مقالاتمقالات مختارة

القرآن الكريم وكيف أسَّس للفكر والفعل الحضاريَّيْن عند المسلمين

القرآن الكريم وكيف أسَّس للفكر والفعل الحضاريَّيْن عند المسلمين

بقلم أحمد التلاوي

من بدهيات العقيدة لدينا كمسلمين، أن #القرآن الكريم بجانب أنه المُتعبَّد بتلاوته والوعاء الذي اختاره الله عز وجل؛ لكي يحفظ لنا شريعته، ونفقه ديننا من خلال نصوصه، أنه كذلك هو الدستور الذي يسيِّر، أو ينبغي أن يُسيِّر حياة المسلم، وحياة الأمة بشكل عام.

ولقد اختار الله تعالى أمة الإسلام؛ لكي تكون قائدة العالم نحو النور والهداية، وهو ما لن يتحقق إلا وفق القوانين والسُّنَن التي وضعها الله تعالى ؛ لكي تنظِّم خلقه كَرَبٍّ لهذا الكون، إلا لو أصبحت الأمة المسلمة أمةً رائدةً في المجال الحضاري، تجبر جميع الأمم الأخرى على أن تتبعها.

وهو قانون عمراني وضعه الخالق عز وجل، ولا محيد عنه، فنجده قد حصل مع المسلمين في فترات نهضتهم الحضارية، عندما كانت الأمم الأخرى تأتي وتأخذ عنهم، وتتعلم منهم، ونجده الآن؛ حيث نجد العالم بالكامل، ييمِّم وجهه تجاه الأمم المتقدمة، وبخاصة الحضارة الأنجلوساكسونية، حيث اليابان ذاتها، بكل الاعتزاز القومي المعروف عن شعبها تكتب العلم باللغة الإنجليزية.

إذًا، فكل الحديث عن خيرية ذاتية للأمة -لمجرَّد أنها مسلمة عقيدةً- لا يكفي لكي تكون هي قاطرة الحضارة الإنسانية ، والدليل على ذلك موضعها في خريطة #الحضارة الإنسانية، وتوزيع القوى على هذه الخريطة.
وبالتالي وعند الحديث عن ضرورة تطوير الموقف الحضاري للأمة، فإننا ينبغي أن ننظر إلى القرآن الكريم، الذي هو – كما تقدَّم – دستور المسلمين، فرادى وأمة.

ومفهوم الحضارة، مفهوم معقَّد، وواسع المجال في تحريره اصطلاحًا.

فالبعض يعدها مظاهر التقدم والرقي، أو التطور، العلمي والفني والأدبي والاجتماعي، في الحَضَر، أي أنها المعادل المعاكِس لمصطلح البداوة.

وبالتالي فهي ترتبط بنقطة الاستقرار، حيث الحَضَر والحياة الحضرية، هي ضد البداوة والحياة في البادية.

ولكن للتدقيق، فإن الأمر يختلف عن الحديث عن الريف والحَضَر بالمعنى القريب؛ حيث الريف بدوره أحد الأشكال المستقرَّة للتجمعات البشرية، بل إن أصل الحضارة البشرية أنها نشأت في المجتمعات الريفية التي استقرَّت في الأصل حول الأنهار ومصادر المياه العذبة، وتعلَّمت الزراعة.

ونجد ذلك في اللغة العربية حيث فعل “حَضَر”، كمصطلح، فإنه كما يتضمن تشييد المدن والتجمُّعات الحضرية، أو المدينية؛ فإنه يعني كذلك تشييد القرى والأرياف والمنازل المسكونة.

وبجانب بُعد المراكمة في هذا الأمر، فإن هناك كذلك الجانب المتعلق بالهوية، حيث هناك تعريفات تربط الحضارة بالمميزات والخصائص التي تميِّز شعبًا بعينه، في المجالات الاجتماعية والسياسية، وكذلك في مجال الإبداع الفني، بما في ذلك العلوم والآداب، حيث الفن هو الإبداع الإنساني في مختلف المجالات.

ومن بين أهم أوجه ذلك، هو الهوية الدينية، بما تتضمنه من قيم وأخلاقيات وتصورات عن العالم، وعلائق الفرد بذاته، وبالآخرين، أفرادًا وأممًا.

وبالتالي فإن عملية تحرير المفهوم تقودنا إلى الهوية الدينية، وفي حالة المسلمين فإن الهوية الدينية بالأساس مستقاةٌ من القرآن الكريم.

ومن خلال قراءة وفهم آيات القرآن الكريم فإننا سوف نصل بسهولة شديدة إلى أنه يقودنا إلى أفق الفعل الحضاري بشكل شامل.
فعلى أبسط تقدير فإن أهم أوعية التطور الحضاري -القراءة والبحث العلمي- نجد في القرآن الكريم الدعوة إلى كليهما .

فالله تعالى يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)} [سُورة “العلق”]، وهي أول ما أنزل من القرآن الكريم كما نعلم، وفيه لَفْتَة شديدة الأهمية، وهي أن كل ما نعلم هو من لدن الخالق عز وجل؛ فلا نتكبَّر عليه مهما عظُم شأننا وتطورنا.

