القراءة مدخل للانبعاث الحضاري
بقلم د. محمد جباري
توطئة
سيظل لموضوع القراءة جِدَّتُه وراهنيته على طاولة الدرس والمناقشة في الساحة الثقافية العربية؛ ذلك أن التداول الواسع والاستهلاك الكبير الذي حظي به موضوع القراءة من قِبَل مختلف المنابر والوسائط الثقافية كالمجلات والدوريات، أو الإعلام الذي يخصص هو الآخر، بين فينة وأخرى، برامج وتحقيقات صحفية حول واقع القراءة، دليل على مكانة وأهمية هذا الموضوع في معادلة تقدُّم الأمم وتأخُّرها. ولعل لهذا الحضور المتكرر لقضية القراءة ما يبرره، فالمستوى المتدني للمقروئية في الوطن العربي بحسب التقارير، يدفع مختلـف المعنيين والمتدخِّلين من حكومات ومثقفين وفاعلين وغيرهم إلى طرح جملة من التساؤلات القلقة من قبيل: ما هو واقع القراءة في بلدنا؟ ولماذا لا نقرأ؟ وكيف ننهض بالقراءة؟ ومن أين نبدأ؟
القراءة سؤال وجود
لعل من نافلة القول، التذكير بالمكانة المحورية والمتميزة التي تتبوؤها القراءة بمفهومها الواسع في الإسلام وحثه عليها، فهي أول ما نزل على خير البرية وأول ما أُمر به {اقْرأْ}، وبذلك كانت، وما تزال وستظل، القراءة وطلب العلم أحد مقاصد ومرتكزات الشريعة الإسلامية. من هذا المنطلق نقول: إنه ليس ترفاً فكرياً اليوم أن ننشغل بقضية القراءة ونجعل منها (إشكالية وقتية) تتبارى حولها الأقلام والتفسيرات والتحليلات أمَلاً في تشخيص مكمن (العطب) ثم وصف (الأدوية) و (اللقاحات) الناجعة. فحينما نطرح السؤال التالي: لماذا نقرأ؟ فكأنما نثير سؤالاً وجودياً يتعلق بعلَّة وجودنا. إن مساءلة القراءة هي مساءلة للإنسان وقيمته وهويته وجوهره، فإذا كان هذا الإنسان الذي دعاه الذكر الحكيم للقراءة والتأمل في مخلوقات البديع العليم، من أجل معرفة ذاته وسبر أغوار ماهيته ومعناه والغاية من وجوده في الحياة، ثم استكناه حقيقة هذا الكون الفسيح في تنوع خلائقه وإعجاز نظامه الدقيق المحكم… فإذا كان هذا الإنسان لا يقرأ؛ فبأي معنى يصح وجوده ودوره في هذه الدنيا؟ وكيف السبيل لتهذيب سريرته وتحسين ذوقه ليرقى إلى مستوى الذوق الرفيع؟ وبأي حال نعيش تجربتنا الفردية والجمعية بإيجابية، ونربح رهان التدافع الحضاري بين الأمم دون أن نطَّلع على تجارب السابقين والأولين، لأخذ الدروس والعبر ومِن ثَمَّ عدم تكرار أخطاء وعثرات الماضي في تجربتنا المعاصرة؟
إن المنافسة الشرسة الدائرة بين دول العالم في وقتنا الراهن، لا يمكن مواجهتها ومسايرة متغيراتها إلا بمجتمعٍ قارئ. لقد بات الخطاب منصبّاً حول مجتمع المعرفة أو ما يسمى بـ (اقتصاد المعرفة)، بمعنى أن مستقبل الاقتصاد العالمي سيرتبط بالمعرفة، ولذلك فإن المجتمعات المنتجةَ للمعرفة ستكون أكثر تحكُّماً في العالم. لذا تُعدُّ القراءة مفتاح التغيير والتنمية والتقدم في أي مجتمع رامَ الانفلات من فروض وإملاءات وضغوطات الغير، وعنصراً حاسماً في نهضة الأمم والشعوب؛ إنها سلاح لمواجهة مستقبل لا يرحم.
القراءة غاية أم وسيلة؟
نحاول هنا الوقوف على أحد أهم عوامل ضعف مستوى القراءة لدى الإنسان العربي، التي غالباً ما ينصرف عنها بال الباحثين أثناء البحث والكتابة حيال إشكالية القراءة، إن الأمر يتعلق بمسألة القراءة بين الغائية والوسيلة؛ إذ إن تمثلاتنا الجمعية للقراءة تلعب دوراً رئيسياً وحاسماً فيما نعانيه من ترهل وتدنٍّ بشأن القراءة. لذلك، وقبل كل شيء، لا بد من تحديد نظرتنا وفهمنا لماهية القراءة: هل نعتبرها وسيلة لإحراز منصب أو وظيفة أو شهادة، أم حاجة أنطولوجية وطبيعية في الحياة شأنها شأن الطعام والشراب والنوم… إلخ، لا يجوز الاستغناء عنها بتاتاً؟
في هذا السياق، نستحضر فئة الطلبة باعتبارها عيِّنةً لمقاربة هذه الإشكالية؛ فالمعلوم أن هذه الفئة ينظر إليها عادة باعتبارها الفئة الممارِسة لفعل القراءة؛ إذ إن الزائر للمكتبات العمومية يلاحظ أن هذه الأخيرة تكون مكتظة بالطلاب، بل إن الإقبال عليها يتزايد مع الفترة الثانية من الموسم الجامعي نظراً لاقتراب موعد مناقشة البحوث ورسائل الماستر، إذ يراهم الناظر منكبين على المؤلفات لتسجيل الملخصات والمقتطفات والتعليقات التي ستشكل أبحاثهم. لكن ما إن يناقشوا هذه الأبحاث ويتسلموا شواهدهم الجامعية، حتى يهجروا المكتبات ويعلنوا انفصالهم عن القراءة والكتاب وتفتر علاقتهم بهما، فتصبح القراءة في خبر كان، كما تجد المكتبات، التي كانت قبل قليل عامرة، خاوية على عروشها. ولعل هذه الإشكالية تتعاظم حينما يتدخل شخص محسوب على المعلمين في نقاش، فيتساءل بلغة تهكمية حول أهمية قراءة خمسين أو سبعين كتاباً!
هكذا يبدو أن تمثلاتنا لمفهوم القراءة، تعدُّ سبباً رئيسياً في علاقتنا المتشنجة مع القراءة وتباعد ارتباطنا بها كفعل ثقافي وسلوك حضاري. فمن خلال تحليلنا للفرضية التي صرحنا بها في بداية هذا المحور، تبيَّن أننا نتمثل القراءة وسيلة ومطية لتحصيل شهادة معيَّنة أو بلوغ وظيفة مَّا فقط، وليست ضرورة مطلوبة لذاتها باعتبارها أداةً لتربية النفس والارتقاء بها، وتشكيل الوعي والمواقف، وتطوير اللغة والأسلوب والقدرة على التعبير، وتحرير الفكر وتطوير الحس النقدي البنَّاء، وتكوين القيم. ناهيك أن القراءة تمنح الإنسان نظرة أخرى للحياة؛ إذ إنه كلما ازدادت قراءات الشخص وتوسعت، كانت نظرته أكثر شمولية وانفتاحية على آفاق جديدة لا تتراءى لغير القارئ.
باختصار:
إن مناقب القراءة تستعصي على العد كما يظهر، أما مثالبها فهي النأي عنها.
مقترحات للنهوض بالقراءة
إنه وإن كانت أسباب ضعف القراءة في عالمنا العربي عديدة ومتضافرة، من قبيل غياب التربية الأسرية على حب القراءة، وارتفاع نسبة الأمية في العالم العربي، والفورة التكنولوجية، وقلة المكتبات والخزانات العمومية، وغلاء الكتب… إلخ، فإن ذلك لا يثنينا عن تقديم بعض المقترحات في اتجاه ترسيخ ثقافة القراءة وتصالح الإنسان العربي مع الكتاب.
أولاً: ضرورة التخفيف من الكم المعرفي في المقررات الدراسية خاصة في المستويات الثانوية، وتغيير طرق التدريس والتقويم في المواد الأدبية؛ إذ نلاحظ اليوم أن التلميذ يُثقَل بمجموعة من المعارف التي يُطلب منه خلال (الفرض/ الامتحان) سردها واسترجاعها ميكانيكياً؛ وذلك حتى يتسنى للأستاذ تدبير وإنجاز أنشطة ثقافية داخل القسم تتعلق بالقراءة: كتكليف التلاميذ بإنجاز قراءة في كتاب معيَّن وتسجيل ملاحظاتهم وانطباعاتهم حول المقروء، ثم ربط هذا العمل بالتقويم التربوي لدفع التلاميذ إلى إيلاء الاهتمام المطلوب بما كُلِّفوا به، علاوة على منح جائزة رمزية لأفضل عمل.
ثانياً: إدماج موضوع القراءة على أنه مكون أساسي في بناء المنهاج الدراسي، بحيث يتم إعداد أنشطة تعليمية تعلُّمية تتضمن دعامات ديداكتيكية مختلفة من نصوص وخُطاطات وجداول وصور، تتمحور حول التعريف بمكانة القراءة في الحياة، وإبراز دورها في تقدم المجتمعات، وآثارها الإيجابية المتعددة على الإنسان، إضافة إلى إدراج القراءة ضمن مكونات التقويم التربوي (المراقبة المستمرة، الامتحانات الجهوية والوطنية). وذلك كمقاربة جديدة لتربية التلميذ، بكيفية غير مباشرة، على الاهتمام بالقراءة والتعلق بها في حياته اليومية.
ثالثاً: التفات المؤسسات التعليمية لأهمية القراءة وجعلها أحد المواضيع التي تدخل ضمن ما يسمى: (مشروع المؤسسة). مثلاً يمكن لمؤسسة مَّا أن ترفع (رهانَ/ شعارَ) الوصول إلى عدد معيَّن من القراء التلاميذ المتمدرسين بها، وفي هذا الصدد نقترح الإكثار من الأنشطة والمسابقات الثقافية التي تتغياً توعية وإكساب وترسيخ ثقافة القراءة، وتخصيص جوائز تشجيعية للتلاميذ المتفوقين في هذا المضمار.
رابعاً: يجب إعادة الاعتبار للمكتبة المدرسية باعتبارها آلية تربوية موازية في إستراتيجية النهوض بالقراءة. إذ إن من أدوار المكتبة المدرسية، المساهمةَ في تنمية عادة القراءة والمطالعة لدى التلميذ، وإغناءَ رصيده المعرفي والمفاهيمي، وامتلاكَ مهارات الملاحظة والتحليل والمقارنة، فضلاً عن كونها المجال الأمثل والطبيعي للتعلم الذاتي الذي بات رهان البيداغوجيات الحديثة، فلا يستقيم الحديث عن القراءة لدى التلميذ في غياب المكتبة المدرسية في المؤسسات التعليمية.
خامساً: اعتباراً للدور الحيوي الذي تقوم به البرامج والمسابقات الثقافية في مجال تشجيع القراءة وتنميتها كمشروع (تحدي القراءة العربي)، نقترح خلق مشاريع وبرامج أخرى من هذا النوع، بهدف الارتقاء بفعل القراءة والنهوض بها في العالم العربي.
سادساً: تنظيم حملات تحسيسية وعروض من لدن المجتمع المدني، للتوعية والتحسيس بأهمية القراءة في حياة الإنسان، وأثرها في حماية الفرد من الانحراف والعادات السلبية التي تتهدده في محيطه، ويتم ذلك من خلال زيارة المؤسسات التعليمية أو تنظيم دورات تكوينة مجانية.
سابعاً: النظر إلى القراءة كموضوع مجتمعي يعني كل الفئات والشرائح الاجتماعية وليس قضية نخبوية. وهنا نقترح أن تؤلَّف مسرحيات وأفلام تدور سيناريوهاتها حول أهمية القراءة سواء على صعيد الذات الفردية أو الذات الجماعية/ الأمة.
ومن منطلق استغلال اهتمام الأطفال بمشاهدة الرسوم المتحركة وبألعاب الفيديو، التي ننظر إليها عادة على أنها تسلب أطفالنا منا وتبعدهم عن القراءة، نقترح في هذا الصدد تأليف أفلام كرتونية وألعاب فيديو تتمحور حول القراءة، وذلك وعياً منا بأهمية الصورة (في عصر الصورة) في إضفاء الواقعية على الموضوع وقدرتها على التعبير والتبليغ ومدى تأثيرها في المشاهد.
خاتمة:
صفوة القول: إن القراءة بالنسبة للذات العربية تمثل حاجة حضارية تفرضها التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها العالم العربي، كورقة رابحة ومدخل للتوافق مع متغيرات الحاضر وكسب رهانات المستقبل. إن «الكتاب سعادة الحضارة، من دونه يصمت التاريخ، ويخرس الأدب ويُشَل العلم ويتجمد الفكر والتأمل»[1].
____________________________________________
[1] مجلة المختار فبراير 1990م.
المصدر: مجلة البيان