الكارمية.. ماذا تعرف عن أشهر رجال أعمال العصر الإسلامي الوسيط؟
إعداد محمد شعبان أيوب
يبدو للوهلة الأولى أن مصطلح رجال الأعمال، أو مجتمع رجال الأعمال، وليد العصر الحاضر، عصر النيوليبرالية والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات وفقط، لكن في تاريخ الاقتصاد والتجارة في التاريخ الإسلامي القديم نماذج كانت على درجة من التشابه اللافت مع مجتمع رجال الأعمال في عصرنا الحاضر، وقد تجلّى دور هذه المجموعات في إطار الدول الإسلامية أو السلطنات القوية التي استطاعت أن تمد نفوذها إلى أعالي البحار والمحيطات حينذاك، وتُخضع لسلطتها الشعوب والأمم، وتنشر هيبتها وهيمنتها في مناطق شاسعة من الجغرافية الإسلامية في عصرها الوسيط.
وقد استمر نشاط هذه المجموعات من التجار الذين استطاعوا تكوين ما يشبه النقابات قبل أن يعرف التاريخ الحديث حقوق العمال ورجال الأعمال، ومشكلات قضايا الاستثمار بألف سنة على التقريب، وفي هذه النقابات وضعوا لأنفسهم أصولا وأعرافا وقوانين حافظوا فيها على حقوقهم وتجارتهم وعلائق الأخوة والصداقة فيما بينهم، دون ضغينة أو احتراب، فضلا عن علاقتهم بالسلطة التي كان يُمثّلهم فيها كبيرهم المنتخب.
ولعل أشهر هؤلاء التجار، أو رجال أعمال ذلك العصر، رجال طائفة الكارمية الذين بلغت ثروات بعضهم مبلغا كانت بعض الدول تضطر للاستدانة منهم في أوقات الأزمات والحروب والفتن، فمَن هم الكارمية؟ وكيف ظهروا على مسرح التاريخ الإسلامي الوسيط؟ وما أهم الإسهامات التي قدّموها لمجتمعاتهم؟ وكيف اختفوا من مسرح الحياة الاقتصادية والاجتماعية آنذاك؟!
اختلف الباحثون والمؤرخون حول أصل كلمة “كارم” أو “كارمية”، وكان المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي (ت845هـ/1442م) من أوائل من لفتوا الانتباه إلى أصل التسمية حيث قال: إن أصل التسمية مأخوذة من الكانم، وهي منطقة إسلامية في السودان الغربي (غرب أفريقيا) تقع بين بحر الغزال وبحيرة تشاد ويقال للتاجر منهم الكانمي، ثم انتشر الاسم بين مَن يشتغل بتجارة البهار، وكانت طائفة منهم مقيمين في مصر يتاجرون في البهار من الفلفل والقرنفل ونحوهما مما يجلب من الهند واليمن، فعُرف بهم، ثم وقع به تصحيف وأصبح “كارم”[1].
على أن بعض المستشرقين المعاصرين مثل ليتمان كان لهم رأي آخر حين اعتبروا كلمة “كارمي” مشتقة من الكلمة الأمهرية “Kuararima”، وهي تعني التوابل التي حملها التجار من إثيوبيا، ثم وقع فيها تحريف فأصبحت “كارم”، وأُطلقت على هؤلاء التجار، بالإضافة إلى ذلك هناك اقتراح يربط اسم الكارمية بإحدى السلع التي تاجروا بها، خاصة أنه كان يوجد في القاهرة حسب رواية المقريزي سوق مشهورة لتجارة العنبر، وأن العنبر الأصفر كان يُطلق عليه اسم “كارم” أو “كهرمان” في تلك العصور القديمة[2].
ومن مجموع هذه الآراء وغيرها، يصبح الكارمية هم التجار الذين اشتغلوا واتّجروا في أصناف البهارات والعطور والبخور والتوابل الغالية مثل الفلفل والقرنفل والعنبر والعود والحبهان (الهيل) والمسك والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة واللؤلؤ والذهب والفضة وغيرها، وامتد نشاطهم التجاري من جنوب شرقي آسيا والهند واليمن حتى مصر، ومنها إلى الشام وأوروبا.
وتكشف لنا الوثائق التاريخية على أن أقدم وجود وظهور لهؤلاء الكارمية كان في العصر الفاطمي في خلال القرن الرابع والخامس الهجري/العاشر والحادي عشر الميلادي، وظهر منهم في عدن اليمن التاجر محروس بن يعقوب الذي توسعت تجارته في المحيط الهندي وحتى اليمن، والتاجر المصري اليهودي أبو سعيد الدمياطي الذي نشطت تجارته وترددت ما بين إسبانيا والمغرب ومصر وعدن والهند، وقد سمحت السلطات الفاطمية لليهود بالإسهام في التجارة الكارمية، وتشير وثائق الجنيزة المكتشفة في مصر في القرن العشرين، وهي وثائق كُتبت بالعبرية بأحرف عربية لا تزال تُمثّل كنزا تاريخيا عن أحوال اليهود في مصر في تلك العصور القديمة، إلى أن اليهود أسهموا بنصيب وافر في تلك التجارة التي كانت تدر أرباحا هائلة، بجانب التجار المسلمين والمغاربة منهم على الخصوص[3].
بل إن الفاطميين استغلوا نشاط الكارمية، وأساطيلهم التجارية التي كانت تصل إلى جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا والهند وغيرها، وتجنيدهم في نشر الدعوة الإسماعيلية في هذه المناطق وبين التجار المصريين، فأطلقوا على التاجر الذي يدين بالمذهب الإسماعيلي، مذهب الفاطميين في مصر، اسم “بوهرا” أو “بهرا” ومعناه “تاجر البهار”[4]، وهو الاسم الذي لا يزال يُطلق حتى اليوم على طائفة البهرا في بلاد الهند.
ونظرا للنفوذ الاقتصادي والثقافي الذي كان يؤديه الكارمية للدولة الفاطمية، فقد حرصوا على أن يكون لهم ما يشبه النقابة، وسُمي رئيسهم بـ”ريس الكارمية” أو “ريس التجار” أو “شاهبندر التجار”، وكانت هذه الرئاسة وراثية في كثير من الأحيان ضمن عائلات محددة، وقد اهتم الفاطميون بتوفير الطرق للتجارة الكارمية، إذ أعدّوا أسطولا بعيذاب (على الحدود المصرية السودانية اليوم) التي تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، يلتقي بها الكارمية فيما بين ميناء عيذاب وجزيرة سواكن، حماية لمراكب الكارمية من القراصنة الذين كانوا يسكنون بعض هذه المناطق، ويتعرضون لهذه الثروات الهائلة من التجارة[5].
أسهم الكارمية في دفع عجلة الاقتصاد الفاطمي، ومد النفوذ الإسماعيلي والأيديولوجية الفاطمية حتى الهند واليمن؛ لذا حرصوا على حماية أموالهم وبضائعهم وطرق تجارتهم
كان التاجر الكارمي يرسل في العادة عند وصوله إلى الهند خطابا إلى عائلته يخبرهم فيه أنه أرسل لهم بضائع ثمينة لا يوجد مثلها على الأرض جودة وغلاء، حتى إن حمولة إحدى السفن كانت تصل إلى 3000 بالة أو شوال في بعض الأعوام، وأن بضائع إحدى هذه السفن قُدّرت بمبلغ مليون ونصف مليون دينار ذهبي (الدينار الذهب: 4.25 جرام)، الأمر الذي يفسر لنا ارتفاع أسعار هذه البضائع[6]، وعظم ثروات هؤلاء الكارمية أصحاب الملايين أو المليارات بأسعار عصرنا اليوم.
أسهم الكارمية في دفع عجلة الاقتصاد الفاطمي، ومد النفوذ الإسماعيلي والأيديولوجية الفاطمية حتى الهند واليمن؛ لذا حرصوا على حماية أموالهم وبضائعهم وطرق تجارتهم، الأمر الذي فهم مغزاه صلاح الدين الأيوبي حين أتم تأسيس الدولة الأيوبية في مصر والشام، ومد نفوذه إلى الحجاز واليمن، ونجح في عام 578هـ/1182م في إحكام سيطرته على البحر الأحمر وإقفاله في وجه التجار الفرنج؛ ليُقيم فيه ممرا بحريا إسلاميا صرفا، بعد فشل الحملة الصليبية للسيطرة على هذا الطريق المتحكم بتجارة الترانزيت بين أوروبا والشرق الأقصى[7].
وحين أتم صلاح الدين هذه السيطرة، شعر الكارمية بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأساطيلهم التجارية، في ظل سلطة حرصت على مراعاة شؤونهم، وتؤمّن ما يوفر لهم فرص الكسب والنفوذ والشهرة، وقد استفاد السلطان صلاح الدين من الكارمية وتجارتهم في ظل حروبه ضد الصليبيين، فقد كانت خزائن الدولة تحتاج إلى الأموال الكافية بسبب المجهود العسكري الكبير، لذا فرض صلاح الدين على الكارمية سنة 577هـ/1181م زكاة أربع سنين مقدما عند وصولهم من عدن إلى الديار المصرية، وقد وافق الكارمية عن طيب نفس نظرا لما كانت تمر به المنطقة من توترات ومواجهات عسكرية، وبسبب إمكاناتهم المالية الضخمة[8].
أَمِن الأيوبيون على تجارة الكارمية في طريق الذهاب والإياب، وجنت عليهم هذه التجارة أرباحا طائلة من خلال الزكاة التي كان يدفعها هؤلاء التجار للسلطات الأيوبية
وبسبب هذه العلاقة الوطيدة التي تأصّلت بين رجال التجارة والاقتصاد وبين السلطة السياسية الأيوبية، فقد أشرف الأمير الأيوبي تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين على بناء فندق أو وكالة كبيرة للكارمية وتجارتهم على ساحل النيل بمدينة الفسطاط جنوب القاهرة، وهيأ لهم ميناء ترسو فيه سفنهم المحملة بمتاجر الشرق، الأمر الذي شجع هؤلاء الكارمية على بناء فنادق خاصة بهم في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية وعيذاب ومكة وجدة وعدن، كانت عمليات البيع والشراء بين هؤلاء الكارمية وبين المغرمين بتجارتهم، لا سيما التجار الأوروبيين الذين كانوا مجبرين على شراء هذه التوابل من مصر وبلاد الشام خاصة[9]، حيث لم يكن يُسمح لهم بهذه التجارة قط.
حرص الأيوبيون بعد وفاة صلاح الدين على تأمين البحر الأحمر واليمن وموانئ مصر والشام للحفاظ على مركز الصدارة الاقتصادي والتجاري، وعلى رأسها تجارة الكارمية، وكان لسيطرتهم على اليمن فضل كبير في اتساع نشاط هذه التجارة، بل إنهم جهزوا حملة عسكرية بحرية في عام 1205م استطاعت فرض هيمنتها على المحيط الهندي، وتأسيس مركز لتجارة التوابل في مدينة قلهات الهندية[10]، فأَمِن الأيوبيون على تجارة الكارمية في طريق الذهاب والإياب، وجنت عليهم هذه التجارة أرباحا طائلة من خلال الزكاة التي كان يدفعها هؤلاء التجار للسلطات الأيوبية في اليمن ومصر فضلا عن بعض الضرائب الأخرى.
غير أن الأوضاع السياسية في أواخر عصر الأيوبيين كانت تزداد سوءا نتيجة الانقسام الداخلي تارة، وهجوم المغول على غرب آسيا تارة أخرى، فاستولى المغول على العراق أولا ثم الشام ثم الأناضول، وكانت خطتهم التالية الاستيلاء على مصر لولا بطولة المماليك وصدّهم لهذه الغارات، وهزيمتهم للمغول، فاستولى المماليك على إرث الأيوبيين في مصر والشام والحجاز، وفرضوا قوتهم السياسية والعسكرية في بعض الأحيان على الدولة الرسولية التي كانت تحكم اليمن، وعاد البحر الأحمر من جديد ضمن سلطة القاهرة.
الأمر الذي رأى فيه التجار الكارمية فرصة ذهبية لتجديد الولاء للسلطة المملوكية الجديدة، والتي سرعان ما بسطت عنايتها ورعايتها لهؤلاء التجار الذين كان أغلبهم من المصريين ثم اليمنيين والشوام، وحرصت على تذليل كل العقبات الأمنية والسياسية أمام تجارتهم، فعلى سبيل المثال كان ملوك اليمن في بدايات القرن الثامن الهجري يُسيئون معاملة سفن التجار الوافدين، وفرض الضرائب الباهظة على التجار الكارمية منهم، وتعطيل قلاع سفنهم المتجهة صوب مصر أو غيرها، فاضطر هؤلاء التجار إلى الاستعانة بسلطان مصر القوي الناصر محمد بن قلاوون سنة 704هـ/1304م فأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى الملك المؤيد الرسولي اليمني يطالبه فيها بمعاملة الكارمية معاملة تليق بهم، وضرورة تخفيض الضرائب عن كاهلهم، وإعطائهم الحرية في الإقلاع من موانئ اليمن متى شاءوا، لكن الملك اليمني استهزأ بالرسالة.
صمم السلطان المملوكي على إرسال حملة عسكرية إلى اليمن لتأديب ملكها، وهَمَّ بفعل ذلك لولا تدخل التجار الكارمية الذين أرادوا أن تنحل الأزمة بصورة دبلوماسية خوفا على مصالحهم في اليمن، فقبل السلطان الناصر منهم هذا الرأي، وأرسل الخليفة العباسي الذي كان يقيم في القاهرة بعد سقوط بغداد رسالة يحذّر فيها الملك اليمني بعواقب فعلته، فارعوى الملك المؤيد، وعدل عن موقفه، وحرص على معاملة التجار الكارمية معاملة تليق بهم، وإعطائهم المزايا المطلوبة لضمان سهولة التجارة والحركة بين بلاده وبين مصر، فضلا عن إصلاح علاقته مع السلطان المملوكي الناصر محمـد بن قلاوون[11].
ومن هنا ندرك مدى قوة “لوبي” الكارمية في العلاقات الدولية في ذلك العصر، ومدى تأثيرهم في العلاقات السياسية داخل البلدان التي كانت تجارتهم تمر بها، وحرصوا على أن تكون علاقتهم ممتازة بالقوى والدول كافة، والولاء المطلق للأقوى الذي كانت تُمثّله القاهرة على الدوام في عصور الفاطميين ثم الأيوبيين ثم المماليك من بعدهم، وهكذا تداخلت مصالح الكارمية بوصفهم أغنى أغنياء الناس أو رجال الأعمال في زمنهم مع مصالح السلطات الحاكمة التي كان الكارمية يرفدونها برافد لا ينقطع من أموال الضرائب والزكاة، والإسهام الذي لا ينقطع من أعمال البر والعمران والمشاريع الخيرية، فضلا عن الثقل الاقتصادي بين تجارة الشرق وأوروبا، ومحورية الكارمية في هذه التجارة.
ومن هنا، كان السلطان بنفسه يتولى قضايا الكارمية ومشكلاتهم والإشراف عليها وحلها، وذلك من خلال أعلى سلطة قضائية وُجدت في ذلك العصر، وهي سلطة دار العدل التي كانت تُعقد في قلعة الجبل بالقاهرة، والتي كان يحضرها السلطان والخليفة وكبار أمراء الجيش وقضاة القضاة الأربع، وكانت تنعقد مرتين أسبوعيا، ويتولى فيها الجميع حل المشكلات التي تمس سيادة الدولة العليا، ويصدر السلطان فيها ما يراه صائبا بعد استشارة هذا الجمع، ومن هنا كان حل قضايا رجال الأعمال الكارمية في هذا المجلس القانوني الأرفع في الشرق الأوسط كله دليلا على مدى النفوذ والقوة التي وصلوا إليها آنئذ في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية على السواء.
بل إن السلطات المملوكية كانت تحرك الأساطيل والجيوش لحماية هذه التجارة من تعدي الطامعين فيها من قراصنة وساسة دويلات وجزر البحر الأحمر، مثل صاحب جزيرة سواكن (السودانية اليوم)، وصاحب جزر دهلك (الإرترية اليوم) الذين تعدوا على بعض سفن التجار الكارمية المحملة بالبضائع الغالية، فأمر السلطان بيبرس البندقداري بتأديب هؤلاء، الذين سرعان ما أذعنوا وأقسموا على ألا يتعدوا على هذه السفن مرة أخرى، بل إنهم أعلنوا الولاء والتبعية السياسية للسلطنة المملوكية[12].
وقد سار جميع السلاطين المماليك على هذه السياسة في حماية التجارة الكارمية بكل قوة وحزم، وأرهبوا ملوك اليمن، وأمراء الحجاز، وزعماء قبائل البدو والبجة وسواكن ودهلك وغيرها، فنَعِمَ الكارمية بالأمن والسلام، وازدهرت تجارتهم، وأصبحت مصر بفضلهم مركز تجارة الترانزيت في الشرق الأوسط كله، يأتيها الأوروبيون والمغاربة والأفارقة لشراء تجارة الكارمية في القاهرة ودمياط والإسكندرية.
وبفضل الضرائب والزكوات والمكوس التي تتحصل عليها الدولة المملوكية من التجار الكارمية، مسلمين كانوا أم أوروبيين، فقد أصبحت تلك الأموال أحد مصادر الدخل الأساسية للدولة حينذاك، بل اعتُبرت في بعض الأوقات المصدر الرئيسي والأكبر لازدهار وقوة المماليك، الأمر الذي أنشأ معه هؤلاء السلاطين إدارة لرعاية شؤون الكارمية، تارة كانت تتبع الوزارة، وتارة كانت تتبع السلطان نفسه، وتارة كانت تتمتع بالاستقلالية الإدارية، وعمل في هذه الإدارة مجموعة من أمهر الموظفين المُلِمّين بالخبرة الدبلوماسية والحسابية في ذلك العصر، وللإشراف على فنادقهم وتسهيل معاملاتهم[13].
وقدّر سلاطين المماليك لتجار الكارمية خدماتهم الجليلة، فأحاطوهم برعاية خاصة، إذ كان رئيس الكارمية ويلقب بـ”الكبير” يُعامَل بتقدير واحترام في جميع بلاد السلطنة، وكانت الإدارة المملوكية تحرص على حماية قوافلهم التجارية من القراصنة كما مرّ بنا لقاء رسوم كانوا يدفعونها للحكومة، وقد حفظت لنا المصادر وثيقة مهمة تعود لعصر السلطان المنصور قلاوون بمنزلة صك أمان لتجار الكارم، يتعهد فيه السلطان بحماية سفنهم وقوافلهم التجارية[14].
وبفضل هذا التقدم والتسهيل الإداري انتشرت القيساريات والوكالات والفنادق الخاصة بالكارمية، لتسهيل عقد الصفقات التجارية، واشتهرت فنادق البنادقة والبيازنة والجنوية في مدن السواحل خاصة الإسكندرية، وفنادق دار التفاح وخان مسرور وخان منكورش ووكالة قوصون وفندق الدماميني في مدن بلاد الشام ومصر، وانتعشت التجارة الكارمية للغاية، وبلغت ثروات بعض تجارها مبلغا عظيما فاق بعض الأوقات ما عند الدولة من أموال، وإذا كانت ثروة التاجر المصري أو الشامي العادي تُقدَّر بما بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف دينار، فإن ثروة رجل الأعمال الكارمي كانت تصل إلى مليون دينار ذهبي وأكثر في بعض الأوقات[15]!
وقد اشتهر أن ثروة التاجر الكارمي نصر الدين محمـد بن مسلم البالسي (ت776هـ/1375م) كانت تُقدّر بعشرة ملايين دينار، مما جعله مضرب المثل للغنى الفاحش، حيث إن الرحالة ابن بطوطة زار مصر ورأى مدى ثروات هؤلاء الكارمية، وفي إطار وصفه للثروات الهائلة التي حققها بعض التجار الهنود يقول: “إنهم يُماثلون تجار الكارم في مصر”، كما قارن الكارمية بتجار الصين “الساتي” الذين كانوا يعتبرون أغنى تجار الصين[16].
وبسبب هذه الثروات الهائلة التي كان يملكها التجار الكارمية، وبجانب إسهامهم في دفع الضرائب والزكوات فقد أسهموا في الإنفاق على بعض الحملات العسكرية المملوكية في بعض الأحيان، فقد أقرضوا السلطان المملوكي الظاهر برقوق الذي كان يتصدى لخطر تيمورلنك على بلاد الشام سنة 796هـ/1394م بالمال الكافي لتمويل الاستعدادات الحربية، وتعاون على تقديم هذا القرض ثلاثة من كبار الكارمية، وهم برهان الدين المحلي، ونور الدين الخروبي، وشهاب الدين أحمد بن مسلم، نظير سندات مالية، فساعدوا بهذا القرض في إنقاذ السلطنة المملوكية من السقوط[17].
فقد أسهموا أيضا في الجانب الاجتماعي بنصيب باهر وكبير للغاية، حيث بنوا الفنادق والخانات والمساجد والمدارس والحمامات والمستشفيات، والأوقاف التي كانت تدر أموالا على الفقراء والمعوزين بصورة ثابتة دائمة، وكانت إسهاماتهم العمرانية تفوق ما كان يقوم به السلاطين ورجال الحكم والجيش والقضاة.
فالتاجر الكارمي محمد بن محمد الخروبي، سليل العائلة الخروبية وهي واحدة من كبار العائلات التي اشتهرت بتجارة الكارم لعدة أجيال، شيّد المدرسة الخروبية في القاهرة في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، والتي قال عنها المؤرخ المقريزي: “هذه المدرسة بظاهر مصر تجاه المقياس (جزيرة الروضة)، أنشأها كبير الخرابية بدر الدين محمد بن محمد بن علي الخروبي، التاجر بعد سنة 749هـ/1349م وجعل مدرس الفقه بها الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن والشيخ سراج الدين البلقيني”[18].
دخلت تجارة الكارم في طريق مسدود من الضياع حين قرر السلطان المملوكي الأشرف برسباي أن تحتكر الدولة هذه التجارة في ظل انهيار اقتصادي وزراعي
أما التاجر نور الدين علي بن محمد الكويك، فقد نُسب إليه واحد من أكبر حمامات البخار في القاهرة جعلها لعامة الناس بلا أُجرة ولا حساب، والتاجر عز الدين السلامي البغدادي الأصل، تاجر الكارم في دمشق، فقد شيد مدرسة كبيرة ودارا لحفظ القرآن الكريم في رأس درب الريحان بدمشق، ولم ينس التاجر عثمان بن عفان المصري أن يسهم بنصيب وافر في هذا العطاء الخيري الذي كان له أثره في بلاد الصين، حيث بنى زاوية وجامعا في مدينة خنسا الصينية التي استوطنها وكان له فضل في نشر الإسلام والتصوف بين أهلها[19].
دخلت تجارة الكارم في طريق مسدود، طريق الانهيار والضياع حين قرر السلطان المملوكي الأشرف برسباي (ت841هـ/1438م) أن تحتكر الدولة هذه التجارة في ظل انهيار اقتصادي وزراعي، وحروب اضطرت الدولة لدخولها ضد القراصنة في البحر المتوسط، وبدأ في تطبيق هذه السياسة سنة 1425م حين أذاع بألّا تُباع أصناف التوابل والبهار والأحجار الكريمة والعطور وغيرها إلا في مصر، وبالسعر الذي كان يحدده السلطان، ثم بعد ذلك كان يوزع هذه التجارة الهائلة بالأسعار التي كان يراها، وجعل الإسكندرية المنفذ الوحيد لبيع هذه التجارة للأوروبيين.
ومنذ تلك اللحظة دخلت تجارة الكارم في نفق مظلم، حيث انهار معه اقتصاد أهلي ساهم في نمو الاقتصاد الفاطمي والأيوبي والمملوكي، واختفت من بعد ذلك طبقة رجال أعمال الكارمية الذين كانوا يسهمون بدور لافت في الشؤون العمرانية والاجتماعية والثقافية، وسرعان ما دخلت دولة المماليك في دوامة السقوط والفوضى حين أنهى العثمانيون وجودهم بعد ذلك بقرن تقريبا!
(المصدر: ميدان الجزيرة)