ويقول عز وجل أيضًا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سُورة “فصِّلَتْ”– الآية: 53].

وفي الأطر الأشمل للفعل الحضاري؛ فإننا نقف عند آيات قرآنية واضحة، لو تمّ درسها وتلقينها للأجيال المختلفة من المسلمين، سوف نفهم الفعل الحضاري، وأسس التطور الإنساني كما خلق الله تعالى قوانينها.

ويدخل في ذلك مجموعات أساسية من التصنيفات الموضوعية لآيات القرآن الكريم، مثل آيات الاستخلاف، والآيات التي تتعلق باستعمار الإنسان في الأرض، وآيات تسخير ما في السماوات والأرض للإنسان.

فآيات استعمار الله عز وجل لنا فيها لا مجال للشرح عنها؛ حيث هي بدهية في فهم أن وجودنا كبشر في الأرض إنما هو لإقامة العمران، ولن تتمّ عبادة من دون عمران.

بل إن الجذر اللغوي لكلمة “عمران” التي هي صنو الفعل الحضاري بالصورة المتقدِّمة، هو ذات جذر مصطلح “استعمار” بالمعنى القرآني، وليس المعنى السلبي الذي عُبِّئ به المصطلح، عندما ارتبط بالغزو وما استتبعه من ظلم وسرقة لخيرات الأمم من جانب قوى الاستعمار بالمعنى القريب.

أما آيات التسخير فهي بدورها تكشف أن الإنسان مكلَّف بأهم عناصر التطور الحضاري، وهو البحث لأجل فهم قوانين الخالق في خلقه المادي، أي -بالمفاهيم المعاصرة- البحث العلمي، ورفع واقع الموارد المتاحة، وبالتالي بحث كيفية توظيف هذه الموارد، والحفاظ عليها وتنميتها، من أجل الاستفادة منها بالشكل الأمثل، أو ما يحقق الكفاية والفاعلية في استغلال الموارد.

آيات التسخير بدورها تكشف أن الإنسان مكلَّف بأهم عناصر التطور الحضاري، وهو البحث لأجل فهم قوانين الخالق في خلقه المادي، أي -بالمفاهيم المعاصرة- البحث العلمي، ورفع واقع الموارد المتاحة، وبالتالي بحث كيفية توظيف هذه الموارد، والحفاظ عليها وتنميتها

يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [سُورة “لُقمان”– الآية: 20].

واللافت هنا أن الله تعالى شاءت حكمته أن تكون الموارد على الأرض اقتصادية الطابع، أي أنها نادرة، ولا تكفي حاجات الإنسان التي تتزايد وتتطور –وهو قانون شاءته حكمة الله تعالى كذلك– وبالتالي سوف يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى ديمومة العمل لتطوير وتنمية هذه الموارد؛ لكي تكفي احتياجاته.

أي أن القرآن الكريم يخبرنا بشكل شديد الوضوح، أن الحضارة فريضة على الإنسان لو أراد العيش الكريم، وأنها متطورة، وأن الحضارة فعل مستمر ودائم .

بل إن ذلك يُعدُّ جزءًا من إقامة الدين ذاته، أي أن الفعل الحضاري في الإسلام، جزء من قيام الإنسان المسلم بعقيدته.
فالنَّص القرآني فيه مصطلح “خلائف” أربع مرَّات، ومصطلح “خليفة”، مرتان، وكلها مرتبطة في ذِكْرها بقضية الاختبار والابتلاء، وكذلك التكليف والأمانة التي حملها الإنسان بخلْقِه، وتسلمتها أمة الإسلام، باعتبار أنها أمة الرسالة الخاتمة، وكلها أمور من صميم أداء الإنسان المسلم لعقيدته.

النَّص القرآني فيه مصطلح “خلائف” أربع مرَّات، ومصطلح “خليفة”، مرتان، وكلها مرتبطة في ذِكْرها بقضية الاختبار والابتلاء، وكذلك التكليف والأمانة التي حملها الإنسان بخلْقِه، وتسلمتها أمة الإسلام، باعتبار أنها أمة الرسالة الخاتمة

فعلى سبيل المثال، يقول تعالى في قضية الاختبار والابتلاء: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سُورة “الأنعام”– الآية: 165].
ويقول في نقطة التكليف وحمْل الأمانة: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سُورة “يونس”– الآية: 14].

وفي حقيقة الأمر، فإنه كما هي العادة عند تدبُّر معاني آيِ الذِّكْر الحكيم، فإننا بحاجة إلى مجلدات؛ لكي نشرح هذا الأمر فقط في القرآن الكريم، ولكن في خلاصة موجزة وسريعة فإن الفعل الحضاري في كتاب الله تعالى، على هذا النحو، إنما هو فريضة، وجزء من تمام عقيدة الأمة، وتمام تكليف الإنسان المسلم .

وبالتبعية، فإن أي تقصير في ذلك، يُعتبر تقصيرًا من جانبنا كمسلمين في عقيدتنا، وفي القيام بالأمانة التي شرَّفنا اللهُ تعالى بها.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى