القُبيسيّات وَعَهد حافظ الأسد (7)
بقلم الشيخ محمد خير موسى
لا يمكن فهم التحولات التي تجري في عموم الجماعات الدعويّة والتيارات الفكريّة في سورية دون العودة إلى حقبة حكم حافظ الأسد التي تعدّ الحقبة التي صاغت شكل سورية على ما هي عليه اليوم.
ومن المهمّ أن نلحظ أنَّ انطلاق النّشاط القبيسيّ كانَ في ستّينات القرن الماضي أي في ظلّ هيمنة حزب البعث على السّلطة؛ هذه الهيمنة التي كانت جسرًا لوصول حافظ الأسد إلى سدّة الحكم.
وهذا يفيدُنا بأنّ انطلاقة عمل الجماعة في ظلّ حكم البعث وفي فترة كانت التّصارع السّياسيّ في سورية في أجلى صوره وأشدّ حالاته قد ألقت بظلالها على توجّهات الجماعة التي اتّخذت موقفًا مبدئيًّا يتمثّلُ في تجنّب السّياسة والعمل بها أو تعاطيها أو مجرّد التّحدُّث بشؤونها وقضاياها في الحلقات.
فكان الحديثُ في السياسة محظورًا لا يجوز الاقتراب منه أو التّلميح إليه ولو في الدّعاء، منتهجين في ذلك عبارة الشّيخ بديع الزّمان النّورسي الشّهيرة “أعوذ بالله من الشّيطان والسّياسة” على اختلافٍ كبيرٍ بينهم وبين النّورسيّ في التّعامل مع السّياسة والسّياسيين.
بل أكثر من ذلك فقد حرصت القُبيسيّات على الدّوام على تصدير فكرةِ رفض الاقتراب من السّياسة والتّصريح بها للطّالبات وأهليهنّ وبالطّبع ستصل إلى أجهزة النّظام التي لم تكن غافلةً عن هذا النّشاط النّسائيّ الذي يتمدّد بهدوء.
تعاملت أجهزة النّظام السّوري لا سيما الأمنيّة منها بمبدأ غضّ الطّرف مع القُبيسيّات، رغم أنّ هذه الأجهزة ذاتها كانت تشنّ حربًا عسكريّة وأمنيّة وإعلاميّة على جماعة الإخوان المسلمين بكلّ مكوّناتها بما فيها أذرعها الدّعويّة والاجتماعيّة.
ويعودُ غضّ الطّرف هذا إلى اقتناع أجهزة الأمن في نظام حافظ الأسد بوجود بونٍ شّاسعِ بين القبيبسيّات وجماعة الإخوان، وبينهنّ وبينَ العمل السّياسي، إضافة إلى سياسة النّظام في تلك الفترة التي كانت تقوم على محاولة عزل جماعة الإخوان عن الواقع الاجتماعي والدّعوي وتصدير وترسيخ فكرة أنَّ مشكلة النّظام هي مع الإخوان ومن انخرط معهم في المواجهة لا مع الإسلام، فلذا كان لا يتمّ التّعرّض لعموم الجماعات الدّعويّة النّاشطة في دمشق وفي المدن الكبرى كحلب وحمص، وتمّ التّعامل مع القبيسيّات بالمنطق ذاته.
وغضّ الطّرف هذا لا يتناقضُ مع الاستدعاءات الأمنيّة الدّوريّة لبعض الآنسات والمشرفات، وهذه الاستدعاءات كانت تشمل عموم الخطباء والأئمة والدّعاة، وهي تهدف إلى إعطاء رسائل واضحة بأنَّ النّظام غير غافلٍ عمّا يدور حوله وأنَّ حربه على الإخوان لم تشغله عن غيرهم، إضافة إلى ضبط حركة هذه الجماعات المختلفة بما لا يخرجها مع الزّمن عن السّيطرة والتّحكّم.
بعد مجزرة حماة وما بات يُعرَف بأحداث الثّمانينات دخلت الحالة الدّعويّة وعموم العمل الإسلامي في سورية في نفق مظلم.
رغم هذا المشهد القاتم الذي عاشته سورية في ثمانينات القرن الماضي لم تتوقّف القبيسيّات عن العمل الدّعوي ولم تنتهِ الحلقات؛ غير أنَّ الجماعة في مساعيها للحفاظ على وجودها وبقاء كيانها كانت تسلك العديد من الإجراءات الاحترازيّة من أهمّها:
أولًا: “القَطعَة”؛ حيث كثرت القَطعات وهي كما ذكرنا من قبل إيقاف للعمل والنّشاط القبيسيّ احترازيًّا، فكان كلّما وقعت مجزرة أو تفجير أو عمليّة اغتيال تقطع الجماعة دروسها وتوقف نشاطها بشكل كليّ خشية التّعرض لأيّة ملاحقة أو تضييق إضافيّ.
ثانيًا: التّخفيف من الحركة والنّشاط، حيث عمدت الجماعة في تلك الفترة إلى تقليل النّشاط بشكلٍ كبير حتّى خارج أوقات “القَطعة” بحيث تتباعد مواعيد اللّقاءات وتقليل عدد أعضاء الحلقة، وقد كان لموقف الأهل الخائفين على بناتهم أثر كبيرٌ في قلّة النّشاط وعدد الطّالبات في تلك الفترة الحرجة.
ثالثًا: استثمار وقت التّوقّف عن النّشاط والحلقات في التّأليف والكتابة وإعداد المناهج، حيث كانت التّوجيهات للآنسات بضرورة استثمار عدم الانشغال بإعداد مناهج خاصّة بالجماعة من تأليف آنساتها.
والشّيخ عبد الله دكّ الباب هو مدير معهد بدر الدّين الحسني للعلوم الشّرعيّة في دمشق، وكان يُعرف باسم معهد الأمينيّة، تولّى في منتصف تسعينات القرن الماضي منصب مدير أوقاف دمشق.
وقد كانت هذه الفترة هي أواخر حياة حافظ الأسد الذي مات عام 2000م، ويمكن القول بأنَّ هذه السّنوات شهدت الحدث الأبرز للقبيسيّات في علاقتهنّ مع نظام حافظ الأسد.
حيث بدأت معركة حامية الوطيس بين الشّيخ عبد الله دكّ الباب وبين القبيسيّات كان عنوانها الظّاهر هو قضايا مالية متعلّقة بأوقاف تابعةٍ لجمعيّة بدر الدّين الحسني وللقبيسيّات علاقة مباشرة بها، وهي أوقاف تُقدّر بمئات الملايين من الدّولارات.
وفي تقديري أنَّ النّظام لم يكن هو الذي دفع دكّ الباب إلى إشعال هذه المعركة مع القبيسيّات، لكنّه كان راضيًا عنها سعيدًا بها ومستفيدًا منها الفائدة الأكبر.
ويمكن القول إنَّ هذه المعركة كانت بداية التّحوّل في منهجيّة تعامل النّظام مع القبيسيّات، وكانت هي السّبب الرّئيس في خروجهنّ من البيوت إلى المساجد، وقد كان الشّيخ عبد الله دكّ الباب يكرّر قسمًا بأنّه “سيخرجهنّ من جحورهنّ واحدةً واحدة”.
احتدمت المعركة التي كانت نيرانها تقوم على الاتّهامات المتبادلة بالفساد الماليّ، فكان الشّيخ عبد الله دكّ الباب يبرّر معركته عليهنّ بحرصه على تطهير الأوقاف من الفساد المالي الذي تحاول القبيسيّات فرضه على واقع الأوقاف التّابعة لجمعيّة بدر الدين الحسني، وبالمقابل فإنَّ القبيسيّات لم يألين جهدًا في توجيه الاتّهامات بالفساد المالي والفكري والسّلوكيّ للشّيخ عبد الله دكّ الباب.
استمرّت هذه المعركة إلى ما بعد عهد حافظ الأسد، لتكون نتيجتها الظّاهرة انتصار القبيسيّات حيث اعتقلَ الشّيخ عبد الله دكّ الباب وحكم عليه بالسّجن سبع سنين وأودع سجن عدرا المركزي.
غير أنَّ الحقيقة والواقع يثبت أنَّ المنتصر في هذه المعركة كان النّظام وحده، حيث أودع دك الباب السّجن وكانت نهاية المعركة بداية مرحلة جديدةٍ في عهد القبيسيّات وعلاقتهنّ مع نظام بشّار الأسد.
وفي السّجن ألّف عبد الله دكّ الباب كتابًا يقع في أكثر من أربعمئة صفحة عنوانه “ازدواجيّة المعايير؛ داءٌ عند بعض الدّعاة والدّاعيات في هذا العصر”
والكتاب محاولةٌ من دكّ الباب لإثبات براءته ممّا اتّهم به وسجن بسببه، وهجوم على القبيسيّات والدّعاة الذين ساندوا الجماعة ووقفوا معها.
واللّافت أنّ الكتابَ ألِّف وطبع إبّان وجود دكّ الباب في السّجن، ومن يعلم واقع سوريا يعلم أنَّ هذا من المستحيل أن يتمّ في ظلّ نظام الأسد، وأنّه ما كان ليكون لولا رضا وإرادة الأجهزة الأمنية التي بقيت تستثمر الأطراف المتنازعين في هذه المعركة حتّى الرّمق الأخير.
في عام 2000م مات حافظ الأسد، وأعلنت القبيسيّات مع موته إيقاف كلّ الحلقات والأنشطة والبرامج الدّعوية لفترة كانت هي الأطول في تاريخ الجماعة حيث امتدّت “القَطعَة” هذه المرّة لأكثر من سنة، لتعود من جديد مع عهد الأسد الابن وتحولات حقيقيّة طالت منهجيّة التّعامل مع الجماعة.
ولكن كيف تعاملَ نظام بشّار الأسد مع القُبيسيّات قبل الثّورة السّوريّة؟!
هذا ما سنجيب عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم
(المصدر: الجزيرة مباشر)