القصة الكاملة لسقوط البشير.. ثورة حقيقية أم مجرد تغيير في الوجوه؟
إعداد موقع العلاقات الدولية الالكترونية E-International Relations / ترجمة كريم طرابلسي
في وقت مبكر من صباح يوم ١١ نيسان/ أبريل، انتشرت بين حشود المتظاهرين المعتصمين خارج مقر الجيش في أم درمان أنباء تفيد بأن وزارة الدفاع السودانية على وشك إصدار بيان بالغ الأهمية. بدا أن المتظاهرين الذين كانوا يسعون منذ فترة غير قصيرة لإرغام الديكتاتور السوداني عمر البشير على التنحي بعد عقود في الحكم، بدا وأنهم يعرفون بشكل بديهي ما الذي كان على وشك الحدوث. وبالفعل أعلنت وزارة الدفاع أن البشير قد تنحى عن منصبه بعد زهاء ثلاثين عامًا في سدّة الرئاسة. هنا، كان لوجود أعداد كبيرة من أفراد ومركبات القوات المسلحة السودانية، وليس جهاز المخابرات والأمن الوطني أو الشرطة، دلالة مهمة.
ثم أعلن وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف أن الجيش سوف يدير شؤون البلاد بعد استقالة البشير، وأشار إلى أنه سيتم تشكيل حكومة مؤقتة في الوقت المناسب. كما تم إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر مع فرض حظر التجول في جميع المراكز الحضرية الرئيسية من الساعة ١٠ مساءً إلى الساعة ٥ صباحًا يوميًا لمدة شهر واحد. وقال الوزير أن الجيش سوف يقوم بإغلاق المدينة والحكومة لمدة ٢٤ ساعة بينما يتم إنهاء الترتيبات الانتقالية. في الوقت الذي كان وزير الدفاع يصدر إعلانه، الذي تم بثه على راديو أم درمان، انتشرت تقارير تفيد بأن الرئيس السابق عمر البشير وعددا من كبار مساعديه تم عزلهم في الإقامة الجبرية فيما كانت الشائعات بين الحشود تفيد بأن قادة الأحزاب السياسية الرئيسية سوف يجرون مشاورات مع كبار القادة العسكريين.
بحلول وقت كتابة هذا التقرير، كانت التفاصيل حول من كان رهن الاعتقال أو من كان يشارك في العملية (الانتقالية) لا زالت غير واضحة. بعد فترة وجيزة من إعلان الجيش، رد تجمع المهنيين السودانيين، وهو أحد المنظمات الرائدة في تنظيم الاحتجاجات، معلنا أن استقالة البشير وتحركات وزير الدفاع هي انقلاب عسكري وأن التجمّع وغيره من قادة الاحتجاج سيواصلون اعتصامهم حتى يتم الإعلان عن الانتقال إلى حكومة مدنية. واستخدم المتحدث باسم التجمّعات المعارضة لغة قوية قائلا “يجب أن يتولّى المدنيون الآن السلطة من الجيش”. في هذه الأثناء، تتكشف تطورات جديدة كل يوم، وعلى سبيل المثال، بعد مرور ٤٨ ساعة فقط من توليه السلطة، تنحى وزير الدفاع أيضًا مفسحا الطريق لعبد الفتاح برهان عبد الرحمن، المفتش العام السابق للجيش، ليتولى رئاسة المجلس العسكري الانتقالي.
في حين أنه كان من المتوقع أن تحدث هذه الأحداث في نهاية المطاف في شكل ما، لم يكن أحد يتوقع حدوثها بهذه السرعة دون مقاومة أقوى من البشير ومؤيديه الرئيسيين. تشير نظرة أولى إلى الأحداث بأن شبح مصير قادة ليبيا ومصر كان يلوح بقوّة في الأفق بالنسبة للبشير. ويقول العديد من أولئك القريبين مما يحدث في السودان أن الدراما التي تتكشف يوما بعد يوم تتشابه مع الأحداث التي وقعت في مصر خلال السنوات الأخيرة. أشارت التقارير إلى أن الجيش، إلى جانب سجن البشير والدائرة المحيطة به، بدأ أيضًا في البحث عن واحتجاز الأشخاص المرتبطين بالإخوان المسلمين في السودان والذين لهم صلات قوية بالجماعات الإسلامية التي ساعدت البشير في الوصول إلى السلطة في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي. اليوم يوجد هناك فراغ كبير في السلطة، في وقت تنتشر فيه الشائعات كالنار في الهشيم. في مثل هذا الوضع المتقلب، يمكن أن يؤدي عدم اليقين إلى تشجيع أولئك الذين كان قد تم اقصاؤهم لفترة طويلة والذين يتطلعون إلى تأمين مشاركتهم في المشهد السياسي الناشئ الى المجازفة والإقدام والمبادرة.
يتناول هذا المقال الجوانب الرئيسية للأسباب التي ساعدت في بقاء نظام البشير ثم سقوطه في نهاية المطاف، من خلال دراسة كلّ من العوامل المحلية والدولية. على الرغم من كون الفترة الحالية احدى أكثر الأوقات سلمية في تاريخ السودان الحديث، فإن حركة احتجاج كبرى نجحت في إحداث تغيير سياسي كبير في البلاد. وعلى الرغم من وجود علامات على تحسن الاقتصاد (قبل المظاهرات)، اندلعت احتجاجات السودان بفعل الضغوط الاقتصادية المباشرة على الطبقة الوسطى والمهنية. انبثقت حركة الاحتجاج هذه التي أدت إلى سقوط عمر البشير من رحم المجتمعات السياسية الأساسية في السودان، ولم تكن تمردًا عنيفًا بدأ في أطراف السودان. وقاد حركة التغيير هذه جيل أصغر من المهنيين، وخاصة من الأطباء والمهندسين. إذ أن الاقتصاد السياسي لحكم البشير، حيث سمح نظام الرعاية العسكري له ولنظامه بالبقاء في السلطة، قد أفلس وانتهى تاريخ صلاحيته. أخيرًا، يحلل المقال ما إذا كان انتقال السلطة من البشير إلى قادة الجيش يعكس فعلا التغيير الثوري الذي يطمح الكثيرون في تحقيقه أم لا.
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، شهد السودان احتجاجًات مستمرة ركّزت على هدف الإطاحة بالرئيس عمر البشير. كانت شرارة تلك الاحتجاجات هي الزيادة الكبيرة في أسعار السلع الأساسية. بمعنى آخر، كان تعثّر الاقتصاد في قلب الأزمة الحالية. ومع ذلك، فإن العامل الرئيسي وراءها لم يتمثل في المشكلات الاقتصادية بشكل عام، بل كان هو طبيعة الطبقات الاجتماعية التي لحق بها الأذى جرّاء التحديات الاقتصادية الحالية. إذ شعرت طبقة المهنيين الشباب التي تعيش في المراكز الحضرية الرئيسية بالسودان مثل الخرطوم وأم درمان بضغط كبير بسبب التضخم السريع في الأسعار والإحباط إزاء الزبائنية والفساد الأوسع الذي ينخر في عظام النظام، حيث كانت قد اعتادت هذه الطبقة على الإعانات والدعم المقدم على السلع الأساسية في ظل النظام الاقتصادي الرعوي الذي استخدمه نظام البشير كوسيلة للحفاظ على شعبيته أو على الأقل القبول الضمني من قبل المجتمعات السياسية الرئيسية في البلاد.
ما حدث هو أن أعدادا كبيرة من الشباب الساخطين استجابت لتعبئة تجمّعات المهنيين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصالات الجديدة، مما يذكر بما حدث خلال الربيع العربي. ردّ جهاز الأمن الداخلي للبشير على الاحتجاجات بشكل مفرط، مما كان له أثر المزيد من التشجيع لهذه المجموعات عوضا عن ردعها. على الرغم من أن نظام حزب المؤتمر الوطني/ الجبهة الإسلامية الوطنية الذي ترأسّه البشير لم يتردّد في السابق أبدًا في استخدام العنف، إلا أن السيطرة على المجتمعات السياسية الرئيسية في الخرطوم وأم درمان في السابق كانت تتم تقليديا من خلال تحريك الشخصيات الرئيسية في المناصب العليا في نظام المحسوبية وليس العنف المباشر.
في الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد السوداني في الانفتاح على جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويستوعب أثر المراحل الأولى من رفع العقوبات الأمريكية المفروضة منذ عقود على البلاد، قررت حكومة البشير فجأة إنهاء الدعم على الكثير من السلع التي كانت قد أبقت الأسعار منخفضة للعديد من المستهلكين. لكن الولايات المتحدة لم تقم بإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما حال دون حدوث تغييرات فورية في النشاط الاقتصادي، بما في ذلك تخفيف عبء الديون وجذب الاستثمارات في البنية التحتية. فكان أن ظهرت حملة تتحدى الحكومة كرد فعل على الأزمة الاقتصادية، حيث طالب الكثيرون بتخفيف الزيادات الجديدة في الأسعار.
واصل المتظاهرون تنظيم صفوفهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصالات المختلفة لتنسيق الاحتجاجات المستمرة
أصبح أحد تجمّعات الأطباء طليعة الحملة التي تألفت أساسا من الأطباء وغيرهم من أصحاب المهن العاملين في المدن الرئيسية في السودان، وخاصة الخرطوم وأم درمان. حاولت الأجهزة الأمنية منع الاحتجاجات من خلال اعتبارها غير قانونية. نكّلت الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي بالعديد من المتظاهرين خلال عدد من الحوادث المتفرّقة، حتى أن الأجهزة الأمنية استخدمت القوة في العيادات الطبية والمستشفيات لاعتقال من يعتقد أنه كان لهم أدوارًا رئيسية في تنظيم الاحتجاجات وتم استهداف كل من الأطباء ومرضاهم. بالنسبة للكثيرين، اجتاز مثل هذا السلوك كافة الخطوط الحمر وحفز بالتالي المزيد من الاحتجاجات. انتشرت بعدها مقاطع الفيديو التي تظهر أفراد الأمن وهم يقتحمون المنشآت الطبية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مما استدعى اهتمامًا دوليًا كبيرًا بهذه الاحتجاجات، ودعم نشطاء حقوق الإنسان حول العالم. ثم واصل المتظاهرون تنظيم صفوفهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصالات المختلفة لتنسيق الاحتجاجات المستمرة.
على عكس ما قام به إزاء التهديدات السابقة لنظامه، اتخذ البشير هذه المرة رد فعل قوي فأعلن حالة طوارئ وطنية، وأقال معظم المسؤولين السياسيين وأعاد تعيين شخصيات أمنية أو عسكرية في جميع المستويات والدوائر الحكومية. استقال البشير من قيادة الحزب السياسي الحاكم، على أمل أن يتم قبول ذلك على أنه تنازل. لكن قراراته لم تفعل الكثير لتغيير الوضع، بل شجع الكثيرين على المضي قدما حيث اعتبر الكثيرون هذه الخطوة بمثابة حيلة سياسية لم تنطل عليهم. كما فشلت عمليات اعتقال المنظمين السياسيين من الأحزاب السياسية الرئيسية والعائلات السياسية، وكذلك اعتقال وتهديد أعضاء الجمعيات المهنية الرئيسية المشاركة في الاحتجاجات، في إنهاء التظاهرات. امتدت الاحتجاجات بعدها الى كافة شرائح المجتمع، حيث ظهرت مجموعة من الأدلة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر ارتكاب الدولة للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان، ليس فقط ضد المجموعات المهنية الأساسية المنظمة للاحتجاجات ولكن على نطاق أوسع في المجتمع أيضا.
إذن، يبدو أن رد الفعل العنيف والقمعي من قبل جهاز أمن الدولة ألّب المتظاهرين على المزيد من الاحتجاج. كان يمكن للمظاهرات أن تخفت مع مرور الوقت، كما حدث في العديد من الاحتجاجات من قبل، لو لم يحدث استهداف للمرافق الطبية والمهنيين من قبل الأجهزة الأمنية، الذي انتشرت لقطات فيديو له فأصبح بمثابة دعوة للمزيد من الاحتجاجات. كما يعتقد الكثيرون أنه لو لم يتم استهداف المرافق الطبية والمهنيين أمام أعين العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الاحتجاجات مثل الكثير من قبلها كانت ستكون قصيرة الأجل. لقد استحضر البعض أحداث الربيع العربي لتفسير الأزمة الحالية ولماذا قد تكون مختلفة عن الاحتجاجات والتهديدات التي واجهت البشير ونظامه في العديد من المناسبات منذ توليه السلطة في انقلاب في عام ١٩٨٩. لكن الديناميات وراء الاحتجاجات تشمل أيضا تغييرات كبرى في المنطقة وفي السياسة الدولية. إذا ما أضيف ذلك الى العوامل المماثلة لتلك التي شهدتها المنطقة إبّان انتشار حركات الاحتجاج في جميع أنحاء المنطقة خلال الربيع العربي، سنحاول فهم لماذا هذه التغييرات مثّلت تحديات أكثر أهمية لنظام البشير هذه المرّة.
لقد نجا البشير مرارا وتكرارا في مواجهة أزمات لا تعد ولا تحصى على مر السنين، من العزلة الدولية إلى حركات التمرد المدعومة إقليميا، من خلال الاستفادة من سياسة حافة الهاوية محليا والمناورة على المسرح الدولي. على الرغم من أنه كان ولا يزال مطلوبا من قبل المحكمة الجنائية الدولية إلى جانب عدد من أتباعه، استطاع البشير ونظامه الهروب من ضغوط المجتمع الدولي والانتصار على التمرد الداخلي في دارفور والشرق، بما في ذلك صدّ الضربة مباشرة على الخرطوم وقلب جهاز الأمن السوداني في أم درمان من قبل حركة العدل والمساواة في دارفور عام ٢٠٠٨.
مثلا، ساعد الاتفاق الذي تم التفاوض عليه مع الزعيم التشادي إدريس ديبي في عام ٢٠٠٨ وتم التأكيد عليه في عام ٢٠١٠ على تهدئة جبهة دارفور. وأدى قبول اتفاق تسوية مع المتمردين الجنوبيين في الحركة الشعبية لتحرير السودان في عام ٢٠٠٥ إلى إنهاء الحرب الأهلية التي دامت ٢٢ عامًا، فتم تأمين نظام البشير ضد التهديد العسكري المتنامي الذي كان يمثله التحالف المحتمل بين المتمردين الجنوبيين ومتمردي دارفور والمتمردين الشرقيين تحت مظلة ما يسمّى “التحالف الديمقراطي الوطني”. بعد ذلك، استطاع البشير تجاوز امتحان انفصال جنوب السودان وفقدان السيطرة الكاملة على الثروة النفطية التي كانت شريان الحياة لنظامه القائم على الزبائنية الرعوية. بالنسبة إلى رجل عسكري قوي مثل البشير، كان يجب أن تؤدي الهزائم من هذا النوع إلى سقوطه، ولكنه أثبت فعاليته في استحضار ما يكفي من الخطاب الديني لضمان دعم مجموعة من المؤيدين المحليين، إلى جانب إدارته الفعالة للعلاقات الدولية لنظامه.
ارتبط السودان والبشير بمعظم الأحداث والتغيرات الدولية الكبرى منذ عام ٢٠٠٠، ولكن في عصر ما بعد هجمات ١١ سبتمبر، أصبحت التحديات لنظامه أكثر أهمية وتأثيراً. لكن نظام البشير، الذي استطاع تخطي آثار نهاية الحرب الباردة، نجح في صد الحملة الدولية للتدخل الإنساني في السودان باسم “المسؤولية عن الحماية” رداً على الإبادة الجماعية في دارفور، وتجنب (بل حتى استفاد في بعض الطرق) من الحرب العالمية على الإرهاب والحملة ضد تنظيم القاعدة. كما أنه من خلال التعامل بمهارة مع التوازنات السياسية في الشرق الأوسط والتنافسات العميقة داخل منطقة الخليج، حافظ نظام البشير في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع كل من المملكة العربية السعودية وإيران على الرغم من الصراع الجوهري بين القوتين. حتى أن البشير أعاد تعليب نفسه كصانع للسلام، فتوسط مؤخرًا للتوصل الى إعادة إحياء اتفاقية السلام في جنوب السودان والتي كانت قد فشلت في إنهاء الحرب الأهلية في ذلك البلد (٢٠١٣-٢٠١٨) بشكل فعال قبل تدخله شخصيا في صيف ٢٠١٨.
كان تحييد الصراعين الرئيسيين في السودان يرجع في جزء كبير منه إلى اتفاقات بين البشير نفسه ورئيس جنوب السودان سلفا كير، إضافة إلى التقارب مع الزعيم التشادي إدريس ديبي
على الرغم من إعلان النظام حالة الطوارئ، فقد جاءت الاحتجاجات الحالية في مرحلة تعد الأقل عنفا في التاريخ السوداني الحديث. وفقًا لبيانات مشروع مواقع النزاع المسلح وأحداثها (ACLED) التي تراقب حالات النزاع، شهد السودان انخفاضًا كبيرًا في حوادث النزاع والوفيات في السنوات والأشهر الأخيرة. كما أنه بعد التطورات السياسية الأخيرة ازداد احتمال أن تقوم واشنطن برفع العقوبات الأمريكية على النظام، جزئيا على الأقل بشكل كان سيسمح للسودان بالحصول على قطع الغيار اللازمة للصناعة، والاستثمارات الرأسمالية، والقدرة على البيع في الأسواق العالمية دون القيود التي فرضتها العقوبات الطويل الأمد، وهذا بدوره كان من شأنه أن يوفر دفعة قوية للاقتصاد السوداني. ومع ذلك، ففي نفس الوقت الذي كان يتم فيه تقديم وعود بإحياء الاقتصاد، ارتفعت الأسعار وجاءت موجة التضخم، فلم ينمُ الاقتصاد بالسرعة الكافية للاستجابة لهذه الضغوط.
كان تحييد الصراعين الرئيسيين في السودان يرجع في جزء كبير منه إلى اتفاقات بين البشير نفسه ورئيس جنوب السودان سلفا كير، إضافة إلى التقارب مع الزعيم التشادي إدريس ديبي. استطاع البشير بذلك تأمين الحدود الجنوبية والغربية، وحافظ أيضًا على مكتسباته وعلى التحكّم بجزء كبير من الثروة النفطية التي كان يخشى الكثير من أنصار النظام أنهم سيخسرونها لصالح الجنوبيين بعد استقلال جنوب السودان.
البشير أصبح أقل قدرة على توحيد الجماعات المحلية باستخدام التهديد من الصراعات لإجبار السودانيين على القبول الضمني على الأقل بحكمه العسكري
في الوقت نفسه، حصل تقارب بين الدول الواقعة في الإقليم المحيط بالسودان، حيث وافق جميع المعنيين بالهيئة الحكومية الدولية للتنمية (IGAD) على عدم السماح للمعارضين والمتمردين في الدول الأعضاء بالحصول على الحماية والدعم من أي دولة أخرى في التجمع. كان من بين المؤشرات المهمة لهذا الانفراج الإقليمي حصول المصالحة بين القيادة الإرترية والإثيوبية، الأمر الذي كان من شأنه أن يحفز ديناميكية جديدة في القرن الأفريقي. يتمثل أحد المكونات الرئيسية للمصالحة هذه في الاعتراف بسيادة الدول المجاورة، والعمل من خلال الهيئات الدولية، والأهم من ذلك الابتعاد عن الدعم المتبادل للمتمردين بين الدول المتناحرة. على الرغم من أن هذا التحسّن في العلاقات كان لا يزال في مرحلة مبكرة، إلا أنه قام بفتح مجال اقتصادي وسياسي إقليمي جديد لم يكن موجودا سابقا.
