النبي _عليه الصلاة والسلام_ “المؤمن للمؤمن كالأرض الذلول” رواه أحمد.

إن الموازين الإسلامية القائمة على التفاضل بالتقوى والعمل الصالح هي التي تمنع التكبر بالمال والنسب والعلم والجمال والقوة وغيرها؛ فعلاج الكبر يدخل في منظومة متكاملة لتربية الشخص على التعامل بموازين الإسلام في الحياة.
وهذه مهمة كل الوسائل التربوية التي تتعاون فيما بينها لإخراج الشخصية الإسلامية التي تفكر بمنطق الإسلام وتتعامل بموازين الإسلام.

هذا عن شعور الكبر نفسه، وأما معالجة السلوكيات فإن من علاج الكبر مقاومة مظاهره السلوكية بالمواظبة على أخلاق التواضع، والاطلاع على سير المتواضعين والتأسي بهم، كذلك صحبة أهل التواضع والفقراء ومجالسة المساكين، كذلك قد وصف العلماء للمتكبر الذي يريد معالجة نفسه أن يتصنع التواضع كعلاج لذلك.. ولمن كبرت عليه نفسه أن يكسر شوكتها.

وقد يختلط الكبر، وهو شعور منحرف، بالطموح إلى الزينة من غير كبر، وهو شعور قد يخالج البعض، ولذلك لما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: “لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، قيل: يا رسول الله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال _صلى الله عليه وسلم_: الكبر بطر الحق وغمط الناس”. وبطر الحق: رده وغمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم، فتنمية المسلم لذوقه في الثوب والمركب والدار سلوك سليم، والفرق يظهر في القصد والنية، فذاك يقصد التكبر على الناس والتعالي عليهم، وهذا يقصد التأدب بآداب دينه من نظافة وحسن هندام.
وعلى أي حال فقد كان حال أغلب السلف الصالحين خشونة العيش حتى في أوقات الغنى وصفيق الثياب والبعد عن بناء الدور وسكن القصور.

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى