القتل بمباركة الكهنوت.. كيف تحول رجال الدين إلى أداة للقتل والاستبداد؟
إعداد محمد فتوح
“حين دافع علماء الدين عن سياسات الحكومة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في مصر نُظر إليهم على أنهم دُمى يحركها النظام الحاكم”
(سكوت هيبارد)
في السابع من يوليو/تموز عام 2011، وبعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة السورية، نشر موقع الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي “نسيم الشام” سؤالا لسائل يستغيث بالشيخ باعتباره القامة الشرعية والفكرية الأشهر في الشام، كان نص السؤال: “إلى شيخي محمد سعيد رمضان البوطي.. أنتم مشايخنا الذين وضعكم الله لإثبات كلمة الحق فأفتونا -رعاكم الله- ما حكم من أُجبر على توحيد غير الله وذلك من قِبَل الأمن، لي أصدقاء قد ضُرِبوا بالعصي والهراويل على رأسهم لأنهم سألوه أليس ربك بشار؟!
لم يُجِب فقد نال ما نال. أليس أنتم الآن مسؤولين عن هذه الحالات، ألستم أنتم من يحملون أمر أمتنا؟ ألستم أنتم من يجب عليه القضاء على الفساد الذي انتشر والذي وصل للألوهية، ماذا ننتظر؟ أفتنا في أمرنا شيخنا وعالمنا الفاضل ولك جزيل الشكر”
رد البوطي جاء متجنّبا ذكر النظام، ولو بكلمة واحدة، ليلقي لومه على ذلك الشاب الذي خرج في المظاهرات وعصى أمر رسول الله، قال البوطي: “لماذا تسألني عن النتيجة ولا تسألني عن سببها؟ ما سبب ملاحقة هذا الشخص وإجباره على النطق بكلمة الكفر التي تذكرها؟ أليس سبب ذلك خروج هذا الشخص مع المسيرات إلى الشارع والهتاف بإسقاط النظام وسبّ رئيسه والدعوة إلى رحيله؟ لماذا لا تسألني عن هذا السبب وحكمه؟! لماذا الإصرار على مخالفة أمر الله وأمر رسول الله، ثم التشدق بعد ذلك بالسؤال عن حكم الإسلام في حق النتيجة التي انبثقت عن هذه المخالفة؟! استجيبوا لأمر رسول الله القائل في حق مثل هذه الفتنة عليك بخاصة نفسك، ثم انظروا هل ستجدون من يلاحقكم إلى بيوتكم ويجبركم على النطق بهذا الكفر؟”[1].
لم تكن هذه الفتوى شاذة وسط ازدياد “علماء السلاطين” الذين انتشروا إبان الربيع العربي، وعلى الرغم من عدم حصول البوطي على منصب رسمي، كالذي حظي به علي جمعة حين تقلد منصب الإفتاء الرسمي بمصر، فقد تشابهت فتاواهم السياسية السائرة على خط السلطة.
البوطي.. الفقيه السلطاني في الدولة الحديثة
“إن باطن قائدنا الراحل كان خيرا من ظاهره، والسيد الدكتور بشار الأسد: لقد آل الأمر في هذا اليوم إليك بمشيئة الله أولا، ثم ببيعة صادقة صافية من الشوائب من هذا الشعب ثانيا، بيعة لا تستطيع الديمقراطيات المطبوخة المصطنعة أن تتسامى إليها، ولم تستطع المزايدات أن تُغْشِي على شيء منها بشكل من الأشكال!”
(محمد سعيد البوطي في تأبين حافظ الأسد)
محمد سعيد رمضان البوطي، أحد أشهر علماء سوريا، حظي بشعبية واسعة بين الناس في الشام، فمنزلته في الشارع السوري توازي من الثقل والشهرة منزلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في مصر، ولقد ترك أكثر من ستين مؤلفا إسلاميا في علوم الشريعة والآداب والصوفية والفلسفة والاجتماع والسيرة ومشكلات الحضارة، ورغم كونه قامة شرعية وفكرية في الشام، ولم يتقلد أي منصب رسمي كذلك، فإنه سيكون المناصر الشرعي الأول للنظام السوري.
فقد فتح حافظ الأسد للبوطي أبوابا موصدة لغيره، وخصص له برامج تلفزيونية، أهّلته للتصدر ونيل الحظوة. وعلى الرغم من كونه فقيها شافعيا متشددا في الأخذ بالمذاهب الأربعة، سيبدو فقهه ذرائعيا، متلمسا لقياسات تلائم عباءة السلطة السياسية، وطوال مسيرته العلمية والعملية، لم يجرؤ أن يعارض السلطة السياسية مرة واحدة.
يقول معتز الخطيب: “مما يثير التأمل في عقلية البوطي هو ذلك الاستسلام للسلطة السياسية وعدم الجرأة على مساءلة أفعالها، فهو يسلم باستمرار بأن أوامر السلطة لا يمكن دفعها، ومن ثم فهو لا يوجه خطابه إلا إلى الناس ويسائل تصرفاتهم التي وحدها تقبل التكييف، وهذا ما يوقعه في تناقضات عدة بسبب تغير مواقف السلطة بفعل عوامل عدة يجد نفسه مضطرّا للتقلب معها”[2].
