القدس ومكة.. وحدة الشعور والمصير
بقلم معاوية عوض الله
تتشابه حالة الاغتراب والاستلاب بين المدينتين ويختلف اللصوص وتتشابه النتائج، فالنتيجة هي عجز المدينتين، أليس معنى الاستلاب هو فقدان القدرة على الحركة؟ فكلتا المدينتين مشلولتين.. لكن لا شيء يمنع أن تهاجر الأرواح إليهما بشوق دائم لا يعرف الخرائط والحواجز، فالقدس مسلوبة بفعل القهر والجبروت والبارود وضاعت على حين غفلة، وسمِنَ الدخيلُ بها وأخصبَ أهلَه، لكن لم يزل في أكنافها من يناضل لاستعادتها ويرفع عن الأمة حرج النكوص والاستكانة.
إذن فما بال مكة؟!، تغدو شاحبةً وشاردةً وواجمةً في موسم عرسها السنوي المتجدد، لِما تستقل ضيوفها ومحبيها بهذا الوجوم والذهول والعجز؟ ما الذي تغير؟ أوليسوا هم ذات من تحبهم ويحبونها؟ أوليست هي من رُفع النداءُ في أكنافها داعياً كل الناس إلى ربوعها؟، أوليست هي أرض الأطهار والثوار الصادحين بالخير والحق لكل البشر ضد طواغيت الجهل والخرافة الناطقين كذباً باسم الإله؟ أوليست هي أرض النبوة والوحي وخلاصة التجارب البشرية وفيض السماء؟ أوليست هي من أسلمها الجميعُ قلوبَهم وأرواحَهم وعلى استعداد دوماً للزود عنها؟ فما الذي جرى إذن؟.. لماذا هي عاجزة وكسيحة بهذا المستوى؟
نحن نحتاجها مجدداً لتملأ قلوبنا بفيض النور المقدس والبهاء، نحتاجها شعلةً للتوهج بالحق والصدع بالعدل، نحن نحتاجها لتقود مسيرة الإيمان المُوحِد من جديد، نحن نحتاجها لتُرمِمَ بقايا الألم الذي أحاط بنا وتنهض بنا من جديد، نحن نحتاجها لبعث الهجرة والنور والإيمان، ذاك الإيمان الذي لا يعرف آصرة غير آصرة الحب والحق ولا يعترف بحدود أو لون أو جنس، نحتاجها لأمةٍ أقعدتْها المحن، نحتاجها لبعث هجرة الجهل والتخلف والشتات إلى الوحدة والعلم والمعرفة والوفاق والتعاضد، وهجر الظلم والطاغوت، نحتاج نورها ليملأ جوانح النفس شوقاً للدار والأحباب، نحتاجها لتجدد الإيمان فينا بأنه لا كرامة للإنسان إلا بالإيمان والعمل القويم، نحتاجها لتعلمنا ألّا فرق بين الأجناس إلا بالتقوى، نحتاجها لتجدد الوحى فينا .
أحبتي سُرقت مكة حين جُعلت لحاكم يتمسح بشرعيتها وقداستها ولا يرى بعد ذلك بأساً ان يتآمر على بنيها، ثم يُحيلها إلى ركام من حجر وبلاط أبله، ويُسكت كل الألسنة فيها إلا لساناً يقدس ذات الحاكم ويَسكتَ على موبقاته، سُرقت مكة في زمن أحوج ما نحتاجها فيه. ولن تعود القدس ما لم نُعِد مكةَ لكل الناس، لن تعود القدس ما لم يعد لمكة عزُها وشرفها المسلوب، فهما مدينتان مربوطتان بذات الرباط المقدس، تقديسٌ على تفاوتٍ في الدرجة مع ثالثتهما المنورة. أوليس شيء ذو معنى أن يتم الإسراء إليها من اختها الكبرى؟، أوليس شيء ذو معنى أن يتم العروجُ منها صُعداً للسماء في ليلة البهاء الجليل؟
فلئن سلب الصهاينةُ بالجبروت والبارود والتواطؤ العالمي (قدسَنا)، فقد سُلبت قبلها مكةَ حين نصبت حولها خيمةٌ و(عُقالٌ) وبارود، سُرقت مكة وطُمست قداستُها بزعمٍ من الفتاوى مدفوعة الثمن.. ولن تعود القدس ما لم تعد مكة اُماً للجميع، وتصبح قادرةً على جمعنا لا تفريقنا، وتعود مكاناً تحجُ إليه قضايانا الكبرى كما تحج إليها قلوبنا وأبداننا، لن تعود القدس ما لم تعد مكة مخلصةً لندائها الأصيل (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، حين تصدح مكة باسم الأمة جميعها ألّا شريك لله، وألّا ملك إلّا له، حينها فقط سنكون فتحنا طريقاً للقدس وعروجاً للسماء، حينما تعود مكة تصدح بلسان الحق للجميع وحينما ترتج أرجاءُها بصدع الحق والعدل والفضيلة كما كانت على مر الزمان .
دخلتُ مكةَ ذات مرةٍ متشوقاً ومليئاً بالمهابةِ والإجلال، فوجدتُ أطلالَ قداسةٍ تُصارع للبقاء، لا شيء يثير الدهشة ويصنع الرهبة بعمق مثل الحدث الحي المتفاعل أمام عينيك، وتساءلتُ في كل ركن من تلك الأماكن البهية، أين بيت النبوة الأول حين زُفت البشرى بمولد أحمد؟ وأين دار الأرقم حيث همس فيها النبي بالحق؟ وأين (زملته) سيدة نساء الأمة حين عاد إليها مرتجفاً من جلال الوحي؟ وأين مولد عترته؟ وأين صاح في وجهه أبو لهب مكذباً؟ وأين جهز صاحبه راحلة الهجرة حين اُذن له بالخروج؟ وأين قال قولته الرائعة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ؟..وأين وأين ….؟
فتجيبني غابات الأسمنت وأطنان البلاط البلهاء أن كل شيء تحتي. لم يبق شيء تكتحل بمهابته العيونُ إلّا الكعبةَ المشرفةَ ببناءها المبجل وحولها عشرات العسكر (المؤدلج) وهم ينتهرون العاكفين والمتبتلين كلما عنّ لهم منهم (ابتداع) وفق قاموس (للبدع) المبرمجة سلفاً وفق ما يُفتي به فقهاء (السلطان). كل الأمم تحافظ على تراثها (حتى الوثني) منه، وتدفع الملايين مقابل أن يبقى ذاك الأثر حياً أمام العيون. سيسجل التاريخ أن أكبر جريمة اُرتكبت في حق الأمة هي طمر معالمها المقدسة بواسطة أقوام أدمنوا الجهل والإجرام والتعصب الأجوف.
مكة مدينة تُغسِل أدرانَنا كل يوم خمس مرات حين نتوجه إليها مثقلي الحمل والتبِعة، تلاطفنا بحنانها وتمسح من صدورنا ضيم الحياة ورهقها الحرام
خرجت مكة إخواني ولم تعد، وإلّا فقولوا لي أين تحج (قضايا الأمة الحية والمؤلمة) ألا ترتحل كل يوم قضايانا إلي مطابخ (جنيف ونيويورك وموسكو)….؟! أعجِزت مكة برغم قداستها ومكانتها أن تحل قضية واحدة من قضايا الأمة؟! أليس ذلك لأنها مسلوبة الإرادة؟ ثم أين الأمان؟ في أرض (كل شيء فيها حرام حتى اللقيطة). أرض لن تسير فيها مطمئنا سواء أن كنت من بنغلاديش أو الصين ما لم تحمل (ختم الرضا) والمُحدد الفترة والوجهة والمقصد، أرض لا تملك أن تقول فيها ما يقوله المجانين في هايد بارك، وذلك رغم انتماءك الكامل لها حساً وشعوراً واستعداداً للزود عنها.
إن بيتاً جمع قلوبنا علي اختلاف الالسن والأشكال، لهو جديرٌ أن يجمعنا علي قضايانا الحية. إن بيتاً نتوجه إليه كل يوم خمس مرات لنغتسل من ذنوبنا يمكنه أن يغسل كل قذارات حكامنا وتاريخنا ومؤامرتنا بل وقذارات العالم. لكن أين السبيل للبيت العتيق؟ وعلى الباب ألف عسكري وأمير و(متفيقه) يسعي بالفتوى الحرام كصك براءة لحاكم ظالم. فعلي بعد خطوات من باب الكعبة يمارس الربا وتحاك المؤامرات على أشراف الأمة، ويحرم على العلماء والأحرار دخول البيت وتُمنع كتبهم وأصواتهم، ويُحرَم ثوار القدس من مجرد دعاء لهم من فم إمام (مؤدلج).
وعلى مداخل الحرم سُئل صديقي المعتمر عن هويته، ولما لم تكن معه زُج به في السجن انتظارا لبراءة تُثبت أنه ما جاء إلّا للعمرة، وكأنه جاء يزاحم واحداً من الأمراء في قصره، أو جاء متسولاً يرجو لقمةً من أفواه اللئام. من أعطى هؤلاء حق الإمرة على مقدساتنا؟ استعيدوا للمدينة ما تبقي من قداستها، فالأمة أحوج ما تكون إلى مكة لكل الناس. شئ واحد لم يستطع المغتصبون نزعه، هو هذا الشعور الحي والمتجدد في وجدان كل مسلم بقيمة هذه الأرض، وهي جزء من تكوينه النفسي والشعوري، وهي مكملة لإيمانه ودينه.
ستظل القدس ومكة نابضتان في وجداننا جميعاً، هذه تمدنا بالعزم والإرادة وتلك تمدنا بالطاقة والإيمان اللازم، سنجتمع يوماً على ترابهما وقد اغتسلتا من كل الأدران، سنعود لهما يوماً ملبين (أن الحمد لك والملك لا شريك لك). فمكة مدينة تُغسِل أدرانَنا كل يوم خمس مرات حين نتوجه إليها مثقلي الحمل والتبِعة، تلاطفنا بحنانها وتمسح من صدورنا ضيم الحياة ورهقها الحرام. صدقوني لن نستطيع أن نُعيد توازننا إلا أن نُعيد مكة أولاً من أسْرها، لأن طريق السُرى للقدس مرّ من هنا وسيمرّ دوماً من هنا، وحينها سيُفتح دربُ السماء للعروج، أوليس تلك حقيقة القصة كما صورها القرآن؟
(المصدر: مدونات الجزيرة)