القفال الشاشي الكبير
وكتابه: محاسن الشريعة في فروع فقه الشافعية
إعداد : د. وصفي عاشور أبو زيد
القفال الشاشي الكبير وكتابه: “محاسن الشريعة في فروع فقه الشافعية”[1] هو موضوع حديثنا، وقد ذكره الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة وأثنى عليه[2]، ونقل عنه ابن حجر في الفتح في موضعين[3]، وهذا يدل على أن الكتاب كان موجودًا حتى عصر ابن حجر، وهو القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي؛ حيث توفي ابن حجر عام 852هـ/ 1449م.
والكتاب مقسم إلى مصاحف وكتب وأبواب، جاوزت (120) المائة وعشرين بابًا في الفقه الإسلامي، جعل المصحف الأول للحديث عن العبادات، والمصحف الثاني للحديث عن النكاح والطلاق وما يلحق بهما من أحكام، وأحكام الأحرار والعبيد والحرائر والدماء، والثالث للحديث عن النفقات والفرائض والبيوع والوصايا والعتق، والرابع عن الجنايات والحدود والقضايا والشَّهادات.
وطبيعة المادة التي احتواها هذا الكتاب لا نستنتجها نحن، وإنما نترك بيانها للقفال نفسه؛ إذ يقول عن غرضه من تأليف الكتاب بأنه: “في الدلالة على محاسن الشريعة ودخولها في السياسة الفاضلة السمحة، ولصوقها بالعقول السليمة، ووقوع ما نورده من الجواب لمن سأل عن عللها موقع الصواب والحكمة”[4].
وعن المقصد من سائر ما تضمنه الكتاب قال: “هو تقريب الشرائع من العقول في قبولها وجوازها من السائس الحكيم فيما تصرف فيه فيمن تحت يده”[5].
وقال في خاتمته: “ونرجو أن يكون ما ضمَّنَّا كتابنا هذا من مفتتحه إلى حيث انتهينا إليه من هذا الوضع قد أتى على ما قصدنا بيانه من انطواء الشريعة على معانٍ مستحسنة، وإليه قريبة، وبه لاصقة، والحمد لله رب العالمين”[6].
وقد ضمن القفال كتابه هذا – ضمن ما تكلم في مقدمته الكلامية الجدلية – الحديث عن أمرين هامين: الأول: تحسين الشرائع على وجه الإجمال، ومحاسن الشرائع على التفصيل.
ففي تحسين الشرائع على وجه الإجمال ذكر أنها معللة بمقتضى صفة الحكمة للسايس الحكيم سبحانه، وابتغائه الصلاح لمن تحت يده، حتى ما يخفى علينا علته يكون معلولًا بالعلة العامة، وهي المصلحة، ثم ذكر محاسن وأسرار العبادات والمعاملات والجنايات مجملًا[7].
وفي كلامه عن محاسن الشرائع على وجه التفصيل مهَّد بتمهيد يؤكد فيه على أن الله تعالى يعلم بمقتضى حكمته ما فيه مصالح عباده، كان أول ما تعلقت به الشريعة هو تعظيم العبد لمالكه الذي هو خالقه وموجِده، ولا يسعه إلا أن يتلقى ما يأمره به بالشكر والتعظيم لأمره والطاعة له فيما يفرضه عليه، وهي مقدمة لازمة، وبخاصة في العبادات التي جعل الله مناطها استصلاح الخلق بصفة عامة، وأنه لا حاجة وراء هذا إلى علل تطلب خاصة للعبادات في أنفسها إلا على سبيل التعنت والمعاندة والقصد للاعتراض على أصول الشريعة في الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب[8].
وهذه مقدمة اعتذارية مقبولة تجبر العجز عن إدراك الحكمة أو المقصد من الأحكام العملية التفصيلية، كل حكم على حِدَته، ولكن مقتضى الحكمة الإلهية يوجب أن يكون لكل حكم مقصدٌ من تشريعه، علِمه مَن علِمه، وجهِله مَن جهِله، وربما يفتح الله على المتأخر بالمقصد من الحكم كما لم يفتح على السابق، ولكل مجتهد نصيب، فما أدركنا مقصده من الحكم الجزئي أثبتناه، وما لم نستطع الوصول لمقصده – عبر مسالك الكشف عنه المعتبرة – فوَّضنا فيه العلم لله، وفي الوقت نفسه لا ننفي أن يكون له مقصده، ويمكن أن ندرجه ضمن المقصد الأكبر، وهو مصلحة الخَلْق والتعبد لله تعالى حتى يفتح الله على من يفتح عليه بإدراك المقصد من تشريع الحكم.
كما ذكر المؤلف أن غرضه من كتابه بيان أن الشريعة تنطوي على معانٍ مستحسنة تقبلها العقول السليمة والفِطر النقية، ودخولها في السياسات الفاضلة السمحة؛ فهو يبين الأسرار والمعاني ووجوه مجيء التشريع على هذا النحو، ومن أمثلة ما قاله:
الفرع الأول: ترتيب الوضوء:
ذكر أن الوجه من ترتيب الوضوء على هذا النحو – الوجه واليدان والرأس والرِّجلان – لأن أول ما يظهر للاقٍ ممن يلقاه هو وجهه كله، ولا يتمكن من النظر لرأسه إلا بتكلف، والوجه هو الذي يحيَّا ويدعى له بالكرامة…ثم اليدان بعد ذلك يتلوان الوجه في وقوع البصر عليهما، فأما الرِّجلان فلا يلحقهما البصر إلا بتكلف….وأما المضمضة والاستنشاق فإنه يبدأ بهما قبل غسل الوجه؛ لأن ما في الفم والأنف من لزوجات الأشياء يحتاج إلى علاج، وتقع به روائح فتغيرهما، فإزالتهما أولى[9].
الفرع الثاني: تغريب الزاني البكر سنة:
قال: “وأما وجه التغريب للزاني البكر سنة: فقد يحتمل أن يكون ذلك على معنى مفارقة البلد الذي فيه المزني بها، فلا يعاودها، ولا تتوق نفسه إليها باليأس، فكان الاجتماع معها، وكذلك في مفارقة الزانية في بلد الزاني بها.
وقد يجوز تحديد السنة على معنى مرور الفصول الأربعة من الأزمنة على مرتكبي الزنا، فيذوق الغربة في جميع فصولها، لما يذكر من خفة الغربة على صاحبها في بعض الفصول أو شدتها عليه في بعض؛ لتتم العقوبة بهذا المعنى في النفي، والله أعلم”[10].
الفرع الثالث: القضاء والشهادات:
وفي كتاب القضاء والشهادات قال: “والوجه في هذا الباب – يعني القضاء – أن الله خلق الناس خلقة نقص، وحرص على اختلاف المنافع، وخص بالعصمة أولياءه ورسله، فأما من عداهم فإنهم لما جبلوا عليه من النقص والحرص يسهَوْن وينسَوْن، ويجحدون الحقوق ويكذبون، ويؤثرون في كثير من الأحوال طاعة السلطان وعبادة الهوى على طاعة الله، فيتظالمون ويتغاصبون، فلو تركوا بها زجوا فهلكوا، فلم يكن بد من قطع الخصام بينهم على أيدي المنصوبين للحكم من الأئمة والقضاة في خلفائهم”[11].
هكذا – كما حدَّد القفال غرضه من الكتاب، وكما ترى – يدور حديثه حول محاسن الشريعة وبيان أوجه مناسبات الأحكام للعقول السليمة والفِطر النقية، ويبين الأسرار والحكم، وهو كلام – في مجمله – يعبِّر عن “مُلَح العلم”، ولا يعبر عن “صُلْب العلم”، كما يعبر الإمام الشاطبي.
وليس معنى هذا أن الكتاب يخلو من مقاصد جزئية، بل إن فيه بعض لمحات ونظرات مقصدية عميقة، ولا سيما فيما سوى العبادات، ومن ذلك: أنه في تأخير جلد الزاني بسبب شدة البرد أو الحر، قصد إقامة الحد بالتأديب لا الإتلاف، وبنى على ذلك أمورًا، واستشهد لها بأدلة، مما يدل على أن له تأثيرًا في توجيه الحكم، ومن ذلك: تأخير الرجم للمرأة الحامل حتى لا يتلف الجنين، وإن كانت مرضعًا أخّر أيضًا حتى تتم رضاعته ويجد من يكفله ويؤمن تلفه، كما أن المحدود يؤدب بما يحمله حاله من أنكال النخيل أو شيء مجموع يورد عليه دفعة واحدة احترازًا من التلف[12].
ولعل من النافع الإشارة في هذا المقام إلى أن القفال الشاشي الكبير بداية سلسلة مقاصدية ممتدة قد تعبر عن مدرسة كاملة هي المدرسة الخراسانية، تضم الخطابي، والقفال الصغير، والقاضي حسينًا، والبغوي، وإمام الحرمين الجويني، والغزالي[13]، وهذا مما يحتاج إلى دراسة وتتبع لإبراز الجهود المقاصدية لهذه المدرسة وأثرها في الفقه الشافعي.
—————————————-
[1] حقق هذا الكتاب حتى آخر كتاب النكاح، كمال الحاج غلتول العروسي في رسالته للدكتوراه بإشراف د. يوسف عبدالمقصود، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى عام 1412هـ – 1992م، ثم نشر هذا الكتاب كاملًا للمرة الأولى بعد قرون عام 1428هـ/ 2007م عن دار الكتب العلمية ببيروت، بعناية محمد علي سمك، وهي طبعة رديئة أساءت للكتاب، وعلمت من صديقنا الدكتور محمد السليماني أنه يقوم على تحقيق الكتاب منذ مدة طويلة.
[2] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: 2/ 42، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] فتح الباري: 9/ 445، و577، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
[4] محاسن الشريعة في فروع فقه الشافعية: 17، بعناية محمد علي سمك، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1428هـ – 2007م، ومحاسن الشريعة: 1/ 90، تحقيق: كمال الحاج غلتول العروسي في رسالته للدكتوراه بإشراف د. يوسف عبدالمقصود، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى عام 1412هـ – 1992م.
[5] محاسن الشريعة: 138، رسالة الدكتوراه.
[6] محاسن الشريعة: 607، طبعة دار الكتب العلمية، وأول كلمة في النص خطأ، والصواب: “ونرجو”؛ وذلك لأن الواو أصلية، وعلامة الجمع هي النون، فتكتب بغير ألف.
[7] السابق: 26، وما بعدها.
[8] السابق: 33 – 35.
[9] السابق: 62 – 63.
[10] السابق: 579.
[11] السابق: 600، وإن كنا لا نوافق الشيخ على القول بعصمة الأولياء.
[12] السابق: 580.
[13] راجع في طبقات الخراسانيين: المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية: 36 – 37، د. علي جمعة محمد، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424هـ/ 2004م، وانظر كتابه: الإمام الشافعي ومدرسته الفقهية، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1421هـ= 2000م.
*المصدر : شبكة الألوكة