قد يستنتج التفكير التقليدي إذن أن تقلّص التهديد الذي يمثّله التمرد المدعوم من الخارج وانعدام الأمن عبر الحدود كان ينبغي أن يساعد في تقوية نظام البشير. ومع ذلك، يبدو أن الديناميكية الموجودة على الأرض تناقض هذا الطرح، لأن البشير أصبح أقل قدرة على توحيد الجماعات المحلية باستخدام التهديد من الصراعات لإجبار السودانيين على القبول الضمني على الأقل بحكمه العسكري. في الماضي، سمحت النزاعات على طول الحدود وفي محيط السودان للبشير بصد مساعي جماعات المعارضة في الخرطوم لأنه كان قادرًا على رسم صورة مقنعة للبلاد على أنها تواجه تهديدات وجودية. إذن يبدو أن هذه الفترة التي قلّت فيها مخاطر الحرب من التهديدات الخارجية قد حفّزت شريحة من المجتمع السوداني، أي فئة الشباب المتعلمين / المحترفين، على تحدي قبضة البشير المحكمة على السلطة. ولقد كشفت هذه الفترة من السلام النسبي أن نظام البشير كان يعتمد بشكل كبير على منظومة فاسدة من المحسوبية، والتي رأى العديد من المهنيين الشباب أنها غير قابلة للاستدامة.
أما الوضع الاقتصادي الذي لعب دورا كبيرا في تحفيز حركة الاحتجاج أيضا فهو يذكّر بالموقف الذي سبق الثورة السورية في عام ٢٠١١. اجتمع رفع الدعم على السلع والتضخم المرتبط بتحرير السوق وزيادة تدويل الاقتصاد لتهيئة الظروف التي أدّت إلى المزيد من الإفقار بين الفلاحين، فيما واجهت الطبقات المتوسطة والمهنية الحرمان الاقتصادي بسبب بدء ظهور نسخة فاسدة من النيو-ليبرالية في البلاد. أي أنه على الرغم من توفر عناصر النجاح الاقتصادي على المدى الطويل، فإنه على المدى القصير، تسببت هذه العوامل في زيادة الفقر والاضطراب الاقتصادي بين أولئك الذين كانوا في السابق يتمتعون بمستويات معيشية مستقرة نسبيا.
بالنظر إلى مستوى العنف الذي أنزله نظام البشير بشعبه، كما هو الحال في الشرق والجنوب ودارفور، فقد يبدو غريبا للقارئ أن الحدث الحالي مثل تحديًا أكبر للنظام نظرًا للعنف المنخفض نسبياً الذي حدث منذ بدء الاحتجاجات في أواخر عام ٢٠١٨. ربما قد يكون العامل الجوهري عنا هو قرب الاحتجاجات من المجتمعات الأساسية لقيادة الحياة السياسية السودانية، وهي مفتاح السلطة الوطنية منذ الاستقلال عن البريطانيين في عام ١٩٥٦ كما سنرى.
في بيئة تتميّز بترابط عالمي متزايد، أسفرت حركة الاحتجاج السودانية الحالية عن تهديد ذات طبيعة مختلفة لنظام البشير. منذ الانقلاب العسكري الذي قاده البشير في عام ١٩٨٩، بل حتى منذ حقبة الاستقلال السوداني في عام ١٩٥٦، كانت الحياة السياسية السودانية تتمحور حول الانتماءات الطائفية-القبلية الأساسية لأولئك الذين يشكّلون قاعدة السلطة في الخرطوم وأم درمان. منذ الاستقلال، مارس قادة الخرطوم سياسة فرق تسد كما استخدم كلّ من البشير وصادق المهدي والنميري شكلاً من أشكال الرعاية الممزوجة بسياسة التفريق بين المجتمعات السياسية، سواء أكانت هذه هي من القبائل أو التجمعات الاجتماعية الأخرى التي تعيش في محيط المجتمعات السياسية الرئيسية.
تمثل الطوائف الدينية / الثقافية الرئيسية في وسط السودان قاعدة القوة السياسية الرئيسية لزعماء البلدان. مثلا، تعتبر الطريقة الصوفية الختمية (الميرغنية) المرتبطة بقبيلة الشايقية في شمال السودان واحدة من المجتمعات السياسية الرئيسية التي تركن إليها سلطة القادة السودانيين. كما أن حركة المهدية أو الأنصار، وهي حركة دينية وسياسية سودانية أصيلة، تمثّل أيضا انتماءً طائفيا رئيسيا يتنافس مع الطريقة الختمية. خلقت عسكرة نظام البشير إلى حد ما مجموعة انتماء ثالثة، لكنها من نواح عديدة قامت بتجنيد عناصر رئيسية من الطائفتين، مما سمح لهما بالاستمرار في الوجود، مع قيام جنرالات البشير بتأليب الجماعتين ضد بعضهما البعض للبقاء في السلطة.
جاء البشير، وهو نفسه من قبيلة الشايقية، إلى السلطة من خلال الأجهزة العسكرية والاستخباراتية، حيث قام بدمج الشرائح الأكثر تطرفًا من كلا الطائفتين مع عناصر الأجهزة الأمنية المحبطة من الضعف الملحوظ للعديد من القادة السياسيين والمجتمعيين الراسخين إزاء التهديدات المتزايدة من التمردات في الجنوب ودارفور والشرق. بناء على رأس المال السياسي الكبير هذا، وما يرتبط به من استغلال الموارد لخدمة هياكل المحسوبية في النظام، وصل البشير إلى السلطة في انقلاب غير دموي نسبياً، بعد إضعاف قيادة الأحزاب السياسية المرتبطة تقليديًا بالمهدية/الأنصار و الشايقية/الميرغنية.
بنى البشير مجموعة سياسية رئيسية ثالثة من رحم الانتماءات الطائفية التقليدية، بالجمع بين العسكريين والعناصر الأكثر تعصبًا دينيًا كما تجسّد ذلك في دمج الأحزاب السياسية للجبهة الإسلامية الوطنية وحزب المؤتمر الوطني. كان نظام المحسوبية من السمات الرئيسية لهذا الهيكل السياسي، فكان أن أدى إلى تفاقم الطبيعة المركزية والفاسدة للسلطة والثروة التي كانت موجودة مسبقاّ في السودان منذ الحكم الاستعماري. كما طور البشير جهازًا أمنيًا متشعبًا، يتنافس فيه جهاز الأمن الداخلي والمخابرات مع الجيش. على رأس هذا الهيكل التنظيمي، اعتمد نظام البشير الرعوي على تناوب الأفراد في مناصب السلطة والدولة، مما أبقى هؤلاء الأشخاص دائما في موقف دفاعي وفي حالة من عدم اليقين والخطر الدائم بفقدان مناصبهم وقدرتهم على الوصول إلى رأس المال، وهو أمر ضروري للقادة لتغذية الفروع الخاصة بهم من شبكة المحسوبية.
إلى جانب منح امتيازات خاصة للنخب التي اعتمد عليها البشير للبقاء في السلطة، قام النظام أيضا إمّا بإغراء قادة المجتمع من المستوى المتوسط في الطوائف الرئيسية أو إبقائهم تحت السيطرة من خلال التخويف. وتم استخدام الدعم على السلع والإعانات وتوزيع المناصب البيروقراطية وحتى القبول في الجامعات بشكل تكتيكي لإدارة قواعد السلطة الأساسية للمجتمعات السياسية الرئيسية المذكورة أعلاه. لكن عندما فاقت التحديات الاقتصادية قدرة البشير على تأمين موارد خارجية كافية أو استعمال التهديدات الداخلية لغرض تحويل الأنظار، بدأ المهنيون الشباب والقادة الناشئين للمجموعتين السياسيتين الرئيسيتين في تحدي النظام الحالي. مع مرور الوقت، اتخذ النظام أيضًا تدابير قمعية متزايدة للحفاظ على ولاء الشخصيات الرئيسية وشبكاتها.
الافتقار للقدرة على خلق وظائف جديدة برواتب كافٍية، في مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، ساهم في تهيئة الظروف لحركة الاحتجاج السودانية
عند التعامل مع التهديدات العسكرية الكبيرة، كان النظام فعالاً في إبقاء شخصيات موالية دائمة الحضور استخدمها البشير للسيطرة على القادة العسكريين الرئيسيين وعلى القادة الدينيين. توضح العلاقة المترنحة مع كل من حسن الترابي (أبرز المنظرين الدينيين في الجبهة الوطنية الإسلامية) وصلاح قوش (رجل المخابرات/الجيش القوي منذ فترة طويلة) ، حيث قام بترقيتهم إلى مناصب عليا ثم قام بطردهم ثم إعادة تعيينهم مجددا – وحتى سجنهم من وقت لآخر – توضح كيف كان البشير يقوم بالحفاظ على سطوته.
كان تدهور الاقتصاد تطورا أساسيا أضعف قدرة البشير على الحفاظ على سيطرته. لكن هناك جانبا محدّدا من الوضع الاقتصادي يفسر الاضطرابات الأخيرة، عوضا عن المصاعب الاقتصادية بشكل عام. إذ أنه في حين تمكن البشير من تأمين بعضا من الثروة النفطية عندما انفصل جنوب السودان، فقد انخفض مستوى رأس المال الآتي من النفط بشكل كبير. حاول البشير سد الفجوة من خلال الذهب والسلع الأساسية الأخرى ، لكن ذلك لم يكن كافياً. وقد طالب الصينيون وغيرهم من الجهات الداعمة، على الرغم من استمرارهم في التعامل مع البشير، بإعادة دفع الديون بشكل متزايد وكانوا يضغطون إما للحصول على تخفيضات أكبر على السعر الذي يدفعونه مقابل موارد مثل النفط أو الذهب أو إعادة دفع الديون نفسها.
