القرضاوي وزيارة طالبان في قندهار وتماثيل بوذا
بقلم عصام تليمة
بعد دخول حركة طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابول، ووصولها للحكم مرة أخرى، بعد أن حاربتها أمريكا من قبل، وبعد مرور عشرين عاما، بدأت طالبان تعود لبؤرة الأحداث، سواء من حيث البحث عن معلومات وتاريخ طالبان، أو عن سياستها، ما بين تحليل وتخمين، وما بين مفرط في الفرح بعودتها، أو مفرط في التشاؤم من هذه العودة.
وقبل عشرين عاما كانت هناك زيارة لشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي لطالبان، ودار بينهم حوار طويل، له دلالات مهمة، كانت بمناسبة حرب الأمريكان على أفغانستان، بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واتهام أمريكا لطالبان بإيواء الشيخ أسامة بن لادن في أفغانستان، ورفضها تلسيمه أمريكا، وشعرت طالبان بحصار العالم الغربي لها، وتخلي العالم العربي عنها، حتى الدول التي اعترفت بها، سحبت اعترافها خوفا من الأمريكان وعقوباتهم، وقد كانت حالة أمريكا وقتها حالة جنونية، عبر عنها الرئيس الأمريكي بوش الابن بأنها: حرب صليبية، وإن اعتذر عن الجملة فيما بعد.
علاقة القرضاوي بأفغانستان قديمة، منذ الجهاد الأفغاني ضد الروس
هذا اليأس والإحباط، والتخلي، جعل طالبان تقدم على خطوة معينة، وهي: إعلانها عن تحطيم أصنام بوذا الموجودة في أفغانستان، أو ما أطلق عليها وقتها: إمارة قندهار، وبالفعل حطمت التماثيل، وقد كان رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي فيما بعد)، دولة قطر، وكانت الدولة الوحيدة التي لم تقطع علاقتها بطالبان آنذاك (2001)م، وهاج الإعلام العالمي على قضية تحطيم أصنام بوذا، فاقترح أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أن يتم تشكيل وفد من علماء المسلمين يقابل قيادات طالبان، للنقاش الديني والسياسي، حول ما هو قادم إليها من مخاطر، تتطلب منهم نظرة للأمور غير ما ينظرون بها.
وقد كانت علاقة القرضاوي بأفغانستان قديمة، منذ الجهاد الأفغاني ضد الروس، وبعد خروج الروس، واشتعال الحروب الداخلية بين الفصائل الأفغانية، ومحاولات الصلح بينهم، وسعي القرضاوي وعدد من العلماء من قبل في ذلك، وقد ذكر أطرافا منها في مذكراته في الجزء الرابع منها.
تشكل وفد للقاء قيادات طالبان، تكون من السادة المشايخ والأساتذة: يوسف القرضاوي، نصر فريد واصل، محمد الراوي، ثقيل الشمري، عبدالقادر العماري، علي محيي القره داغي، فهمي هويدي، هيثم الخياط. وبالفعل ذهب الوفد في رحلة ذكر تفاصيلها الأستاذ فهمي هويدي في كتابه: (طالبان.. جند الله في المعركة الغلط)، لا داعي لتكرار تفاصيل ما ذكره هويدي.
وقد ذهب الوفد بعد أن تيقن من أن طالبان قامت بالفعل بتحطيم تماثيل بوذا، وقد كانت مهمة الوفد واضحة ومحددة في هدف كبير وهو: المساهمة في حل مشاكل أفغانستان، ورد الحملات المغرضة التي تشوه صورة القائمين عليها، والعمل على إخراجهم من عزلتهم التي فرضت عليهم من المجتمع الدولي، والحصار الجائر الذي ضرب عليهم، والحوار مع علمائهم حول القضايا الفقهية التي قد تختلف وجهة نظرهم فيها مع كثير من علماء الأمة. وقد أعلن الوفد في بيان رسمي ذلك، وعن بعض تفاصيل الزيارة.
كما ناقش وبحث الوفد مع العلماء قضية الآثار والتماثيل التي ثار الجدل حول تدميرها، وأحدثت ضجة عالمية في وسائل الإعلام العالمي، وما يترتب على ذلك من مآلات أو فتن قد تضر بأفغانستان، وبإخوانهم من الأقليات الإسلامية في آسيا، وقد أكد المسؤولون في الإمارة للوفد أن الآثار باقية لم تمس، وأنهم يعتبرونها ثروة تاريخية يجب الحفاظ عليها، أما التماثيل فقد تم تدميرها قبل وصول الوفد ولم يعد للبحث فيها مجال.
ودار حوار طويل عن الدوافع الدينية وراء التحطيم للتماثيل، واستدلوا بنصوص، وبفتاوى علماء من السعودية، ودول الخليج، وقام بالرد على كل مستنداتهم وأدلتهم القرضاوي، فقال لهم: لقد جاء الصحابة إلى بلادكم فاتحين، ولم يحطموا هذه التماثيل، لأنهم لم يجدوا أحدا يعبدها، فماذا جد في الأمر حتى تقوموا أنتم بذلك؟!
فاستدل مشايخ طالبان بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره: ألا يدع صنما إلا حطمه، ولا قبرا مشرفا إلا هدمه. فرد عليه القرضاوي قائلا: لكنكم حطمتم الأصنام، وتركتم القبور المشرفة، وأضرحة المشايخ؟! فقالوا له: نحن نخاف من رد فعل عامة الناس في أفغانستان، فقال لهم: خفتم من عامة الناس في بلدكم، ولم تخافوا من رد فعل العالم مع تماثيل بوذا، لقد استعديتم الغرب بموقفكم من الأمريكان، فلماذا تستعدون الشرق كذلك بتماثيل بوذا، لماذا تجمعون عليكم عداوة العالم من غربه لشرقه، وإذا راعيتم العامة في بلدكم فكان أولى أن تراعوا العالم كذلك.
عرف الوفد أن بعض ما يشاع حول الإمارة الإسلامية في أفغانستان ليس صحيحا
لقد فتح مسؤولو طالبان قلوبهم للوفد المشكل من العلماء، لأنهم رأوا منهم حرصا على مصلحة أفغانستان، وأرادوا أن يردوا عنهم ما يمكن أن يتسبب في حرب تأكل الأخضر واليابس في بلدانهم، وأنهم لم يأتوا للتماثيل، لأنهم علموا يقينا أنهم حطموها تماما قبل قدوم الوفد، وهو ما أخبرهم به القرضاوي، لقد اتخذنا ذلك سببا لزيارتكم، وهو أول ما هاجم به أهل طالبان الوفد والعالم: جئتم لأجل الحجر، ولم تأتوا لأجل البشر؟! فكان رد القرضاوي أنهم لم يأتوا إلا لمصلحتهم، وحقن دمائهم، ورد الشر عنهم، ومنع الفتنة التي تصيبهم جميعا.
رأى القرضاوي والوفد في أفغانستان نقصًا شديدًا في مجالات: التعليم، والاقتصاد، والإعلام، والخدمات الإنسانية وأنهم يعانون من قلة الإمكانات المادية والرعاية الصحية، حتى أعلن أنه يموت كل يوم حوالي 400 طفل بسبب البرد، والمرض، والجوع، وقلة الغذاء والدواء، مما يوجب على المجتمع الإسلامي خاصة تقديم يد العون والمساعدة لهم على وجه السرعة للتغلب على هذه المشاكل.
وقد عرف الوفد أن بعض ما يشاع حول الإمارة الإسلامية في أفغانستان ليس صحيحا، مثل: زراعة المخدرات (الأفيون والحشيش) التي قضي عليها تمامًا في الوقت الراهن نتيجة للفتاوى الشرعية القاطعة التي حرمت زراعتها وبيعها. وأن ما يشاع حول منع تعليم البنات لا أساس له من الصحة، حيث لا يمنعون تعليم البنات، ولكن ما يعانون منه من أزمة اقتصادية هو الذي حال دون التوسع في تعليم البنات، وأن لديهم كليات للطب يدرس فيها أكثر من ألف ومائتي طالبة، كما قرروا أخيراً الاستفادة من المساجد لتعليم البنين والبنات فيها بدءًا من العام المقبل.
طالبان كالسروال المحترق، إذا خلعته تصبح عاريا، وإذا ارتديته تصيبك نيرانه
عاد الوفد بعد هذه الزيارة التي اطلعوا فيها على واقع وحال الإنسان الأفغاني، وكيف أن الحصار الجائر أضر بالناس بشكل كبير، وكتبوا تقريرا نشر مجمله، وكتب فهمي هويدي كتابا في الموضوع والزيارة، ومن قبله كتب آخرون، وظل الإعلام لفترة منشغلا بهذه الزيارة، وبتوابعها، سواء من أهل الغرب أو الشرق، وكان القرضاوي مقصد الزوار من أهل الدين والسياسة، سواء لإطلاعهم على نتائج الزيارة، أو على طلب تدخله ونصحه لطالبان.
فقد طلب زيارة الشيخ بعد عودته مسؤول كبير في اليونسكو من فرنسا، وألح في لقاء الشيخ، واعتذر أكثر من مرة، حتى اتصل سكرتير ثاني السفارة الفرنسية بالدوحة السيد: آلان اسبرتبس، وقد كان يزور مكتب القرضاوي كل فترة ليطرح أسئلة دينية، وتوسط أحد المشرفين على موقع إسلام أون لاين، وبالفعل جاء الضيف، وقابله القرضاوي، وكان كل همه السؤال عن: تماثيل بوذا، وماذا بقي منها، فأخبره الشيخ أنهم حطموها كلها.
فقال الرجل: أعلم ذلك، لكن هناك تماثيل صغيرة، فهل يمكن التفاوض عليها معهم؟ فأجاب الشيخ إجابة مرتجلة، فقال له: يخيل إلي أنه بدأوا بالتماثيل الصغيرة تحطيما، ثم ثنوا بالكبيرة. عندئذ وجدنا وجه الرجل يحمر غيظا، وكأن عائلته قد قتلت جميعا، وأكمل اللقاء حول طالبان وأفكارها، ومآلات سياستها، ثم انصرف.
ثم جاء أحد علماء باكستان ممن لهم اتصال بطالبان، ودار حوار أيضا حول أفكارهم، وما يمكن أن يقدم لهم من نصح، فنقل لنا عن أحد علماء أفغانستان، وهم من جيل أساتذة طالبان، فقال: (طالبان كالسروال المحترق، إذا خلعته تصبح عاريا، وإذا ارتديته تصيبك نيرانه). مشيرا بذلك إلى حيرة المواطن الأفغاني في موقفه من طالبان.
تلك خلفية تاريخية عن حدث معين كنت شاهدا على تفاصيله بحكم عملي مع القرضاوي سكرتيرا خاصا ومديرا لمكتبه، يتعلق بحدث له امتداد في الحاضر والمستقبل كذلك، يتعلق بطالبان، فهل تغيرت طالبان أم لا؟ وكيف ستكون تجربتها الثانية في الحكم؟ هذا ما سينبئنا به الواقع والمستقبل.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين