القرآن والواقع (1): سياسات الفرعون
بقلم زيد أولاد زيان
مقدمة توضيحية منهجية
أنزل الله القرآن، ونصّ فيه على الأهداف من إنزاله، وأعظمها: {ليدّبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب}1، فبتدبّر القرآن يحصل الفهم والتذكرة والانتفاع به وتطبيقه على الوجه الصحيح.
وتفاسير القرآن، كما هو معروف، تنقسم إلى أنواع بحسب ما تركّز عليه، فمنها تفاسير بالمأثور من أقوال الصحابة والتابعين، وتفاسير لغوية، وتفاسير فقهية، وتفاسير مقاصدية، وتفاسير واقعية، كما ظهرت تفاسير ميسّرة، وتفاسير موضوعية.
والتفاسير الواقعية التدبرية ظهرت منذ عهد السلف، وهي تعطي النظرة الواقعية التدبرية التربوية في القرآن من خلال التنزيل على الواقع. ومن فوائد هذا النوع من التفسير استنباط الفوائد والأحكام والهدايات بما يتعلق بالواقع، ومعرفة الواقع والإسقاط عليه. وله أهمية تتضح من قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}2 فالغاية من كتاب الله تعليم الحكمة والتزكية التي تكون بالتفسير الواقعي التدبري.
ومما ينبغي التسليم به، أن القرآن بالإضافة إلى اشتماله على الاعتقاد الصحيح والعبادات والتشريعات والأخلاق والقيم، فهو يؤسس لنظرة مستقلة للمسلم من خلال إبرازه للقضايا الفكرية والتفسيرات النفسية والسنن والنواميس الكونية، ومن هذه السنن على سبيل المثال سنة التدافع، سنة الانتصار الأخير للحق، سنة قلة أهل الحق، سنة الاختلاف والتعامل معها، وسنن الابتلاء، وسنن النصر والهزيمة والأسباب والوسائل… ومنها كذلك سنن الظالمين وسياساتهم والتعامل معها.
لقد أبرز القرآن مجموعة من سياسات الظالمين في كل زمن، وباستقراء للواقع وتدبر للقرآن يتبين مدى دقة القرآن واختصاره لهذه السياسات وذكره لجُلّها. وذلك من خلال القَصص، التي كان أبرزها قصة فرعون في عهد سيدنا موسى عليه السلام.
لن أبالغ إذا قلت إنه ينبغي وضع ألف سطر تحت كل كلمة ذكرت عن قصة فرعون، لما فيها من تبصرة في معرفة الواقع، ولما في القرآن من إحكام عظيم نجده في جمع سياسات عدة في آية واحدة، ولا يمكن معرفة هذه السياسات إلا بالتدبر والتفكرّ، ولما لنا من الحاجة لقصة فرعون وقد ظهر “فراعنة” كثر يحكمون العالم.
سياسات فرعون
سنذكر هنا مجموعة من سياسات فرعون التي تتجدد على يد كل مستبدّ من خلال آيات القرآن الكريم التي عالجت قصة فرعون.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}، {إلى فرعون إنه طغى}، {واستخف قومه}: هذه الآيات تدل على التجبر والتكبر والعلوّ السلبي الذي يصاحبه الطغيان والاستبداد والاستخفاف بالشعوب واحتقارهم واستصغار حرياتهم وحقوقهم ودمائهم. وهذه لا تعتبر سياسة لفرعون بقدر ما تعتبر تجسيدا لنظرته لنفسه وللشعب، ونشأة الظلم نفسيا لديه.
{وجعل أهلها شِيَعاً يستضعف طائفة منهم}: الآية تؤكد على نظرية “فرّق تسُد”، فكل مستبد يسعى إلى التفرقة بين الشعب وجعلهم شيعا وجماعات وقوى متصارعة سواء بزرع موازين الولاء للقبيلة أو العرق والجنس أو للجماعة والحزب والفرقة، كما يستضعف طائفة منهم. هذه الطائفة المستضعَفة هي التي يخشى المستبدّ من أفكارهم أو قوة عزيمتهم أو شجاعتهم وقوة تمسّكهم بالفطرة والحق وقيم العدل. يستضعفها لأنها تجسّد هلاكه ونهاية ظلمه ومصرع جبروته.
{يذَبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}، {يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم}: يوضح لنا الله في هذه الآيات طبيعة الاستضعاف الذي يلحق طائفة من الشعب، والذي يكون بممارسة أبشع وسائل التعذيب والقتل والترهيب. هذه الجرائم التي يرتكبها الفرعون يجرّمها الله بالقول {إنه كان من المفسدين} ويبرز الظلم العظيم الذي يلحق بالشعوب جرّاء هذه المجازر: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}.
{إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}، {فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، {إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض}: هذه الآيات تبيّن سياسة التضخيم من أخطاء بسيطة والتغطية والشرعنة للجرائم الفرعونية المستبدّة. ففرعون الذي كان يرتكب الجرائم والمجازر، كان يغطّي على جميع جرائمه، ويخاطب قومه عن موسى، أن هذا الأخير قد يظهر الفساد والظلم، كما وصف قتل موسى للرجل دون قصد منه بالفعلة العظيمة الشنيعة {وفعلت فعلتك} التي أصبح من خلالها كافرا بالإحسان والجميل. كما يخاطب أحد رجال فرعون موسى عليه السلام في موقف آخر {إن تريد إلا أن تكون جبّارا}. وهذا كلّه يندرج أيضا في سياسة تجريم الشيء وتكرار ذلك حتى يصبح جريمة فعلا من خلال الإعلام الفاسد.
{وما أهديكم إلا سبيل الرّشاد}، {ويذهبا بطريقتكم المثلى}، {إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}، {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها}، {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون}: يتضح من الآيات محاولات المستبدّ إظهار نفسه بمظهر الخائف على شعبه من الفساد والظلم، وبمظهر الذي يحمي الثقافة والدين والقيَم، والحارس على عليها بالإرشاد والهداية، وذلك كله باستعمال الإعلام، وكيل الاتهامات.
اتهم فرعونُ موسى بالمتاجرة بالدين {أن يبدّل دينكم}، ثم بالمكر والخداع والتآمر {إن هذا لمكر} {إن هذا إلا إفك}، ثم بإدارتهم لمؤامرة دولية والتخابر مع دول أجنبية أو جماعات عالمية تخطّط لهذه المؤامرة {وأعانهم عليه قوم آخرون}. كما أن من صميم الاتهامات تحقيق أهداف دنيوية، في حين نجد كلّ نبي جاء إلا لا يريد أيّ أجر دنيوي {وما أسألكم عليه من أجر} وموسى بعثه الله بهدف إنهاء استبداد فرعون والتمكين للمستضعفين {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض}.
{إفك افتراه}، {إن هذا إلا مكر}، {إن هذا لساحر مبين}، {إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا}، {أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك}: هذه الآيات وغيرها ترسم الحملة الإعلامية الشّرسة الفرعونية على موسى عليه السلام، وذلك لتشويه صورته ووقف اتّباعه من طرف الناس. والتشويه تضمّن الاتهام بالسحر والمكر والافتراء والكذب وتبديل الدين والإخراج من الأرض والتآمر والمتاجرة بالدين والفساد وذلك لتسهيل الفتك به، وإضفاء المشروعية كل ما يُرتكب في حق موسى عليه السلام إقناع الشعب بذلك.
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ}، {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى}، {فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفّاَ}، {قالوا إن لنا أجرا}، {قال نعم وإنكم لمن المقرّبين}: يستعين الظالم بزمرة من المحاربين للحق بشتى الأشكال، خاصة ما يتعلق بنفس نوع الأساليب: {لنأتينّك بسحر مثله} فالفكر يقارع بالفكر والاعتقاد بنفس جنسه. فكلّ من يحارب صفّا مع الفرعون تكون لهم المنزلة المقرّبة والدرجة الرفيعة والأموال المخصّصة والمنابر الإعلامية، في حين أهل الحقّ لا يجدون منبرا إعلاميا، بل يلحق بهم إلى جانب ذلك التشويه الإعلامي الكبير.
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى}: استعمل فرعون قول {ذروني} ليوهم شعبه بالسلطة والاختيار وأنه ينقاد لما يملونه عليه، وقد جاء هذا القول بعد أن أعطى لنفسه شرعية قتل موسى، فهو في عين الشعب بعد الحملة الإعلامية الواسعة والمكثّفة مجرم فاسد ومتآمر وإرهابي يفعل الأفاعيل ويمكر بالشعب ويريد أن يحقق مكاسب اقتصادية وسياسية.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَك قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: في هذا الجزء يظهر عزم فرعون على مواصلة جرائمه وبشكل كثيف، وذلك لزرع اليأس في قلوب المستضعفين من النصر والتمكين الذين تعرضوا للعذاب والنكال من قبل ومن بعد، في حين موسى عليه السلام يأمرهم بمزيد من الصّبر والاستعانة بالله، ويعدهم بالنصر والاستخلاف وأن العاقبة للمتقين.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه}: أخذ الله آل فرعون بالأزمة الاقتصادية والتضييق في العيش حتى يرجعوا، لكنهم تمادوا أكثر. والسياسة التي يمارسها الفرعون وأتباعه هنا هي {وإن تصبهم سيئة يطّيّروا بموسى ومن معه} بحيث يلقون اللوم على المؤمنين في الأزمات التي تعصف بهم. كما نجد اليوم أتباع المستبدّين يُلقون كل المشاكل على ظهر ثلّة فكرية معينة يصفونها بالتخلف والرّجعية، في حين المستبدّ هو السبب في الأزمات.
فوائد وملاحظات
- تتميز سياسات المستبدّين عموما، وخصوصا في محاربة أهل الحقّ بثلاثة أمور:
- أنها مترابطة، منسجمة، ممنهجة.
- أنها كثيرة جدّا بحيث لا تعدّ ولا تُحصى.
- أنها متداخلة متشابكة.
- لا يمكن الجزم بأن الشعب يعرف كل أو بعض جرائم فرعون نتيجة للغياب الإعلامي، وعدم تغطية الجرائم أو شرعنتها بحيث لا تصبح جرائم، لكن الشعب مسؤول ومشارك، لأنه ينبغي عليه البحث عن الحقائق أو على الأقل عدم مباركة وطاعة الفرعون في جرائمه: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين}.
- من أقصى أهداف المستبدّ صناعة اليأس في قلوب الناس.
- من أقوى وسائل المستبدّ الإعلام.
دور الصالحين في دولة فرعون
يمكن الحديث عن دور الصالحين في دولة فرعون من خلال مثالين مذكورة في القصّة:
- الأول: موسى وهارون: يجسدان دور الاستنكار على الظلم والدعوة إلى الإصلاح بالقول والفعل والدعوة والانتصار للمظلوم.
- الثاني: مؤمن آل فرعون: وقد ذكره الله في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. وهو يجسّد دور الحياد وهدم الحملة الإعلامية الشّرسة. فهذا الدّور يذكّر بالعدل والحقّ ويُرجع الناس للتفكير العقلي المنطقي دون الانسياق وراء السحابة المتراكمة من تجريم ما ليس بجريمة والكذب والاتهامات.
أهمية النهاية
لا يمكن للأمر أن ينتهي عند هذا الحدّ. لابد لهذه القصّة من نهاية مهما طالت أو قصرت. وهذه النهاية لا تأتي إلا بعد اليأس، والمستبدّ هو الذي يصنع اليأس، أي أنه من يحفر قبره ويخطو حذو نهايته بنفسه: {حتّى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يُردّ بأسنا عن القوم المجرمين}.
إن من لا يمتلك بصيرة ونظرة ثاقبة يظن أن المجرم المتربّع على كرسي الحكم اليوم سيبقى في كرسيه منعّما، وأن الظالم الذي يقتّل الأطفال ويشرّد الأسر ويرحّل الشعوب ويقصف المستضعفين سيبقى كما هو. لكن الحقيقة أنه مهما طال به الزمن فهو (لن يجد قبرا يأويه) كما توعّد الشيخ عبد الحميد كشك القذافي.
رغم كل التضليل والسياسات لن يتحول موسى لساحر مبين ولن يصبح فرعون هو الإله المقدّس الذي يحمي شعبه. بل يبقى موسى عليه السلام هو موسى النبي المجاهد للظلم والاستبداد والمحرّر للمستضعفين، ويبقى فرعون هو الطاغية المستبدّ المتسلّط السفّاح.
{أنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين} هكذا تم إعلان النهاية. لكنها بداية أيضا {لينظر كيف تعملون} فسواء كنت مضطهدا أم منتصرا مُمَكّنا… فأنت مُبتلَى ومحاسَب.
(المصدر: موقع تبيان)