القرآن مادة البناء الإنساني الخالدة
بقلم محمد علي الباز
نزلت نصوص القرآن الكريم قاطعة فى مواطن محددة، فصّل القرآن فيها ما يتعلق بأمور الذات الإلهية وما يتعلق بالتعبد، وما لا يمكن الوصول إليه بإشتغال العقل ومزاولة التجريب وتراكم المعارف، وكل ذلك مما لا يتغير بتغير الزمان أو المكان.
ونزل القرآن الكريم زاخراً بقواعد عامة، تبعث على الفكر والتأمل والنظر فى كل جوانب الحياة والكون، ومادة ثرية تُحيي بواعث الإستنباط والتفقه والتجريب، فيما يُنظم حياة الناس ومعاشهم.
“فالقرأن يبني بناءW جديداً على أرض الفكر الطبيعي السليم، هو يُعني للإنسان المخاطب به، ويدعوه إلى النظر وإلى الإيمان، وإلى الإحساس فى الحقائق فى نفسه وفي أعماق الأشياء، على طريقة التنبيه والإيقاظ لمواجهة موضوع الفكر والإيمان” (تاريخ الفلسفة في الإسلام جي دي بور، محمد عبدالهادي أبو ريدة،ص48)
فلم ينزل القرآن بنظريات فلسفية صماء فى مجالات الحياة السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية أو غيرها من المجالات، وإنما نزل بمادة بناء هذه النظريات، فالنظرية لها صلاحية زمانيّة ومكانيّة، أما القرآن فهو صالح لكل مكان وزمان، وعمل أهل القرآن فى كل مكان وزمان أن يُمعِنوا النظر فيه من أجل استنباط هذه النظريات من مادته الغنية. قال تعالى ” لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ” (النساء 83)
إن البحث في القرآن عن كل النظريات العلمية والفلسفية والفكرية الصحيحة، التي ينمو بها صرح الحضارة الإنساني لهو ضرب من الجهل بطبيعة مادة القرآن، فالقرآن يحوي مادة بناء هذه النظريات لا نصوصها، إن المعني المقصود من كلمة “شيء” في الآية القرآنية، “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ” (النحل 89) هو كل شيء بمعني كل شيء، لا أكثر ولا أقل. وهو نفسه المعني المراد فى قوله تعالي “مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء”.(الأنعام 38)
عانn المسلمون منذ زمن بعيد من غروب شمس حضارتهم، التي أضاء نورها الشرق والغرب، يقول لوثروب ستودارد ” ومدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة إذ ليس من أمة في أوربة سواء الألمان أو الفرنسيس أو الإنكليز أو الطليان إلخ إلا وعندهم تآليف لا تحصي في مدنية الإسلام، فلو لم تكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنية على كتابه وسنته ما كان علماء أوروبة حتي الذين عُرفوا منهم بالتحامل على الإسلام يُكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها، ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت بها” ( حاضر العالم الإسلامي- شكيب ارسلان 1973)
لقد كانت مدنية الإسلام متفردة ومتغلبة عندما بنيت على القرآن والسنة، وسبقت وعلت على كل المدنيات والحضارات التي سبقتها، عندما وعت قول الله تعالي “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ” الرحمن(33)
فالقرآن حث على التقدم والبحث والتطور والنهوض بالبشرية جمعاء، ولن يعود المسلمون إلي الوجود الفاعل في الحياة قبل فهم مادة بناء حضارتهم مع مزجها بعناصر المدنية الحديثة.
(المصدر: رسالة بوست)