بقلم محمد عياش الكبيسي
في الأسبوع الماضي عقدت كلية الشريعة في جامعة قطر مؤتمرها الأول لهذا العام بعنوان (الظاهرة الجمالية في الإسلام)، شارك فيه عدد غير قليل من الباحثين من الداخل والخارج، بما لا يقل عن ثمانية عشر بحثا، وهو وإن بدا كأنه خارج سياق القضايا والأحداث الساخنة إلا أنه في تقديري يحمل رسالة أخرى لهذا العالم مؤدّاها: أن الإسلام دين الرحمة والحياة والجمال، ولا يمكن أن يكون في لحظة ما سببا للشقاء.
إن إبراز الجانب الجمالي في الإسلام لا يهدف إلى دفع تهمة الإرهاب والتوحّش عن الإسلام بقدر ما يهدف إلى إرشاد الناس إلى المنهج الكفيل بإنقاذهم من هذا الأتون المهلك الذي أوقعتهم فيه الفلسفة المادّية للحياة، والتي تحكم اليوم هذا العالم، وإن استخدمت بعض الأدوات والواجهات الدينية.
القيمة المحورية التي دارت حولها المشاركات استندت إلى صفة من الصفات الإلهية الثابتة (إن الله جميل يحبّ الجمال) وهي جزء من حديث صحيح رواه مسلم: (عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس).
الله جميل، هذه عقيدتنا نحن المسلمين، ومن جماله انبثق كل جمال في هذا الكون، السماء ونجومها، والأرض وأزهارها، والطيور وألوانها، وأعلى من كل هذا جمال الإنسان (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، والجمال المبثوث في هذا العالم لم يستثن حتى الأنعام ودوابّ النقل والحمل (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) ثم يقول (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)، هذه النظرة الإيجابية الرفيعة التي يغرسها الإسلام في نفوس المسلمين حتى تجاه البغال والحمير من شأنها أن تعزز معاني الخير والذوق الرفيع في التعامل مع كل مفردات هذه الحياة، كنت أقول لصاحبي وأنا أسمع هذه الآيات: إذا كان حمار المسلم ينبغي أن يكون جميلا ونظيفا، فكيف ببيته وثوبه وسيارته؟
واكب هذا التنبيه إلى جمال الخلق تنبيه آخر، وهو التنبيه إلى جمال التشريع، والربط بين (قيم العبادة) و(قيم الجمال)، بعكس ما يتوهم بعض المتديّنين، يقول القرآن: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)، وكان باستطاعته أن يقول مثلا: خذوا ثيابكم واستروا عوراتكم، لكن الذوق الذي يغذّيه القرآن أرفع من هذا بكثير، هذا الذوق الذي جسّده النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: (لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ويتطهّر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمسّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري وغيره، فانظر إلى التناسق بين طيب البدن، وطيب الروح، وطيب الرائحة، وطيب الخلق، وكل هذه تساق سوقا واحدا، فمن أتمّها استحقّ المغفرة، فأي ربّ جميل ذلك الرب الذي يجعل النظافة والتعطّر سببا لقربه وعفوه ومغفرته؟
شاع عند الناس مقولة (النظافة من الإيمان)، وهي مقولة جميلة، لكنّ الحديث الوارد في معناها أدقّ وأجمل وأبلغ منها، فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الطهور شطر الإيمان)، فالطهور أعم من النظافة، وعبارة (شطر الإيمان) أكبر بكثير من عبارة (من الإيمان)، والطهور هذا واجب تشريعي نزل مع بدايات الوحي في قوله تعالى: (يا أيها المدّثر * قم فأنذر * وربّك فكبّر، وثيابك فطهّر).
بعد كل هذه الشذرات من نصوص الوحي كتابا وسنّة ألا تعجب من شدّة انبهار بعض المسلمين اليوم بالقيم الغربية، وتمجيدهم بما يرونه هناك من مظاهر النظافة والسلوك الحضاري المتميّز، وكأنهم يفتقرون فعلا إلى مثل تلك القيم! نعم صحيح أننا لا ينبغي لنا أن نغمط الآخرين حقوقهم، لكن أليس الأولى قبل هذا أن يسأل المسلم نفسه أين هو من قيمه الإسلامية؟
شدّ انتباهي في المؤتمر مقولة جديرة بالاهتمام؛ أن القيم الجمالية لا تدخل في باب (التحسينيات)، بل هي من (الضروريات)، والسبب في رأي الباحث أن البيئة النظيفة الجميلة تكون أقدر على التربية والتكوين السليم والنظيف، بخلاف البيئة الفوضوية التي تسهم عادة في تكوين ثقافة الكراهية والجريمة والعدوان، تذكرت عندها نصيحة قدمها أحد مستشاري صدام، قال له: إذا أردنا أن نحدّ من الجريمة ونزعة التطرّف الطائفي في مدينة صدام (الصدر حاليا) فعلينا أن نوسّع من الملاعب الرياضية والحدائق العامة.
لا شك أن حديث (الطهور شطر الإيمان) يعزز من أصل هذه الفكرة، فالطهور ليس أمرا تحسينيا ولا تكميليا، كما أن الترابط بين هذه المعاني ومعاني الاحترام والعلاقات الطيبة واضح، فالمسلم يتطهّر ويتطيب ولا يفرّق بين اثنين ويسمع للإمام، هذه كلها تساق سوقا واحدا وفي حديث واحد.
أما أولئك الذين بدّلوا الرحمة شقاء، والحبّ كراهية، والجمال توحّشا، وجعلوا من اسم الله الجميل شعارا لأحقادهم وأمراضهم، ومركبا لأطماعهم وأغراضهم (حكم الله) و(خلافة الله) و(حزب الله) و(آية الله) و(ثأر الله) و(شعب الله) و(أبناء الله)، فكلهم مهما اختلفوا سواء، أولئك الذين كرّهوا الحياة لأهلها، وكرّهوا الله لعباده، تعالى الله عن إفكهم، وتنزّه الدين عن فعلهم ؟
المصدر: الاسلام أون لاين.