بينما جراح القدس تحلم بمن يمد يده من العرب ليربطها ويوقف نزيفها وهي تتسع وتتورّم تحت سياط عواصف استيطانية وتهويدية شديدة ومتواصلة، تتراخى أيدي الكثيرين من قبائل “بني صمت” العربية وقد وقعت تحت تأثير وتخدير هواء فاسد يزداد هبوبه على المنطقة العربية محملا بثاني أكسيد التطبيع الخانق، الذي لا يخلو من تلوث وسموم مبيتة تستهدف إضعاف الصوت العربي المطالب بالحقوق الوطنية والتاريخية والدينية في مدينة القدس، التي يراد لها عربيا وإسلاميا أن تظل مدينةً عربية إسلامية مرشحة بامتياز لتكون عاصمة أبدية للدولة الفلسطينية.
التطبيع وما أدراك ما التطبيع؟ هو السلاح الناعم والقاتل الذي ترفعه بكل تحايل ومكر وخداع القوى الصهيونية المتمثلة بسلطة الاحتلال الصهيوني، وتؤيد الترويج لمفعوله وجدواه الجهات المساندة للدولة المحتلة المغتصبة، وفي مقدمة هذه الجهات المساندة الإدارة الأميركية الجديدة التي تمخض عنها قرار نقل السفارة للقدس باعتبارها -أميركيا وصهيونيا- عاصمة أبدية لإسرائيل.
وإذا تمعنا في معنى التطبيع ومغزاه وأبعاده البالغة الخطورة على القدس وعلى سائر الأراضي المحتلة، نقف أمام حقيقة صادمة بأفدح العواقب وأشدها خطورة منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن، وبكل ما يحمل هذا من احتمالات وتطورات ليست بالتأكيد في صالح القضية الفلسطينية التي اعتاد العرب أن يعتبروها قضيتهم القومية المركزية.
إن نظرية التطبيع المطروحة منذ أكثر من عقدين زمنيين، والتي تبنت طرحها من جديد الإدارة الأميركية الجديدة، تستهدف إضعاف الموقف العربي برمته وإضعاف الطرف الفلسطيني وتجريده من أي أوراق ضغط يمتلكها إذا ما عاد إلى طاولة مفاوضات ليطالب بحقه في تحرير أرضه وتقرير مصيره وإنقاذ مقدساته وتاريخ أجداده في القدس التي تتعرض لهجمات الاستيطان وخطط التهويد، تلك التي لا تقف عند حد.
فالتطبيع مع المحتل يعني -في نظر الطرف الآخر على الأقل- دعوة صريحة للاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على الأرض العربية الفلسطينية، وهذه الدعوة تستهدف الشعوب العربية قبل أن تستهدف الأنظمة العربية وحكوماتها القائمة.
إن نظرية التطبيع المطروحة منذ أكثر من عقدين زمنيين، والتي تبنت طرحها من جديد الإدارة الأميركية الجديدة، تستهدف إضعاف الموقف العربي برمته وإضعاف الطرف الفلسطيني وتجريده من أي أوراق ضغط يمتلكها |
فهي دعوة تظل متذرعة بالاتفاقيات المبرمة مع بعض الجهات العربية الرسمية بدءا باتفاقية كامب ديفد ووصولا إلى اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة. وأخطر ما يستهدفه التطبيع الذي أخذ يطلُّ برأسه علانية هو التسلل إلى المنطقة العربية للسيطرة على العقل العربي، تمهيدا للسيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية من أجل وضع الإرادة العربية تحت الحصار لإضعافها وكسر شوكتها قبل كل شيء.
غسيل الأدمغة
فدعاة التطبيع أول ما يستهدفون هو إجراء عملية غسيل للدماغ العربي الذي اعتاد أن يعتبر الصهاينة مغتصبين للحقوق الفلسطينية منذ عشرات السنين.
وإذا ما تسنى لهؤلاء غسيل بعض الأدمغة العربية، يتسنى لهم نشر العدوى بين العقول والنفوس العربية في المنطقة لإثارة البلبلة وتهيئة الأجواء لمزيد من الخلاف والفرقة في المجتمعات العربية المقسمة جغرافيا بفعل سياسة “سايكس بيكو”، كما ستصبح المنطقة العربية -بفعل انتشار داء التطبيع- مرشحة لمزيد من النزاعات والصراعات المذهبية والطائفية، لإضعاف الدول العربية وإنهاكها وتبديد عناصر القوة فيها، لتظل منشغلة بصراعاتها وجراحاتها عن عدوها الأساسي الذي حاربها وأوقع في صفوفها الهزيمة لأكثر من مرة، واحتل أراضيها وأخضعها للاستيطان والتهويد والمصادرة.
فدعاة التطبيع والمطبِّعون معهم يريدون أن يصبح العدو المعتدي جارا له حق الجيرة، ويريدون أن يصبح الجلاد صديقا للضحية، ويريدون كذلك أن يصافح صاحب البيت سارق بيته الذي يخادعه بكلام لا يقدم ولا يؤخر، حتى يتودد له صاحب البيت دون أن يسترد منه شيئا من أشياء كثيرة قام بسرقتها زاعما ملكيته لها.
فالتطبيع الذي تقام له دعوات وترفع له لافتات هنا وهناك، له خطط مدروسة ونوايا ماكرة منحوسة ترمي إلى اعتراف المظلوم بالظالم دون أن يعترف الظالم بما أوقعه على المظلوم من ظلمٍ جائر، وقبول الذي احتلت أرضه واغتصبت حقوقه ببقاء المحتل على أرضه والسكوت عن احتلاله لها إلى إشعارٍ آخر أو غير إشعارٍ آخر قبل أن يفكر في المطالبة ولو بشبر واحد من أرضه المحتلة بقوة السلاح.
فدعاة التطبيع والمطبِّعون معهم يريدون أن يصبح العدو المعتدي جارا له حق الجيرة، ويريدون أن يصبح الجلاد صديقا للضحية، ويريدون كذلك أن يصافح صاحب البيت سارق بيته |
والتطبيع يا معشر السادة هو شروع بيِّنٌ وواضح في تجميد الإرادة العربية إلى جانب الإرادة الوطنية الفلسطينية ووضع الإرادتين في برّادات أو كبسولات مثلجة درجة حرارتها تحت الصفر بكثير، وهذا هو الجو الموبوء الملائم عند الطرف المعتدي والمتمادي لتمرير صفقة القرن التي يتم طبخها في مطابخ صهيوأميركية، حيث يبدو من رائحتها -قبل مذاقها- أنها طبخة مشبعة بسموم التطبيع الكفيلة بتصفية القضية الفلسطينية، وتسجيل مصطلحها الدال عليها في قائمة الموتى بعد حرق شهادة ميلادها واستخراج شهادة وفاة لها من المؤسسة العالمية للتطبيع الصهيوني.
أي معنى سيكون لهذا التطبيع المناور والمخادع ومجراه يفيض بالمضحك المبكي من الأفكار العجائبية والمصائد الغرائبية المنصوبة للطرف العربي المطبّع دون هوادة؟ فبينما يجري تعزيز قوة الطرف المحتل وضمان أمنه واستقراره وبقاء مستوطناته وحواجزه العسكرية واعتقالاته، وسجونه يراد للطرف العربي المستهدف والمدعو إلى التطبيع أن يبقى ضعيفا وممزقا وغارقا في حروبٍ ونزاعاتٍ مذهبية وطائفية حتى أذنيه، ومهددا بالتطرف والعنف والدمار وخراب النفوس والبيوت.
معادلة غير متكافئة
إن معادلة التطبيع غير المتكافئة الطرفين والمفتقرة إلى أدنى درجةٍ من التعادل لا تعني إلا معنى واحدا هو التخطيط السياسي والإعلامي والثقافي لإحداث مشهدٍ على مسرح الصراع التاريخي بين العرب واليهود ممثلين بكيانهم المحتل، بحيث يبرز فيه الطرف المعتدي وهو يمد يده الملطخة بدماء الشهداء العرب ليصافح أبناء أمةٍ مغلوبةٍ على أمرها لا تملك أن تفعل شيئا لجراح القدس، ولا تمد لها أربطةً توقف نزيفها الذي لا يتوقف بفعل عوامل التهويد والاستيطان.
من هنا تبرز أهمية مقاومة التطبيع والتصدي لكل حيَله وألاعيبه ونواياه الخبيثة الرامية إلى تجريد العرب من قوتهم ووحدتهم وأي فعل يعول عليه، تمهيدا لمساومتهم على حقوقهم ومبادئهم وثوابتهم القومية والوطنية، وذلك بعد أن يتم تجريدهم من أي أسلحة دفاع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فلا يعودون يمتلكون أي أوراق ضغط فاعلة ومقنعة عند الحديث عن المبادرة العربية للسلام.
وبهذا تصبح المبادرة العربية شيئا من الماضي إذا ما تصدرت صفقة القرن الموقف السياسي، وهيمنت بغطرستها الصهيونية المدعومة من كل متصهيني العالم على الوضع في المنطقة العربية دون مجابهٍ لها أو مقاوم.
إن قوى مقاومة التطبيع في أنحاء الوطن العربي والعالم مدعوة أكثر من أي وقت مضى لتوحيد الصفوف والمواقف واستثمار الجهود المبذولة لهذه الغاية |
إن قوى مقاومة التطبيع في أنحاء الوطن العربي والعالم مدعوة أكثر من أي وقت مضى لتوحيد الصفوف والمواقف واستثمار الجهود المبذولة لهذه الغاية، وإلّا فإن المقاطعة العربية وما يعززها من مساندات عالمية في شرق العالم وغربه ستصبح ضعيفة المفعول والتأثير في حقبة زمنية راهنة أو قادمة، تتصاعد فيها دعوات التطبيع وتتسع دائرة انتشارها وترويجها في منطقتنا العربية، وفي مناطق أخرى من العالم قد تقع فريسةً لفبركات الدعاية الصهيونية التي لا تتورع عن أن تُلبِسَ صقور التطرف الاستيطاني لديها الريش الأبيض أو الرمادي لحمائم السلام التي اعتادت دولة الاحتلال إطلاقها في الأجواء بين حين وآخر.
ليكن شعارنا كما هو شعار القدس وأهلها “لا تطبيع مع المحتل”، ولا تطبيع لصاحب أرضٍ مصادرة مع سارقها ومغتصبها بقوة السلاح.
ما دمنا نرفض تهويد القدس وتحويلها إلى عاصمة لدولة الاحتلال، فقد بات لزاما علينا نحن العرب أن نسارع إلى وأد دعوات التطبيع المتزايدة وخنقها في مهدها حتى لا تفقدنا إرادتنا وعزيمتنا، فيصبح رفضنا مجرد كلامٍ في جملةٍ اسميةٍ تخلو من فعل فاعل.
أما وقد وصلنا في منطقتنا العربية المستهدفة إلى هذه الحالة المتذبذبة بين التطبيع واللاتطبيع دون وضوح المواقف، فإن جراح القدس ستصبح وراء ظهورنا، كما ستصبح حقوق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه أمرا ثانويا لا قيمة له، وإن جرى تسجيل هذه الحقوق بحروف صغيرة على هوامش القضية وحول صفحة التطبيع المفتوحة على شتى الاحتمالات، وذلك من قبيل تطييب الخواطر وتخدير المشاعر عند الذين لا يسر لهم التطبيع خاطرا ويقلقهم الترويج له على الدوام.
(المصدر: الجزيرة)