أمضى البشير قدراً هائلاً من الوقت في إعادة التفاوض مع الدائنين الصينيين والسعوديين والماليزيين. في الوقت الذي عمل فيه البشير على إنهاء العقوبات الأمريكية، على أمل أن يوفر ذلك دفعة كافية للاقتصاد، فإن الآثار المترتبة على الاضطرار إلى التخلي عن الدعم على السلع كان لها تأثير أكبر بكثير على الوضع المالي اليومي للأشخاص العاديين. مع ارتفاع التضخم، أصبح الوعد بالتنمية الاقتصادية على المدى الطويل التي كان يمكن أن يؤدي إليها رفع العقوبات حلما بعيد المنال. أما في الوقت الحاضر، أصبح الافتقار إلى القدرة على خلق وظائف جديدة برواتب كافٍية، في مواجهة ارتفاع سريع في تكاليف المعيشة في السودان، من السمات الرئيسية للاقتصاد السوداني بشكل ساهم في تهيئة الظروف لحركة الاحتجاج لأن تنمو وتتسع كما نشهد في السودان.
بالإضافة الى بالوضع الاقتصادي وتحول طبيعة الاقتصاد السياسي، هناك تحول ديمغرافي “جيلي” يحدث أيضًا في السودان، مما يفاقم القضايا التي نوقشت أعلاه. إذ مثّل عدد الشباب الكبير والمتنامي عنصرًا أساسيًا في التحدي المحلي الذي واجهه البشير. وفقًا لشعبة السكان بالأمم المتحدة، فإنه من بين إجمالي عدد السكان البالغ ٤٣ مليون نسمة، هناك ٢٥ مليونًا تقل أعمارهم عن ٢٤ عامًا، وعشرات الملايين ممن تقل أعمارهم عن ٤٠ عامًا في البلاد. ومن المتوقع أن تنمو الفجوة العمرية بشكل كبير في السنوات المقبلة.
في الماضي، وبالعودة إلى الحملة ضد الحكم الاستعماري البريطاني، كان الشباب والشرائح المتعلمة في المجتمع عنصرا حاسما في المشهد السياسي السوداني. لقد كان القادة في كثير من الأحيان شبابا ومن المتعلمين تعليما جيّدا. كان يشترط للحصول على المقاعد في الحكومة حيازة شهادات جامعية، ما كان يسمّى “مقاعد الخريجين”، وشكّل ذلك سمة مهمة لحركات التغيير في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من السودان. حتى حملة البشير للاستيلاء على السلطة في عام ١٩٨٩ كانت تعتمد على الكوادر الشابة في الأجهزة العسكرية والأمنية. ومن بين مؤشرات هذا الإدراك لدى البشير هو الجهود الذي بذلها لاسترضاء عدد من المنظمات الشبابية. على سبيل المثال، في ١٢ مارس، تحدث البشير إلى الاتحاد الوطني للشباب السوداني في الخرطوم من أجل احتواء الدخول الكامل والمنظم للمجموعات الشبابية في حركة الاحتجاج التي تحدّت حكمه.
لقد تم استخدام هذا التحول الديمغرافي الشبابي لشرح الاضطرابات السياسية في الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في السابق، وأيضا الاحتجاجات الأخيرة في القرن الأفريقي وشرق إفريقيا. في الحقيقة ـ إن القادة الذين اعتمد عليهم البشير هم كلهم من المسنين. ظل أولئك الأشخاص في ذات المناصب العليا في الحكومة إلى حد كبير دون تغيير على مدار العشرين عامًا الماضية. لكن استنزاف عدد الشخصيات التي كان يمكن للبشير الاعتماد عليها في القيادة بدأ منذ انقلابه والسنوات الأولى التي تبعته. وفيما يتعلق بالمنظومة الحاكمة، واجهت الجبهة السياسية لحزب المؤتمر الوطني / جبهة الخلاص الوطني التي ترأسّها البشير في العقود اللاحقة صعوبات كبيرة في اجتذاب الأتباع الشباب، في حين أن البشير كان في السابق قادرًا على اجتذابهم عندما كان ضابطا عسكريا أكثر شبابًا.
هناك مواجهة جديدة بين قيادة الجيش التي توّلت السلطة وحركة الاحتجاج ذاتها إذ لم يتم شمل عدد كافٍ من الأحزاب السياسية في حكومة انتقالية وتم تحديد خريطة طريق واضحة
في هذا الوقت، شهدت الطائفتان الرئيسيتان اللتان تهيمنان على الحياة السياسية السودانية تغييراً كبيراً مع صعود عدد من الشخصيات الشابة، بمن فيهم الكثيرين الذين عادوا إلى السودان بعد دراستهم في الخارج. ويعتقد أن الصادق المهدي، زعيم “الأنصار” منذ فترة طويلة، ينتوي إفساح المجال للقادة الشباب مثل ابنته مريم صادق المهدي ومجموعة من المثقفين الشباب من مختلف الفئات المهنية، بما في ذلك الأطباء والمهندسين، لتولي زمام الأمور.
من الواضح أنه هناك مواجهة جديدة بين قيادة الجيش التي توّلت السلطة وحركة الاحتجاج ذاتها. إذا لم يتم شمل عدد كافٍ من الأحزاب السياسية في حكومة انتقالية وتم تحديد خريطة طريق واضحة لإجراء انتخابات جديدة لحكومة مدنية في وقت قصير، سيكون من شبه المؤكد أن يستمر تجمّع المهنيين السودانيين في الدعوة الى التظاهر. يظل السؤال ما إذا كانت الأحزاب السياسية الرئيسية والمجتمعات المرتبطة بها ستواصل دعم الاحتجاجات بعد الإطاحة البشير مما يشكّل علامة استفهام كبيرة، لا سيما بوجود احتمال حصولها على بعض التمثيل في السلطة، مما يجعله من المحتمل أن تقوم هذه الجهات بالانسحاب من الاحتجاجات المستمرة في مقابل الحصول على دور ما في الحكومة الانتقالية.
على المدى القصير، سوف يعتمد مجرى الأحداث على رد فعل الجيش في الأيام والأسابيع المقبلة. إن أي أعمال عنف كبيرة ستشجع الاحتجاجات وتجعله من الصعب على أي حكومة انتقالية أن تكتسب شرعية كافية لمنع توّسع المظاهرات. تمّثل الامتحان الأول في امتثال المتظاهرين بحظر التجول، ولكن يبدو أن الجيش أدرك أن حظر التجول سيخلق احتمالية حدوث نزاع فتم التراجع عنه. من خلال اختيار قائد أكثر اعتدالا وتعيين نائب أصغر في السن له، أظهر الجيش قدرة على إدارة الموقف دون التنازل كثيرًا. إذا استمر الجيش في ضبط النفس، فمن المحتمل أن نرى صفقة يتم التوصل إليها بين عدد من الجهات الأساسية فيما قد تختار بعض جماعات الاحتجاجات مثل تجمّع المهنيين والأحزاب السياسية الصغيرة البقاء في الشوارع.
على المدى المتوسط، فإن السؤال هو ما إذا كان القادة العسكريون الجدد قادرين على تخفيف الصعوبات الاقتصادية الكامنة وراء الاحتجاجات. لكن الجيش، بما أنه كان يحتل موقعا مركزيا في بنية نظام رعاية البشير، لن يكون قادرا على الأغلب على تحقيق هذا الهدف. ثانياً، سوف تتم محاولة تفكيك التوافق بين المحتجين من خلال تقديم المغريات والمناصب والحصص في العملية السياسية الناشئة للقادة السياسيين التقليديين، خاصة من الأحزاب السياسية الرئيسية المرتبطة بالطائفتين السياسيتين الرئيسيتين. وبحسب التقارير، عرض القادة الجدد على ممثلي حركة الاحتجاج الفرصة لترشيح أحدهم لدور رئيس الوزراء المؤقت، وهذا تطوّر مهم إذا صح. تبدو مثل هذه العروض لتولي المناصب مؤشرا على استعداد الجيش لاستيعاب المتظاهرين وقد تهدف إلى تبديد الاتهامات بأن الجيش يسعى للاستفراد بالحكم. لكن هذه العروض يمكن أن تكون أيضًا وسيلة “فرق تسد” لتقسيم الفاعلين السياسيين المدنيين.
على المدى الطويل، سيكون السؤال هو ما إذا سوف يقوم الجيش بتسليم السلطة لحكومة مدنية يتم اختيارها من خلال انتخابات حرة ونزيهة. من المرجح أن ينجح حزب المؤتمر الوطني (أو منظومة جديدة تتكون من أحزاب السلطة القديمة من جماعات الأنصار والميرغنية السياسية) أن يشكّل نوعا من التحالف للحفاظ على السلطة في مواجهة الأحزاب السياسية ذات الشعبية الصاعدة. إذ أنه بخلاف تغيير بسيط في صفوف القادة الرئيسيين للحكومة العسكرية الانتقالية، لا تزال الشخصيات البارزة في حزب المؤتمر الوطني تتطلع إلى الاحتفاظ بالسلطة. ومن الأرجح أن تسعى مثل هذه المناورات إلى الحفاظ على هيمنة هذه النخبة الأساسية.
نتيجة لذلك، تبدو خلاصة ما حدث أكثر فأكثر هي أن البشير قد أطيح به من قبل أتباعه المقرّبين. بمعنى آخر، قام البشير بعقد صفقة على الأغلب لتأمين نفسه. إن العديد من هؤلاء القادة، مثل البشير نفسه، هم متواطئون في المجازر الجماعية والحكم الفاشل وهذا شيء لا يجهله الكثير من السودانيين. قد تكون هذه الشخصيات هي الخيار الوحيد للبشير للبقاء في وضع مريح نسبيًا. لذلك كان من مصلحة البشير التنحي وتسليم السلطة لأولئك المقربين منه بدلاً من التأخر والسماح لشخصيات أكثر راديكالية بتولي السلطة. من شبه المؤكد أن هذا النوع من الحلول لن يرضي المحتجين. ولكن، في مواجهة الإصرار المتواصل من جانب المتظاهرين على تغيير أكثر شمولية أو حتى على الثورة الشاملة، يبقى السؤال: هل سيقوم قادة السودان الانتقاليون بكبح الجيش (خاصة العناصر الميليشياوية) أم هل سيطلقون العنان لها؟
(المصدر: ميدان الجزيرة)