بقلم قاسم عبد الواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد:
ففي هذه الحلقة يكون الحديث حول المقارنة بين القواعد المقاصديّة والفقهيّة؛ ببيان ما بينهما من التشابه والوفاق, وما بينهما من الاختلاف :
أوَّلاً: أوجه التوافق بين القاعدة المقصديّة والفقهيّة.
الوجه الأوّل: أن القاعدة الفقهيّة هي حكم كليّ أو أكثريّ ينطبق على جميع أو أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه[1], والقاعدة المقصدية مشتركة مع الفقهية في هذه الصفة؛ وهي الانطباق على الجزئيّات المندرجة تحتهما.
الوجه الثّاني: الاتفاق في الغاية؛ وهي تبيين الحكم الشرعي الذي خاطب الشارع به المكلفين فيما لا نص فيه, والوقوف على هذا الحكم في الوقائع والمستجدات كما أراده الشارع؛ فمثلا الغاية النهائية من القاعدة الفقهية: المشقة تجلب التيسير؛ التي أصلها قول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}[2], وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[3], وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»[4]؛ متفقة مع الغاية النهائيّة للقاعدة المقصديّة ضمنًا[5].
ثانيًا: الفروق بين القاعدة المقصديّة والفقهيّة.
الفرق الأوّل: من حيث الحقيقة: فالقاعدة الفقهيّة هي حكم كليّ أو أكثريّ ينطبق على جميع أو أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه[6].
وأما القاعدة المقصدية: فهي التكاليف الشرعية التي ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية[7]. وقيل: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظَمِها, وتدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها, وكذلك ما يكون من معانٍ من الحكم لم تكن ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها[8]. فالقاعدة المقصدية من حيث الجملة بيان الغاية والحكمة التي أرادها الشارع الحكيم من تشريع الحكم؛ بينما القاعدة الفقهية بيان لحكم شرعي كلي يتفرع عنه الكثير من الأحكام التي تدخل ضمن الحكم الكلي العام, وفرق بين التعبير عن الحكم الكلي, والتعبير عن الحكمة والغاية[9].
الفرق الثاني: أن القواعد المقاصدية في المكانة والاعتبار ما يجعلها صنوا للنصوص الشرعية. أمّا القواعد الفقهية فمنها ما هي محل اتفاق بين العلماء؛ كالقواعد الكلية الخمس: الأمور بمقاصدها, واليقين لا يزول بالشك, والعادة محكمة, والضرورات تبيح المحظورات, والمشقة تجلب التيسير؛ وغيرها من القواعد الأخرى المتفق عليها كقاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح, وقاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله.
ومنها ما هي محل خلاف بين العلماء؛ منهم من اعتبرها وبنى عليها الأحكام, ومنهم من لم يعتبرها كقاعدة: الأجر والضمان لا يجتمعان, فهي قاعدة معتبرة لدى الحنفية؛ وهي مستندهم في عدم إيجاب الأجرة على من غصب دابة وكانت تستعمل للأجرة ثم هلكت الدابة, فعند الحنفية: يضمن الغاصب قيمة الدابة دون الأجرة؛ لأن الأجر والضمان لا يجتمعان. بينما كان الشافعية والحنابلة على أنه متى كان للمغصوب أجر, فعلى الغاصب أجر مثله مدة مقامه في يده, سواء استوفى المنافع, أو تركها تذهب[10]. قال الدكتور محمد الرحيلي: هذه القاعدة تشهد لمذهب الحنفية فقط، وعند غيرهم من الأئمة لا اعتبار لهذه القاعدة، ويجتمع الأجر والضمان، كالغاصب الذي انتفع بالمغصوب وهلك، فإنه يضمنه وعليه الأجرة[11]. فقلة الخلافات في المقاصد تعطيها مزية ومكانة زائدة على ما للقواعد الفقهية.
الفرق الثالث: قال الدكتور سميع الجندي: مرتبة القاعدة المقصدية أعلى وأهم من مرتبة القاعدة الفقهية بسبب الموضوع الذي تتناوله القاعدتان؛ فالقاعدة الفقهية تعبر عن حكم شرعي كلي, بينما القاعدة المقصدية تعبر عن غاية تشريعية عامة, وما الأحكام إلا وسائل لتحقيق المقاصد, والغايات مقدّمة على الوسائل[12].
ثالثا: بعض من القواعد المقصدية:
أولا: قواعد مقاصدية تتعلق بالمصالح والمفاسد:
* إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد[13].
* أن ما حرمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة[14].
* اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي, فلا تذم من جهة كونها لذة؛ وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل, أو أعقب حصولها ألما أعظم من ألم فواتها…. وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم, ولذة الدنيا أصغر وأقصر وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا[15].
* حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به[16].
ثانيا: قواعد مقاصدية تتعلق بالترجيح:
* قاعدة الشرع تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما[17].
* الشريعة لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة, وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة[18].
المراجع
[1] غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 1/51, المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب 2/929 بالتّصرّف من الباحث.
[2] سورة الحج: 78.
[3] سورة البقرة: 185.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه 1/16 برقم 39 كتاب الإيمان/ باب: الدين يسر.
[5] ينظر: مقاصد الشريعة؛ للدكتور سميع الجندي ص:383 بنوع من التصرف.
[6] غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 1/51, المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب 2/929 بالتّصرّف من الباحث.
[7] ينظر: الموافقات للشاطبي 2/17 بتصرف يسير.
[8] مقاصد الشريعة لابن عاشور 2/21.
[9] ينظر: مقاصد الشريعة؛ للدكتور سميع الجندي ص:383 بتصرف يسير.
[10] المصدر السابق ص: 385 بتصرف يسير.
[11] القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة 1/547.
[12] مقاصد الشريعة؛ للدكتور سميع الجندي ص:384.
[13] إعلام الموقعين 3/11.
[14] المصدر السابق 4/85.
[15] الفوائد لابن القيم ص: 200-201.
[16] إعلام الموقعين 2/92.
[17] المصدر السابق 3/217.
[18] مقاصد الشريعة؛ للدكتور سميع الجندي ص:394.
(المصدر: الملتقى الفقهي)