مقالاتمقالات مختارة

القرآنيون الجدد واليوغا.. الحياة الروحانية في أطرها التجارية

القرآنيون الجدد واليوغا.. الحياة الروحانية في أطرها التجارية

بقلم رغد شام

تيار أهل القرآن كما يسمي أتباعه أنفسهم أو تيار القرآنيين تيارٌ انتشر بداية في أرجاء من الهند ليصل إلى عدد كبير من البلدان المسلمة لاحقاً وينادي أتباعه باتخاذ القرآن مصدراً تشريعياً وحده دون أخذ السنة النبوية بعين الاعتبار حيث يعتقد القرآنيون أن السنة النبوية موضوعة وتحمل الكذب والتلفيق بينما يعد القرآن كلام الله الذي لم يدخله تحريف. يحارب القرآنيون الكتب الصحاح كصحيح البخاري ومسلم ويعتبرون أن السنة التي أمرنا الله باتباعها موجودة فقط في النصوص القرآنية الواصفة للنبي صلى الله عليه وسلم دون الرجوع لكتب السيرة النبوية والأحاديث المدونة. وقد عبر عن ذلك أحد أكبر اتباع تيار القرآنيين أحمد صبحي المنصور الذي يستشهد بقول الله تعالى “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ” وليس (سنة حسنة)!

منذ حوالي 6 سنوات بدأت رحلتي التي أود تسميتها برحلتي الروحانية، واعتبرت حينها أن الجانب الروحاني من الدين -أيّ دين- أهم بكثير من الجوانب الأخرى. وقد كان صدور رواية (قواعد العشق الأربعين) أحد الدوافع المباشرة لاتخاذي لذلك الفكر الجديد. تلك الرواية التي أسرتني كلياً عندما بدأت بقراءتها ولم أستطع أن أتركها إلا بعد أن أنهيتها حيث أخذت مني يوماً واحداً فقط ولا زلت أذكر تفاصيلها كأنني عشتها وعاصرتها وكنت أحد أبطالها. شمس الدين التبريزي الرجل الدرويش الذي شُغف به جلال الدين الرومي حباً حتى قرر ترك حياته المرفهة وتعلم قواعد الحياة والعشق الإلوهي من شمس مما دفعه نهاية إلى التعبير عن حبه للإله (أو قد تشعر للحظة أنه لشمس!) إلى الرقص وتأليف رقصة الميلوية أو المولوية نسبة لمولانا جلال الدين الرومي.

ومع كل التفرد والتميز الذي تمتعت به شخصية شمس الدين التبريزي إلا أنها لم تكن بأي حال من الأحوال ترمز إلى الشخصية المسلمة المتوازنة بل كانت أقرب للكهنة والمتنورين منها إلى البشر العاديين أو ككاتبة eat pray love الأمريكية والتي قررت ترك عملها لمدة سنة والسفر إلى ثلاث دول في العالم وكانت الهند هي ضالتها الثانية والتي عبرت عنها بكلمة pray حيث جلست لمدة طويلة تمارس حياة التقشف وتقضي وقتها بالتأمل. أي كما يفعل الكثيرون اليوم من ممارسي اليوغا.

قبل العودة إلى القرآنيين سأذكر لكم موقفاً حصل معي أثناء انغماسي في تلك الرحلة الروحية. قرأت حينها بعض مؤلفات محي الدين ابن عربي وكنت من أشد المعجبين بفكره ولغته وسيرته وبعد أن وصلت إلى حد كبير من التوق والشغف قررت أخيراً القيام بزيارة إلى مقام ابن عربي الكائن في المدينة التي نشأت فيها.

يقع المقام في مكان شعبي بسيط وتنتشر حوله المحلات التجارية الصغيرة التي قد لا يعي أصحابها أساساً بوجود مقام لشيخ بذلك الحجم حيهم. وصلت إلى المقام وقلبي مفعم بالغبطة وكلي شوق لشيء لا أدريه! لا أدري سوى أنني مشتاقة. وعندما وصلت إلى المدخل وجدت شيخاً كبيراً يجلس على كرسي مهترىء وبين يديه قرآن كبير جداً يقرأ منه وما إن رآني حتى مد لي يده طالباً مني بعض النقود لقاء إدخالي إلى المقام! دهشت تماماً فلم أكن أتوقع أن يستوقف موقف مادي كهذا رحلتي الروحانية! أعطيته مبلغا بسيطاً إلا أنه هز رأسه معترضاً وطلب الضعف! شعرت حينها أنني أشتري قميصاً من محل تجاري وأفاصل البائع على سعره.

ولكن كلا، لن أجعل هذا الرجل الغريب يفسد علي نشوتي الروحانية. أعطيته ما يريد بعجلة ودخلت إلى المسجد بلهفة الجاني الموعود بحكم البراءة! وما إن دخلت ورأيت المقام محاطاً بسور حديدي حتى انقبض صدري تماماً أشد مما انقباضه من تصرف ذلك الشيخ الكبير! لقد كان شعوري عكس الذي توقعت حدوثه كلياً. استحضرت السكينة وقرأت بهدوء مصطنع الفاتحة على روحه وجلست هنالك علّي أستطيع استخراج ذلك الانقباض من صدري واستعادة النشوة التي سيطرت علي طيلة الأشهر السابقة. استندت إلى النافذة ناظرة إلى المقام وأنا أحادث الشيخ محي الدين في قلبي. خجلت من نفسي ومنه. كيف أنني أسرعت إلى مقامه باحثة عن شيء موجود أصلاً في قلبي. عن شيء لن أكون أقرب إليه أكثر مما أكون في قلب غرفتي وأنا في أشد لحظاتي وحدتي وانفرادي.. الله.

لقد دفعتني تلك الشهور لتقديس أشخاص بدلاً من تقديس الله. جعلتني أبحث عن الله في عيون عباده وأحاول رؤية ما يرونه حتى تحول بحثي عن الله إلى بحثي عن العبد نفسه وتاريخه وأفكاره وزيارة مقامه وماذا بعد؟ التبرك به؟ أذعنت حينها لحقيقة أنني كنت دون انتباهي أمشي في طريق عبودية الرموز البشرية بحجة البحث عن الخالق. يعتبر القرآنيون الدين أمراً روحانياً خاصاً بين العبد وربه أي كما يحاول ممارسوا اليوغا فعله بفصل الحياة الروحية عن الحياة اليومية بل وقد يصلون إلى ترجيح الحياة الروحية عن المادية لينشقوا تماماً عن محيطهم المادي القاتم.

إن أغلب أتباع التيار هذا لم يعرفوا من القرآن إلا بضعة آيات يكررونها أحياناً وما اتباعهم لهذا التيار إلا لعدم اقتناعهم ببعض الأحاديث أو بعض الأحداث والمواقف الواردة في السيرة النبوية والتي لا يجدون لها إسقاطاً على حياتهم المعاصرة كزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عدد من النساء واستنكارهم لتلك الفكرة حينما يقيسونها على أنفسهم أو على من هم حولهم غافلين عن الفارق الزمني ومعطيات العصر والتي تتغير كل جيل (أي كل عشرة سنين). فما كان عادياً قبل عشرة سنين قد يكون غريباً اليوم ومستهجن ككثرة الزوجات وغافلين كذلك عن حقيقة أن غالبية نساء النبي هن من الأرامل أو الكبار أو المطلقات واللاتي قد لا يطمح الكثير من رجال اليوم للزواج بهن.

يقول لك أتباع التيار هذا أن أول من كتب السنة النبوية هو ابن اسحاق الذي عاش في العصر العباسي أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بوقت طويل، إذاً فهي عرضة للتحريف والكذب والتأويل مثلها مثل صحيح البخاري مثلا. إذاً فما أدراك أن الكتب التي تدعي انها صحيحة هي صحيحة حقاً؟ يسألك القرآنيون. أستغرب الردود الواهية التي يرد بها البعض على تلك التساؤلات. إذ أنني أجد أن الجواب أبسط بكثير مما يظنون.

لا أشكك بروعة التأمل وبالقيمة الإنسانية لكل أولئك الذين يتخذون من حياة التقشف والزهد نمطاً بل إن أسرار التأمل تدل على روعة خلق روح الإنسان وعلاقتها الكبيرة بالجسد. لكنني أستغرب من القوالب المادية التجارية التي أقحمنا بها أكثر الأمور روحانية

يقول الله تعالى في سورة النساء “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ” وفي سورة الأعراف “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” وفي سورة النحل يقول تعالى “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” وبجانب كل تلك الآيات التي تؤكد السبب وراء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمته بإيصال الذكر المذكور في سورة الحجر “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ“.

فالسؤال هنا: إذاً هل سمح الله سبحانه وتعالى لأناس معينين بالعبث بأمر كبير يحضنا عليه كاتباع كلام رسوله؟ كيف سيأمرنا باتباع رسوله ومن ثم يسمح لبعض البشر بتحريف كلام الرسول لاحقاً؟ أين التسليم والإيمان بالله في هذه المفارقة الغريبة؟ التشكيك بذلك يعني التشكيك بالقرآن نفسه. كيف سينزل الله أوامر بضرورة اتباع سنة سيسمح بتحريفها لاحقاً؟ إني لا أحبذ حقيقة الخوض في الكثير من النقاشات هذه بهدف النقاش الذي لا طائل منه. فالإيمان أمر لا يحتاج منا تفسيره وتبريره.

وأجد في القرآنيين من التناقض ما يجعلهم يحاربون القرآن باسم القرآن وينافون ما هم يدّعون الإيمان به أصلا. ومن زاوية أخرى فإني أجد أن هواة متبعي الطرق الغير تقليدية كاتباعهم التيار القرآني هم نفسهم من سيفضلون التأمل واليوغا ويقدمون أموالهم كلها لـ”متنورين” يدعونهم إلى ترديد عبارات هندية أو من لغات قديمة بهدف الدخول في حالات تأملية والانعتاق عن الجسد وتحرير الروح من الابعاد المادية والزمنية.

إنني بالطبع لا أشكك بروعة التأمل وبالقيمة الإنسانية لكل أولئك الذين يتخذون من حياة التقشف والزهد نمطاً بل إن أسرار التأمل تدل على روعة خلق روح الإنسان وعلاقتها الكبيرة بالجسد. إلا أنني أستغرب من القوالب المادية التجارية التي أقحمنا بها أكثر الأمور روحانية تاركين بيوتنا راكضين الى الشواطئ والغابات بهدف التأمل وإعطاء مبالغ طائلة إلى أناس هم أبعد ما يكونون عن حياة التقشف التي ينادون بها. إن القرآن مجاني والفطرة مجانية فلنتبع قلبنا ولنتفكر.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى