مقالاتمقالات مختارة

القُبَيسيَّات (المقال الثاني): منهجيّةُ الاستقطاب والشّرائح المُستَهدفة

القُبَيسيَّات (المقال الثاني): منهجيّةُ الاستقطاب والشّرائح المُستَهدفة

 

بقلم الشيخ محمد خير موسى

 

تولدُ أيّةُ جماعةٍ وعينُها على الأتباع؛ فهم عنوان وجودها الحقيقيّ ومقياسُ تأثيرها ومؤشّرُ إنجازِها.

والجماعات الإسلاميّة تتشابه في آليّات الاستقطاب؛ والقبيسيّات اللّواتي انتشرن انتشارًا واسعًا يفرضن علينا سبر أغوار منهجهنّ المتّبع في الاستقطاب لتكتمل الصورة.

إنَّ أيّة جماعة تطمحُ أن تكون رقمًا صعبًا، فلذا تحدّد نوعيّة الأتباع، وعينها على جيوب أهل الخير فالمال هو روح المشاريع، ويكون همّها تأمين الحماية لوجودها ومنتسبيها؛ فالحماية هي العمود الفقريّ الذي يتيح لأيّة جماعة الوقوف على قدميها، والقبيسيّات لم يخرجن عن هذا الإطار العام.

عليكم بالنّخبة المثقّفة

لا تخطئ عين النّاظر بأنَّ دعوة القبيسيّات قامت بالدّرجة الأولى على استقطاب الفتيات الجامعيّات.

فقد ركّزت الدّعوة على استهداف الطّالبات والخرّيجات الجامعيّات، ممّا ساهم في طبع الجماعة بطابع العلم والفكر والثّقافة، وجعلها في التّصوّر الذّهني جماعةً نخبويّة، وقد أسهم ذلك في إعطاء موثوقيّة في المحيط الاجتماعي فكان عامل جذب إضافيّ.

وهذا الاستهدافُ النوعيّ لشريحة الجامعيّات كانت له إيجابيّات كبيرة على سمعة الجماعة ونظرة المجتمع لها؛ غير أنّه انطوى في الوقت ذاته على سلبيّات عدّة من أخطرها بروز شعورٍ واسعٍ بالنّخبويّة والأفضليّة أدّى إلى استعلاء بنات الجماعة على غيرهنّ من المتديّنات الأخريات من منتسبات الطّرق الصّوفيّة أو منتسبات حلقات المشايخ الآخرين،كما أدّى إلى حدوث فجوة اجتماعيّة بين القبيسيّات وشرائح المجتمع من غير المتعلّمات.

هل اقتصرت دعوة القبيسيّات على الطّبقة الثّريّة وبنات المسؤولين؟!

يزدادُ الانطباع بأنَّ القبيسيّات اقتصرن في دعوتهنّ على الطّبقة الثّريّة، وهذا الانطباع له ما يبرّره، لكن التّمحيص والتّدقيق يجعلنا نعاينُ بأنّ القبيسيّات استهدفن الشّرائح الاجتماعيّة المختلفة من ثريّات وفقيرات، ومن بنات الرّيف وبنات المدينة بدعوتهنّ، وإنَّ أكثر مرتادات الحلقات هنّ من بنات الطبقة المتوسّطة ماديًّا.

ولكنّ كلّ هذا لا ينفي مطلقًا بأنَّ الطبقة الثريّة كانت في عين الاستهداف القبيسيّ، وهذا هو حال عموم الجماعات التي تريد أن تستمرّ وتبقى فهي تبحث عن تمويلها عند أهل المال والتّجارة.

وإنَّ أهمّ أسباب تشكّل الانطباع عن القبيسيّات بأنّهنّ دعوة خاصّة بالأثرياء أمران:

الأوّل: كون مؤسِّسة الجماعة والغالبيّة العظمى من آنسات الطّبقة الأولى هنّ من الثّريّات.

فالآنسة منيرة قبيسي تقيم الآنَ في حي الرّوضة الدّمشقيّ، وهو حيّ معروف بالثّراء الكبير لساكنيه.

ومن هؤلاء الآنسات الثّريّات من رموز الجماعة على سبيل المثال؛ الآنسة سميرة الزّايد صاحبة مؤلّفات السّيرة النبويّة، والآنسة خيريّة جحا المعروفة باسم الآنسة خير، والآنسة نُهَيدة طرقجي، والآنسة رفيدة كزبري، وكذلك كانت أشهر آنسات القبيسيّات في السّعوديّة الآنسة رجاء قلاجو أم إبراهيم رحمها الله مشهورة بثرائها.

الثّاني: استقطاب عدد كبيرٍ من زوجات الأثرياء وبناتهم، وكذلك بنات المسؤولين ذوي المناصب في الدّولة؛ ومن هؤلاء بنات محمود الأبرش رئيس مجلس الشّعب السّوري السّابق ليكنّ طالبات في الحلقات، ووجودهنّ كان سببًا في تحقيق دعم مالي للجماعة واستجلاب هامشٍ من الأمان.

والحرص على كسب هذه الشّريحة انعكس سلوكًا غير متوازن عندَ عددٍ من الآنسات من خلال التّمييز بين الطّالبات داخل الحلقة بناء على الوضع الماديّ والحالة الاجتماعيّة ممّا تسبّب بحساسيّات كبيرة طفا العديدُ منها على السّطح.

“الزّيجات” السّلاحُ العابرُ للجماعات

من أهمّ الوسائل التي استثمرتها القبيسيّات في نشر الدّعوة وحشد الأصوات المنافحة عنها واستجلاب التّمويل والدّعم الماليّ هو الزّواج الذي كان يجمع بين القبيسيّات سواء كنّ آنساتٍ أو طالبات مع كبار الدّعاة وقادة العمل الإسلاميّ والأثرياء والتّجّار.

والقبيسيّات عمومًا من الشّخصيّات الجاذبة للزّواج عند الشريحة المتديّنة؛ فهنّ يجمعن بين متانة الالتزام، وحسن السّمت الظّاهريّ في الحجاب والمانطو، والثّقافة الجامعيّة.

فمن العلماء الكبار الذين تزوجوا منهنّ الدّكتور “محمّد سعيد رمضان البوطي” إذ كانت زوجته الثّانية “أميرة العرجا” من القبيسيّات، وقد تعلّق بها تعلُّقًا شديدًا ورثاها بمقال يفيض عذوبةً وألمًا عنونَه باسمها “أميرة” ونشره في كتابه ” من الفكر والقلب”.

وكذلك المستشار الشّيخ “فيصل مولوي” أبرز قيادات الإخوان المسلمين في لبنان ومن أبرز علماء العالم الإسلاميّ كانت زوجته من القبيسيّات السّحريّات.

ومن قادة العمل الإسلامي الكبار الذين تزوجوا من قبيسيّات القيادي المصري الأستاذ “يوسف ندا” أحد أبرز رموز جماعة الإخوان المسلمين وزوجته من الآنسات القبيسيّات الدّمشقيّات واسمها “آمال الشّيشكلي” وهي شقيقة الآنسة “دلال الشّيشكلي” التي تعدّ أهمّ آنسات القبيسيّات وقد توفيت قبل الثّورة السّوريّة بعمر أربعة وخمسين عامًا، ودلال وآمال هما ابنتا أخ أديب الشيشكلي الرّئيس السّوري السّابق.

ومن كبار التّجّار والأثرياء الذين تزوجوا من آنسات الطّبقة الأولى في القبيسيّات “هيثم السّيوفي” الذي تزوّج من الآنسة “نُهَيدة طرقجي”، وأمّا أختها “رصينَة طرقجي” فهي زوجة الدّكتور “إبراهيم الهوّاري” الذي توفّي في “آخن” في ألمانيا عام 2015م وهو من أبرز قيادات العمل الإسلامي المقرّبين جدًّا من الأستاذ عصام العطّار.

هذه “الزّيجات” حقّقت عبورًا قويًّا للقبيسيّات إلى الفضاءات الإسلاميّة الأخرى، كما أنّها تعلِّلُ أحد أسباب التّعامل الإيجابيّ من كثيرٍ من أبناء الجماعات الإسلاميّة مع القبيسيّات.

ومما تجدرُ ملاحظته بأنَّ غالبيّة القبيسيّات المتزوّجات من علماء أو مفكّرين أو قادرة رأي وعمل إسلاميّ لم يتغيرن أو يتأثر انتماؤهنّ بالمحيط الأسريّ الجديد، بل كنّ هنّ المؤثّرات تأثيرًا يصبّ في نهاية المطاف في خدمة الجماعة.

الهبات والهدايا

القبيسيّات لسنَ متفرّدات في انتهاج هذه الآليّة في الاستقطاب التي يستخدمها الجميع مسلمين وغير مسلمين، ولكنّ الواقع الذي عاشته القبيسيّات في بيئة خاضعةٍ للسّطوة الأمنيّة من جهة، وفي خضمّ انتشارٍ واسع للمدارس والتيّارات والجماعات المشيخيّة جعلهنّ يفعّلن هذه الآليّة بطريقة كبيرة.

فكانت تُستخدمُ الهدايا حيث يمكن ردّ أي استهداف لهنّ من الجماعات المشيخيّة أو الجهات الرّسميّة.

كما كانت تقدَّم للشخصيّات المؤثّرة لتكون داعمًا لهنّ، ومثال ذلك د. محمّد سعيد رمضان البوطي الذي أهدته الآنسة منيرة قبيسي بيتًا في حي ركن الدّين الدّمشقي رغم أنّه كان لا يقبل أيّة هدايا من المسؤولين الرّسميّين.

وممّا تميّزت به القبيسيّات تعميم ثقافة الإهداء داخل الجماعة؛ فكانت الهدايا تقدَّم للطالبات على نطاق واسع وفي مختلف مناسباتهنّ الشّخصيّة والاجتماعيّة مهما كانت هذه المناسبات بسيطة.

الانخراط في الوظائف الحكوميّة

كانت من الوصايا التي تشدّد عليها الآنسة منيرة ومن حولها من الآنسات هي الطلب من الخرّيجات الجامعيّات الانخراط في الوظائف الحكوميّة. لا سيما سلك التّعليم الذي كان يحظى باهتمام غير مسبوق من الجماعة.

وعندما كانت تعبّر إحداهنّ عن رغبتها بالعمل الخاص أو في شركة غير حكوميّة يشدّدن عليها بضرورة وأهميّة العمل في مؤسسات الدّولة.

وهكذا نرى بأنّ القبيسيّات انتهجن في الاستقطاب استهداف الشرائحَ النّوعيّة، والشخصيّات المفصليّة، والأصوات المؤثّرة، من أجل تأمين أرضية تنطلق من خلالها دعوتهنّ باتّجاه النساء في المجتمع وهي محاطة بالحماية ومرتكزة على الدعم المالي والمعنوي.

وبعدَ هذا، هل القبيسيّات “تنظيم” أم مجرّد جماعة دعوية، وما قصّة ألوان الحجاب وما دلالتها، وماذا عن مأسسة الدّعوة القبيسيّة؟!

الجواب عن هذا في المقال القادم بإذن الله تعالى

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى