مقالاتمقالات مختارة

القدس وحالات صفقة القرن الثلاث

القدس وحالات صفقة القرن الثلاث

بقلم كامل النصيرات

كلما مرّ عيد للمسلمين طار القلب نحو القدس؛ يسأل عن ناسها وحمامها وقبابها وأزقتها.. وكلما حلّ عيد ولبس الناس ما استجهزوه من موضاتٍ وصرعات عالمية، رأيتُ في عيون القدس دمعتين: واحدةً على ما آلت إليه، وثانيةً على انتظار لا ينتهي.

ترامب؛ الثور الهائج في برسيم العرب الطازج، ورغم أنه يعاني ما يعاني من فضائحه الداخلية التي لا تنتهي، فإنه يترك هذا كله وبوصلته تشير إلى القدس دائماً وأبداً، كأنها “مسجلة” باسمه، أو من تركة والده إليه.

يتعامل ترامب مع القدس كأنّ أصحابها الحقيقيين لا يُرون بالعين المجردة، والعرب الذين يقيمون له الزار تلو الزار ليرضى عنهم، لا يأبهون بما ستؤول إليه ديارهم، بل عيونهم مفتوحةٌ على تعابير وجه سيد البيت الأبيض المليء قلبه بالحقد الأسود، الذي لا يحتاج إلى دليل.

هذا هو الترامب، وبتواطؤ مسبق مع أسيادنا وولاة أمورنا المفضوحين علانيةً في بلاد الفرنجة وبلاد الواق واق، بينما تتستر عليهم شعوبهم من أجل معركة الحياة مع لقمة العيش والركض اللاهث خلف إبرةٍ أو علبة دواء.

هؤلاء الولاة الطاعنون في الخراب، هم حماة ترامب وأدواته المباشرة.. هؤلاء بأصابع أياديهم وحوافر أقدامهم، يبصمون له على توسيع الاستيطان في القدس.. هؤلاء الصانعون هزائمنا بجرّة قلم، والرافعون رؤوسهم أمام الفقراء، هم فقط من يضعون الخطط التي تصنع الهزيمة تلو الهزيمة في القدس وما حولها.

تأتيك الأخبار كلّ يوم وأنت كالصنم لا تعرف من “موت إحساسك” ماذا ستفعل حيالها.. أصلاً أنت لا تملك من أمرك شيئاً سوى: أمرك مولاي؛ ومولاك لا يريدك إلا فصلاً من فصول الخيبة في حضارة تركتك خلفها مراحل وأشواطاً بعيدة، فكيف إذا كانت القدس هي الأخبار والخبر المقصود؟

في الأخبار: أجّلنا صفقة القرن بعجرها وبجرها.. تبتسمُ قليلا، تريد أن تطمئن أقلّ من قليلٍ، لكنك سرعان ما تشعر بوخزٍ في موميائك المحنّطة.. تشعر أن الأخبار تكذب، وأن الخبر الثاني هو الأصدق، وهو الأعمق والأدق: نفّذنا صفقة القرن، والقدس انتهى وضعها.. هكذا وبكلّ بساطة؟! معقول تمّ استغفالنا جميعاً شعوباً وأمماً وحضاراتٍ وأسياداً وعبيداً؟ هل يُعقل ذلك؟! هل بهذه البساطة ينتهي أمر القدس أيها الأوغاد؟ هل بهذه السطحيّة تنحني القدس لكم بلا ضجيج أو دماء فيها وحولها؟!

ويأتيك الخبرُ الثالث: قريباً وقريباً جداً سيعلنون رسمياً عن تلك الصفقة! تشعر لحظتها أن المقصود هو إدخالك في دائرة مليئة بالسيوف المشرعة، كلّها مصوّبةٌ عليك وعليك وحدك.. تشعر أنك ممنوع من الخروج من الدائرة وكأنها محاكم التفتيش في إسبانيا.. تشعر أنك المستهدف الوحيد رغم أنك صنمٌ وتصفّق لمولاك.

ورغم أنك تشعر بوخز المومياء، ورغم أنك داخل الدائرة التي لا مخرج منها، فإنهم لا يكتفون بحالاتك الثلاث تلك، يريدونك أكثر من ذلك، يريدون أن يعملوا لك جردة حساب على جيناتك المتوارثة كلّها، بل يريدون أن يصفّوا حسابهم معك كتاريخ هزمهم هزائم منكرة في مواقع شتّى، ولا يستطيعون محو التاريخ، ولكنهم يستطيعون اللعب بالحاضر كما يشاؤون، لأن لديهم من أبناء جلدتنا من ينوب عنهم في تغريبنا عن أوطاننا ونحن فيها.

رغم أن العيد سعيدٌ كما يثبّت العرب ذلك قولاً لا فعلا، فإنه مرّ علينا هذا العام حزينا أيضاً ككل مرّة.. حزينٌ لأن كلّ خرم إبرة في القدس حزين، ولأن صهيل الخيل حزين.

أمَا من زعيم حرٍّ واحدٍ فقط، واحدٍ يا رب، يتخلّى عن لغته الدبلوماسية ويردّ على هذا المتجبّر بثرواتنا والمبحر في نفطنا والمتنعّم في ريشنا والسادر في غيّه بسفننا ومركباتنا؟! أما من زعيم يردّ عليه ردّ الفاتح والقائد الذي لا يرفّ له جفن ولا يحسب حساباً للهرطقات؟!

أمَا من زعيم يردّ للقدس هيبتها ويمسح وجهها بماء الله، ويطمئنها على القادم من الأيّام؟! أما من امرأةٍ استطاعت أن تلد زعيماً يبعث رسالة للقدس يخبرها عن مكانه، وأنه قادم يرد الكيد على النحر، ويحرّر أمّةً صلعاء تتغنّى بشعر بنت خالتها؟!

ختاماً، سواء أجّلوا صفقة القدس أو ادّعوا أنهم نفّذوها أو أنهم يتحيّنون الفرصة القريبة لكي يعلنوها، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الحاضر قد استتب لهم، بل إن مفاتيح الغيب يصنعه الواثقون بأرضهم، الرافعون رؤوسهم. أما كل الأمم والشعوب بلا استثناء، الحاملون أرواحهم في كفّ والسيوف في الكفّ الأخرى، الذين إذا مشوا خطوة لا يتراجعون حتى ينتهي المشوار، كلّ المشوار، لترفع القدس بيارقها وتغرز إصبعها في عيون الغاضبين.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى