بقلم د. جاسر عودة
كنت حديث التخرج من المدرسة الثانوية، وطالبًا بجامعة القاهرة في بدايات الثمانينيات، حين لاحظ والدي – رحمه الله – نزعة مِنْ ما سمّاه (التطرف) تنمو في عقلي وتصرفاتي شيئًا فشيئًا. كنت قد خلعت البنطال ولبست الجلباب، وقاطعت التصوير، وحرقت صوري، وحاربت التلفاز، واستخدمت المسك والسّواك بصرامة؛ بل وحملت عصا أهش بها على أصدقائي في ذلك الوقت؛ لأحثهم على فعل المعروف وتجنب المنكر، ولاحظ الوالد – رحمه الله – كذلك أنني تركت قراءة الكتب بالإنجليزية والفرنسية كما تعلمت في مدرستي الأجنبية، وفرّغت نفسي تقريبًا لحفظ القرآن وصحيحي البخاري ومسلم.
واتصل الوالد قلقًا بصديق قديم له، تشاركا السجن في أيام عبد الناصر، ألا وهو الأستاذ حَسَن دُوح – رحمه الله – واستشاره في أمر (الولد) و(تطرفه)، فرد الأستاذ حسن: (ابعثه لي وأنا أوجهه). وقد كان. فأذكر أنني زرت الأستاذ حسن في موعد ضربه لي في شقته الأنيقة (أغلب ظني أنها كانت في حي المعادي بالقاهرة)، وهالني أن أجد عنده ضيفين من المشايخ، لم أكن أعرف إلا اسمهما، وأسمع عنهما كلامًا عامًّا، ألا وهما الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – والشيخ إسماعيل صادق العدوي – شيخ الجامع الأزهر في الثمانينيات – رحمه الله. ولا أذكر تفاصيل الحوار الذي دار بين الضيوف، والذي أذكر أنني راقبته صامتًا، ولكنني أذكر أنهم حين عرفوا من الأستاذ حسن أن عمي هو القاضي الشهيد عبد القادر عودة، أنهم تذكروه بالخير، وطلبوا مني أن أكون على خطاه، وأذكر أنني قلت في نفسي وأنا أغادر المكان: (هذا هو الإسلام! هذه هي الربانية التي كنت أبحث عنها).
وبدأت حياتي تأخذ منحى مختلفًا: دروس وخطب الشيخ العدوي في الجامع الأزهر والدروس في مضيفة بيته تشكل وعيي بالعلم الذي ورثناه من تراثنا، ومحاضرات وخطب وكتب الشيخ الغزالي تشكل وعيي في كيفية تفعيل هذا التراث في الواقع، وعلاقة القرآن والسنة التي حفظت متونهما بعلوم الدراية، التي طالما تحدث عنها الشيخ، وبقضايا الإسلام ودعوته في عصرنا.
ودائمًا ما أقول لأصدقائي وأسرتي إنه لولا الشيخ الغزالي تحديدًا لكنت ذهبت مع الذاهبين في ذلك الوقت إلى أفغانستان مع دعاوى (الجهاد)، التي كانت تروّج لها الحكومات العربية – بالتعاون مع (الإسلاميين) في ذلك الوقت – وأقول كذلك إنه لولا الشيخ الغزالي أيضًا لكنت قد بقيت طيلة حياتي حركيًّا جامدًا، لا أدور مع مصلحة الإسلام حيث دار؛ بل أدور مع أشخاص وجماعات بعينها – وكانت جماعة الإخوان في مصر قد أثرت في الطلبة في تلك المرحلة الجامعية – وأقدّس الأسماء والهياكل التنظيمية، بدلًا من تقديس الحق والعدل حيثما كان. وأحسب أن ألوفًا مؤلفة من الشباب قد مرّوا بنفس التجربة، وتأثروا بالشيخ الغزالي – رحمه الله – نفس التأثير، وهذا مدخلي للحديث عن القيمة التي أحب أن أطلق عليها (إستراتيجية) لأستاذنا الشيخ الغزالي؛ بل أستاذ أساتذتنا كفضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي وأستاذنا الدكتور محمد سليم العوا وأستاذنا الدكتور محمد عمارة وأستاذنا الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله، وغيرهم كثير.
الأمة
رغم أن الشيخ – رحمه الله – كان مصريًّا جدًّا في كلامه وعاداته – بل وكان مشاركًا مع السلطات المصرية في بعض المناشط كما سيأتي – إلا أن شعوره بالأمة الإسلامية كان حاضرًا في كل ما يقول ويفعل، وكان جيّاشًا في عاطفته تجاه هذه الأمة، وفي نقد أي فكر أو شخص يمكن أن يفسد عليها دينها أو حالها؛ بل وكان يقاوم – برشاقة قلمه وشدة لسانه المعهودتين – كل الدعاوى الجاهلية من القوميات العربية والمصرية وغيرها، والتي أرادت أن تنحرف بهوية الأمة، وتخدم أعداءها بتفريقها وتمزيقها شيعًا متناحرة.
والأهمية الإستراتيجية لفكر وأسوة الشيخ – رحمه الله – في التعامل مع قضايا الأمة، تكمن في توحّش الدول الوطنية الإسلامية هذه الأيام، وإصرارها على حصر الإسلام وعلومه والهوية التي يمنحها للمسلمين في جاهلياتهم الضيقة وسلطاتهم المستبدة. وغني عن القول إن حب الوطن سنة إلهية ونبوية – على صاحبها الصلاة والسلام – ولكن حب الوطن لا يعني حصر الإسلام فيه، وعدم التماهي مع كل مسلم تمامًا كما يتماهى الإنسان مع بني بلدته أو قريته.
كنت – مثلًا – على الهاتف مؤخرًا مع طالب مغربي، نصحته أن يكتب رسالة ماجستير عن الشيخ الإمام المقاصدي الطاهر بن عاشور، فإذا به يخبرني أن جامعته رفضت الموضوع؛ لأن الشيخ ابن عاشور: (ليس مغربيًّا؛ بل هو تونسي) – على حدّ ما قالوا له. ومنهج الشيخ الغزالي هو تجاوز تلك الحدود الوهمية ما بعد الاستعمارية، والتركيز على الأمة كأولوية، وهو ضرورة علمية وعملية.
المقاصد
بل إن الشيخ الغزالي – رحمه الله – هو أول من سمعتُ منه مصطلح (مقاصد الشريعة)، واسم الشيخ (الطاهر بن عاشور)، وكان يقول إن الشيخ ابن عاشور إمام كبير، ولكنه لم يأخذ حقه من الاهتمام والدراسة، ويوصي طلبة العلم بدراسته ودراسة المقاصد.
وأثر المقاصد على فكر وفقه ومواقف وحياة الشيخ الغزالي موضوع مهم، وأنوي الكتابة فيه إن قدر الله لي ذلك خلال أيامي في هذه الحياة، وقد كتبت مبحثًا في كتابي (مقاصد الشريعة عند الشيخ القرضاوي)، عن تأثر شيخنا الشيخ القرضاوي بأستاذه الشيخ الغزالي، والمدرسة المقاصدية المهمة التي نشأ يكوّن فكره وفقهه فيها، والتي كان من أعلامها مشايخه ومشايخ وزملاء الشيخ الغزالي كذلك، كالشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ محمد أبي زهرة، والشيخ شلتوت، والشيخ الخضر حسين، وغيرهم من مشايخ الأزهر في القرن العشرين، الذين واصلوا ما بدأه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من الإحياء العلمي، من خلال مقاصد الشريعة الإسلامية، وخاصة تراث الشيخين الإمامين الشاطبي وشاه ولي الله الدهلوي.
و(المنهجية المقاصدية) أصيلة في فكر الشيخ الغزالي وفقهه، وقد ظهر ذلك في شتى الموضوعات التي تدلنا أكثر على (إستراتيجية) منهج الشيخ – رحمه الله -، والأهمية الإستراتيجية لعلم المقاصد مما أكتب عنه، أو أدندن حوله دائمًا.
المرأة في الإسلام
والشيخ الغزالي – رحمه الله – له فقه متميز في موضوع المرأة، صرح به بكل شجاعة أيام كانت السلفية على الطريقة السعودية في أوجها، وكانت في رأيي تستغل موضوع المرأة وسيلة من أجل نشر الأيديولوجية السياسية السلفية؛ نظرًا لأنه موضوع حساس، وذو مظاهر واضحة (في مسألة النقاب والغناء وتلك الأمور)، وله قبول عند أصحاب السياسة المستبدة؛ لأنه يهمّش نصف المجتمع ويجهّله ويكسره؛ مما يجعل التعامل مع النصف الثاني أسهل.
ولطالما عانى الشيخ – رحمه الله – من النقد المغرض الذي وجهت سهامه إليه تلك الأيديولوجية، وطالما صدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، كالذي كتبه مثلًا في تقديمه للدراسة الرائعة للشيخ الراحل الدكتور عبد الحليم أبي شقة (تحرير المرأة في عصر الرسالة)؛ إذ كتب الشيخ الغزالي يقول: (وددت لو أن هذا الكتاب قد ظهر من عدة قرون)، ونال الشيخ من ما كتبه ما ناله في سبيل الله والحق.
وقد كان لي شرف ترجمة كتاب الشيخ الرائد (المرأة المسلمة بين التقاليد الوافدة والراكدة)، بالتعاون من أبناء الشيخ – حفظهم الله – الذين وضعوا الكتاب بالإنجليزية على الشبكة العنكبوتية منذ عام 2000م، وما زال يحمّل منه ألوف النسخ من موقعي الخاص ومواقع أخرى، وكان لي شرف ترجمة كتابه «مستقبل الإسلام في الغرب»، والذي كان له أيضًا أثر طيب في الشرق والغرب.
هذا وإنّ تخلّي الجيل الجديد من حكام الخليج العربي عن السلفية؛ بل وحربهم هذه الأيام لرموزها من كافة التيارات، لهو نذير فراغ فكري إستراتيجي في العالم العربي والعالم الإسلامي الأوسع. فبعد كل تلك الأموال والأوقات التي صُرفت على تلك الأيديولوجية، سيكون من الصعب فطام الشباب الذين شابوا والصغار الذين كبروا عليها، وأرى أن كتب وأفكار الشيخ الغزالي من أهم آليات ملء ذلك الفراغ الحاصل هذه الأيام؛ وذلك حتى لا يملؤه أصحاب البضاعات المزجاة في التجديد، الذين لا يفرقون بوعي بين الثوابت الراسخة والمتغيرات التي تدور مع المصالح والمقاصد، كما كان منهج الشيخ – رحمه الله.
الجهاد
والشيخ الغزالي – رحمه الله – لم يكن يجفل عن الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، ولم يحجم يومًا عن عرضه كجزء أصيل من إرشادات القرآن وسنة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيخ – رحمه الله – كان يدرك أن أفضل صورة يقوم بها هذا الجهاد في واقعنا هي في تبني الجيوش الرسمية له في بلاد الإسلام، وحملها لواء الجهاد من خلال النظام القومي من دون تناقض معه، وقد شارك الشيخ – رحمه الله – في وعظ وإرشاد وتشجيع الجنود المصريين قبل وأثناء حرب أكتوبر 1973، وكان حديثه عن الجهاد وراء صيحة الجنود (الله أكبر)، والنية المنضبطة في الجهاد عند كثير من هؤلاء الجنود.
وأذكر أنني فاجأتني شهادة الشيخ أمام المحكمة المصرية التي حكمت في قضية اغتيال الأستاذ فرج فودة، أن الشباب الذين اغتالوه إنما (افتأتوا على السلطة) على حد تعبيره، وإنني الآن على الرغم من اختلافي مع وجهة نظر شيخنا الجليل، إلا أنني أتفهم حرص الشيخ – رحمه الله – على كل أحكام الإسلام، وأقدر قوله الشجاع لما رآه حقًّا، بغض النظر عن اعتراض المعترضين.
وإننا في هذه الأيام بحاجة ماسة لتجديد سيرة الشيخ وفكره في موضوع الجهاد في الإسلام، وقد صار تهمة؛ بل وأصبح يتبرأ منه بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة، وإن إشكالية ما يسمى (الإرهاب) لا تُحل بالتبرأ من الجهاد؛ بل بالعكس، تحُل بفهم الجهاد الحق، ودعوة الشباب من خلاله للتخلي عن (الإرهاب).
الفكر والتجديد
ولا يتسع المقام – للأسف – للاستفاضة في ما تعلمناه من شيخنا الراحل، ولا في عدّ أفضاله العلمية والنفسية عليّ – كطويلب علم له – ولكن لا يسعني هنا إلا أن أشيد بأهمية منهج الشيخ – رحمه الله – في الفكر والتجديد، وذلك من عدة جوانب – إضافة إلى ما ذُكر أعلاه – أولها: أهمية التكامل المنهجي بين الروح والمادة، أي بين التصوف والفقه، ففقه الشيخ – رحمه الله – لم يكن بعيدًا عن فقه القلب أو التصوف، وشرحه لبعض حكم ابن عطاء الله، التي كتب فيها كتابًا بعنوان (الجانب العاطفي في الإسلام) خير شاهد على ذلك. وثانيها: أهمية فقه سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتكامل ذلك الفقه مع فقه الكتاب والسنة؛ حتى ترتسم لوحة متكاملة من تلك الأسوة الحسنة المنشودة. وثالثها: أهمية الفقه الحركي الذي أودعه كتبه، التي ناقشت موضوعات الدعوة والحركة، وإنني أعذر الشيخ الجليل في بعض الشدة التي تظهر في تلك الكتب على بعض رموز الحركة الإسلامية؛ ذلك أن تهميش الحركة الإسلامية للشيخ على مدار العقود أدّى إلى إشكاليات فكرية حقيقية، وتحالفات بين التيار الوسطي والتيار السلفي، كانت من أكبر الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها الحركات الوسطية، وما زالت تقع فيها فكرياً وحركياً. حَريّ بكتب الشيخ أن تبدأ في التأثير على الحركات الإسلامية والمؤسسات والجامعات الإسلامية؛ حتى تعدّل من وجهاتها الإستراتيجية الحالية، والتي أثبتت فشلها في محاربة الاستبداد والغزو الفكري والعسكري – كما يرى الآن القاصي والداني.
خاتمة
هذا وإن الرحلة الأهم في حياة شيخنا كانت مع كتاب الله تعالى؛ تلاوة (وقد كان يختمه كل أسبوع)، وتجويدًا (وكانت له تلاوة خاشعة متفكّرة)، وتفسيرًا (وتفسيره الموضوعي بداية يمكن البناء عليه؛ نحو فهم عصري ومتجدد لكتاب الله تعالى)، ولغة (وقد كانت عربيته متينة أصيلة بليغة)، وفقها (وقد كان وقافا عند المحكمات من كتاب الله لا يلتفت لما سواها من أقوال الناس أو ما يزعمون أنه سنة إذا تعارضت مع القرآن). رحم الله الشيخ محمد الغزالي، وأخلف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يحمل الراية، وحفظ التلاميذ وتلاميذهم، وأعانهم على ذلك، والحمد لله رب العالمين.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)