القُبيسيّات ونظام بشّار الأسد إلى ما قبل الثّورة (8)
بقلم الشيخ محمد خير موسى
“إجماع” بهذه الكلمة تمّ تعديل الدّستور في مجلس الشّعب في يوم إعلان موت حافظ الأسد ليغدو الشّابّ بشّار الأسد وريث الحكم في هذا النّظام “الجمهوريّ”
وكغالبيّة أطياف الشّعب ونخبه استبشرت القُبيسّات خيرًا بشعارات التّحديث والتّطوير التي رفعها بشّار الأسد.
وبعد “القَطعَة” الأطول التي دام توقّف النّشاط بها ما يزيد عن سنة استأنفت الجماعة نشاطها، وغرق الكثيرون من الإسلاميين وغيرهم في الحلم، وقبلَ أن يرى القوم أزهار “ربيع دمشق” استيقظوا من الحلم على أصوات مكابح دوريّات الأمن والضّرب بأعقاب البنادق على أبواب البيوت ليُقتاد كلّ الذين تمادَوا في الحلم إلى المعتقلات وليغدو “ربيع دمشق” سرابًا بقيعةٍ يحسبه الظمآنُ حريّة.
لكنّ اللّافت أنَّ نظام بشّار الأسد بدأ بعدَ أقلّ من سنةٍ واحدةٍ من استلامه للحكم يكشفُ عن توجّه جديدٍ مختلفٍ عمّا حاول الأسد الأب ترسيخَه وإقناع النّاس بأنَّ مشكلته ليست مع الدّعوة الإسلاميّة بل مع من كان يسمّيها “عصابة الإخوان المسلمين العميلة” ليكتشفَ النّاس شيئًا فشيئًا أنّهم أمام مرحلة جديدة لن تكون سهلةً على عموم العمل الدّعوي، وبدأت القبيسيّات يتحفّزن للمرحلة القادمة غير أنّهنّ لم يكنّ يتوقّعن أن يكنّ عنوان المرحلة؛ مرحلة المواجهة النّاعمة للعمل الدّعوي التّقليديّ.
كانت الدّراما هي وسيلة النّظام لإخراج القبيسيّات من غرفهنّ المغلقة ليصبحنَ حديث الشّارع.
ومن نافلة القول: إنّ الدّراما في الدول المحكومة من أجهزة الاستخبارات والخاضعة للقمع والاستبداد تعبّرُ بالضّرورة عن توجّهات هذه الأجهزة وتقدّم للنّاس رؤية النّظام للقضايا المطروحة مهما كانت.
وفي عام 2002م أدخل إعلام النّظام القُبيسيّات إلى كلّ بيتٍ عبر حلقة من المسلسل السّاخر ذائع الصّيت حينها “بقعة ضوء”.
وتمَّ طرح صورة الجماعة في هذه الحلقة بطريقةٍ ساخرةٍ والتّركيز على فكرتين أساسيتين هما: استهدافُ القٌبَيسيّات للطّبقة الثّريّة وخداع هذه الطّبقة باستمالتها للتّديّن، والفكرة الأخطر كانت تصوير الآنسات في الجماعة على أنّهنّ يوظّفن الديّن لأجل مصالحهنّ الشّخصيّة، واستثمار الدّعوة لأجل نهب الأموال والإثراء الشّخصيّ عبر استغلال الدّين.
وفي شهر رمضان عام 2005م أي في الفترة التي انتقلت فيها الجماعة من البيوت إلى المساجد؛ عُرض المسلسل الثّاني الذي يتطرّق للقبيسيّات وهو مسلسل “عصيّ الدّمع” الذي ألّفته “دلع الرّحبي” وأخرجه زوجها “حاتم علي”، وهو مسلسل يقدّم القبيسيّات بوصفهنَّ شريحةً لا يمكن تجاهلُها في المجتمع.
والفكرة التي يركّز المسلسل عليها فيما يتعلّق بالقبيسيّات هي انغلاق الجماعة وتطرّفها ورفضها للآخر، حيث تقوم الممثّلة “ثناء دبسي” بأداء دور الآنسة القبيسيّة التي تتحلّق حولها طالباتها وهي تعظهنّ في الأخلاق وتركّز على أهميّة الحجاب؛ ليصدمها ابنها الذي يؤدّي دوره المخرج “حاتم علي” بقراره الزّواج من فتاة غير محجّبة؛ لتدخل معه أمّه في مواجهةٍ عظيمةٍ وجدلٍ كبيرٍ يجسّد فكرة التّعصّب ورفض الآخر التي يريد المسلسل إيصالها عن القٌبيسيّات.
ومن اللّوحات التي تعزّز هذه الرّسالة في المسلسل مشاهد طالبة هذه الآنسة التي تؤدّي دورها الممثّلة “صباح جزائري” وهي طبيبةٌ كلّ همّها الحفاظ على ابنها المراهق لكن بعقليّة منغلقة وقمعيّة أدّت إلى نفور عموم الأسرة منها وزواج زوجها سرًّا.
وفي شهر رمضان عام 2006م عُرض مسلسل “المارقون” الذي أخرجه نجدة أنزور في عشر ثلاثيّات، وكلّ ثلاثيّة لها عنوانٌ مستقلّ وتتناول قضيّة خاصّة، كان نصيب القبيسيّات منها ثلاثيّةٌ بعنوان “البرزخ”.
ومن المهمّ التأكيد على أنَّ نجدة أنزور تربطه علاقة صداقة خاصّة ببشّار الأسد، وهو يعبّر في أعماله الفنيّة عن رأيّ بشّار الأسد وعموم النّظام الحاكم في سوريا.
ومسلسل المارقون من المسلسلات التي عملت على إلصاق وصف الإرهاب بكثيرٍ من الظّواهر الإسلاميّة وعمل أنزور في عموم أعماله الفنيّة على تقديم الشريحة المتديّنة بصورة في غاية القبح والبشاعة على الدّوام.
وثلاثيّة البرزخ كانت خاصّة بالحديث عن القبيسيّات، وكانت بطلة الثّلاثيّة الممثّلة “لمى إبراهيم” التي اكتشفها المخرج أنزور.
وتجسّد دور “سلمى” وهي فتاةٌ من عائلة متحرّرة ومخطوبة لشابٍ تعشقه، لتتغيّر حياتها بعد أن تتعرّف على القبيسيّات اللّواتي يسحبنها إلى الجماعة فتلبس الحجاب، وتدخل في قوقعة التّزمّت وتترك خطيبها، وتبدأ المشكلات بينها وبين أهلها وتعاملهم وكأنّهم كفّار.
ثلاثيّة “البرزخ” في مسلسل “المارقون” تجسّد صورة القبيسيّات بوصفهنّ جماعة متطرّفة تعمل على غسل أدمغة الفتيات وتخرّب العلاقات الاجتماعيّة وتنظر للمجتمع بوصفه كيانًا مارقًا من الدّين.
وعلى الهامش فإنّ إحدى بطلات ثلاثيّة البرزخ وهي الممثّلة “سوزان سلمان” لقيت حتفها في قذيفة هاون عشوائيّة على منزلها في مدينة دمشق عام 2014م.
في رمضان عام 2010م عُرض مسلسل “ما ملكت أيمانكم” الذي ألّفته “هالة دياب” وأخرجه نجدة أنزور.
وقد هاجم القُبيسيّات بشراسة وصوّرهن بوصفهنّ إحدى مفارخ الإرهاب، وهاجم عموم حالة التّديّن والدّعوة، وركّز النّظر على حلقات القُبيسيّات وصوّر علاقة الآنسات بالطّالبات والطّالبات فيما بينهنّ بشكلٍ يكرّس صورة المتديّنة بأنّها غارقة في الشّهوانيّة والنّفاق والخضوع.
وقد لاقى المسلسل هجومًا كبيرًا من الإسلامييّن عدا القٌبيسيّات اللّواتي يلتزمن الصّمت دومًا أمام أيّ هجومٍ يتعرّضن له، وكان أكثر الثّائرين ضدّ المسلسل د. محمّد سعيد رمضان البوطي الذي طالب بوقف عرضه، وحذّر من غضب الله عزّ وجلّ بسببه فقال:
“إنّني لست متنبّئًا بغيب، ولست من المتكهنين بأحداث المستقبل، ولكنّي أحمل إليكم النّذير الذي رأته عيني، إنّها غضبةٌ إلهيّةٌ عارمة، تسدّ بسوادها الأفق، هابطة من السّماء وليست من تصرّفات الخلائق؛ إنّها زمجرةٌ ربّانية عاتية تكمن وراء مسلسل السّخرية بالله وبدين الله، الفيّاض بالهزء من المتديّنين من عباد الله، إنّه المسلسل الذي أبى المسؤول عنه إلّا أن يبالغ في سخريته بالله وبدينه، فيقتطع من كلام الله في قرآنه عنوانًا عليه، ويسميه ساخرًا “وما ملكت أيمانكم”
وترافق عرض هذا المسلسل مع إجراءات عمليّة غدت تقضّ مضجع الجماعات الدّعويّة في سورية على أرض الواقع، حيث تمّ منع النّقاب في المدارس وشُنّت حملات اعتقال طالت عددًا من الشّخصيّات الدّعويّة والعلميّة الشّرعيّة والأساتذة في كليّة الشّريعة
من الواضح أنَّ النظام كان يهدفُ من خلال هذه العروض الدراميّة إلى هدفين رئيسين:
أولًا: تشويه صورة القُبيسيّات بوصفهنّ جماعة تحوّلت إلى ظاهرة متمدّدة تقلق النّظام من حيث رسم هويّةٍ مجتمعيّةٍ لا يريدها ولا يرتضيها وإن لم تكن تشكّل خطرًا يتهدّده، فعمد إلى التّركيز عليهنّ لعزلهنّ عن المحيط الاجتماعيّ.
ثانيًا: ضرب ظاهرة التديّن في المجتمع كونها ظاهرة تقلقه وتتناقضُ مع مبادئه ويراها تصبّ في خانة التّهديد الأمني عبر استهداف القُبيسيّات، فهنّ كنّ عنوانًا للنّيل من التّديّن عمومًا حتّى غدت توصف أيّ متديّنة بأنّها قبيسيّة حتّى لو لم تكن من الجماعة، كما أنّ استهداف تديّن القبيسيّات كان يهدفُ إلى شيطنة صورة المتديّن في المجتمع امرأةً كانت أم رجلًا.
ولكن ماذا كان الحال بين القُبيسيّات والنّظام عقب اندلاع الثّورة؟
هذا ما نجيب عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم.
(المصدر: الجزيرة مباشر)