وفي حين زُج بآلاف إلى غياهب السجون أو أعواد المشانق في ظل حكم أعتى أنظمة الاستبداد العربية الحديثة، فقد سُمح له بالدخول على رأس الدولة حافظ الأسد بغير استئذان، قبل أن يتغير الحال مع ابنه بشار الأسد الذي حجّم من دور البوطي في الدولة[3].
فتاوى البوطي بلون نظام الأسد
“سيكون بعدي أمراءُ، فمن دخل عليهم فصدَّقهم بكذبِهم وأعانهم على ظُلمهم فليس مني ولستُ منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوضَ، ومن لم يدخلْ عليهم ولم يعنْهم على ظلمِهم ولم يصدِّقْهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوضَ”
(حديث نبوي)
خلع البوطي عباءته الفقهية والفكرية، والتي تتمسك بالنص الحرفيّ للقرآن والسنة في عدد من المواقف، فعلى سبيل المثال في كتابه “إلى كل فتاة تؤمن بالله” قد انتهى إلى القول: “ثبت الإجماع عند جميع الأئمة أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم؟!”
ولكن بعد أن قرر النظام السوري محاصرة النقاب في المؤسسات الرسمية، كتب البوطي مقالا في صحيفة “الحياة” يتحدث فيه عن سُلّم الأولويات، وأن على المرأة “أن تؤثر فائدة وظيفتها على فائدة التمسك بنقابها”. لم يكتفِ البوطي بمخالفة الرأي الذي سطره من قبل في كتابه إرضاء للسلطة، بل يذهب أبعد من ذلك بقوله: إن تمسكها في هذه الحالة بنقابها هو من حظوظ النفس![4].
وحين اشتعلت المظاهرات في سوريا وصفها البوطي بالمؤامرة الخارجية[5]، وروّج التلفزيون الرسمي للقاء مع البوطي بكثافة عشية المظاهرات عبر شريط يظهر بشكل متكررعلى الشاشة كُتب فيه: “ترقبوا كلمة العلامة د. محمد سعيد رمضان البوطي”.
ظهر البوطي الخميس 24 مارس/آذار 2011 قبيل مظاهرات الجمعة التي أخذت تزداد كثافة وقوة، فتحدث عن “أياد خارجية” تعبث بشأن البلد، وقام بتحقير المتظاهرين وتجهيلهم متسائلا: “من أنتم؟!”. وفي اليوم اللاحق، 25 مارس/آذار 2011، ظهر “القرضاوي” من الدوحة لينتقد موقف “البوطي” والنظام السوري عبر خطبة “الجمعة”[6]. وبعد أيام من دعاء البوطي لبشار على المنبر في دمشق، قُتل البوطي داخل مسجده بمعقل النظام، حيث تشير القرائن أن النظام الذي والاه هو من تخلص منه بعدما انتهى دوره[7].
لِحى في خلفية الانقلاب
“قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ بن حنبل عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْهَرَوِيِّ فَقَالَ: رجلٌ وَسِخٌ، فَقُلْت مَا قَوْلُك إنَّهُ وَسِخٌ، قَالَ: مَنْ يَتْبَعُ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ هُوَ وَسِخٌ”
(الآداب الشرعية لابن مفلح)
شيخ الأزهر أحمد الطيب، بابا الكنيسة تواضروس، جلال مُرة ممثلا لحزب النور السلفي، ثلاثة في خلفية المشهد الرسمي للانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013، ليبدو البعد الديني مكونا رئيسيا في مشهد الانقلاب، وينبئ عن العلاقة بين السياسي والديني.
هكذا وقفوا في مباركتهم للخطوة الانقلابية، ليقف السيسي حينها معلنا أن وقوفه هنا لم يأت إلا لحقن الدماء، ولما سُئل ياسر برهامي عن سبب انقلابه على الإخوان أجاب بأن الإخوان إذا تمكنوا فإنهم سيدمرون العمل الإسلامي، لأن طبيعتهم لا تسمح لغيرهم بالعمل معهم، وبرهن على دعوته بقوله: “الإخوان رموني خارج المسجد، ولن أنساها لهم”![8]
فيما بعد، تسارع المشهد، وخرجت الفتاوى تباعا معلنة تأييدها لعبد الفتاح السيسي باعتقال معارضيه السياسيين. خرج حينها مفتي الجمهورية الأسبق الشيخ علي جمعة أمام قيادات الجيش بزعامة عبد الفتاح السيسي مفتيا بأن المعارضين للجيش والشرطة من الخوارج مخاطبا إياهم: “طوبى لمن قتلهم وقتلوه”، ووصفهم بـ “الأوباش! ناس وحشة، ريحتهم نتنة!”
قبل ذلك بعام واحد فقط، وقف علي جمعة خطيبا بحفل إفطار الإخوان السنوي داعيا للوحدة بين طوائف الأمة الواحدة[9]. وبالعودة لمشهد ما بعد الانقلاب، خرج جمعة ليقدم سلسلة من المحاضرات في برنامجه “والله أعلم” على قناة “CBC” يحذّر فيها من فكر الإخوان الخوارج وأنهم سبب كل شقاء حَلّ بالمصريين.
قراءة في تناقضات فتاوى الدم
“وهلْ أفسدَ الدينَ إلا الملوكُ وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهبانُها”
(عبد الله بن المبارك)
فتاوى البوطي وجمعة لم تقف هنا، وإنما تعدت لتطويع الفتاوى بحسب ما تشتهيه السلطة السياسية رغم تناقضاتها. فالمظاهرات التي كانت محرمة في زمن مبارك، أصبحت مباحة في زمن مرسي، ثم عادت لحرمتها بعهد السيسي والتي عبّر عنها باتهامه لمعارضي السيسي بالخوارج، وقال: “من قَتَلهم فهو أولى بالله منهم”[10].
وفي السياق نفسه، كان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر سعد الدين الهلالي الذي كان تعليقه حين حكمت محكمة الجنايات بالإعدام على 529 متهما بتهمة قتل ضابط شرطة: “هنيئا لهذا القاضي فقد أراح ضميره”، وعلى الرغم مما يتميز به خطاب الهلالي من السيولة الفقهية، فهو ما يفتأ بأن يدعو ويكرر الدعوة في برامجه إلى حرية الاختيار الفقهي مهما كان شاذا أو متروكا. لكن الهلالي سيبدو شرسا للغاية مع خصومه السياسيين، فقد برّر الهلالي حكم القاضي بقوله: “إن أكثر الفقهاء يقولون: إن الجماعة تُقْتَل بالواحد”، مخالفا بذلك دعوته المتكررة في الأخذ بأيسر الأقوال الفقهية.
ويعلق معتز الخطيب قائلا: “”الهلالي” ينفي عن الدولة أن تكون لها وظيفة دينية مع أنه جعل لوزيري الدفاع والداخلية وظيفة دينية كوظيفة الرسل. والأهم من هذا كله أن استدعاءه للفقه وقع من جهتين: الأولى أن الجماعة تُقتَل بالواحد ليسوّغ حكم القاضي بإعدام المئات بتهمة قَتْلهم رجلا واحدا، والثانية: أن حُكم القاضي في الفقه الإسلامي واجب النَّفَاذ ولا يُنقَض ولا يُستأنَف، وذلك ليؤيد القاضي ويمتدح القضاء والقاضي معا وليقطع الطريق على نقد الحكم أو الطعن فيه”[11].
أما شوقي علام مفتي الجمهورية فقد أفتى في بيان صادر عن دار الإفتاء بتهجير أهالي سيناء لأن الضرر يهدد الوطن، ولم يستنكر في بيان واحد ما يفعله الجيش المصري من قتل عشوائي وتهجير مع مدانين عُزّل في سيناء[12].
الفقهي في خدمة السياسي
“ومن أتى السلطانَ افتُتِنَ”
يواصل الخطيب تعليقه على حالة الفتوى في مصر بأن هذا التلاعب من المؤسسة الدينية ليس فقها وإنما هو فقه سلطاني، يقول: “لا يمكن تفسير هذا التلون الشديد في “الفتوى” التي هي “بيان حكم الله في الواقعة” بالعودة إلى الفقه، لأنها لا تنتمي إلى الفقه أصلا، فقد وُلدت من رحم السياسة والسلطة”[13]، وأما هؤلاء المُفتون فإنهم “جزء من جهاز الدولة يأتمرون بأمرها، وكان يمكن فهم هذه الفتاوى على أنها “فتاوى فقهية” لو لم تتناغم مع إيقاع السلطة وحاجتها أولا، ولو اتخذت مسافة تفصلها عن الموقف السياسي للسلطة ثانيا، ولو لم تدخل في سجال “سياسي” مع الفتاوى المناقضة لها ثالثا”[14].
كل ذلك يجعل النظرة إلى هذه الفتاوى لا باعتبارها فقها، وإنما كتبرير فقهي للجرائم السياسية والأخلاقية للسلطة السياسية، فإن “فتاواهم” الدينية تتطابق باستمرار مع موقف السلطة دون أي مسافة بين السلطة والفتوى، أو بين إرادة الرئيس وحكم الشرع، وبذلك فإن خطابهم لا يتوجه إلا إلى عموم الناس/المكلفين، ففتاواهم تنطلق لتخاطب سلوك وسياسات السلطة أو الدولة.
ففي حين لعب الفقه سابقا دورا في تيسير أحوال الناس ومعاشهم بما يتناسب مع القيم الأخلاقية وفق شرع الله، وحاز على سلطة الحكم الفقهي كحكم فاصل إذا تغول السلطان وطغى، فإن الفقه الآن بات في كثير من مظاهره في خدمة السلطة وتبرير سلوكها.
———————————————————————-
الهوامش
(أ) كان هتافهم: الشهداء في القلب.. يا مفتي يا بن الكلب.
(المصدر: ميدان الجزيرة)