بقلم فضيلة الشيخ العلامة / محمد أحمد زحل (عضو رابطة علماء المسلمين)
الشورى:
1- ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْحَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَىاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ الآية: 159 – آل عمران.
2- ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَآمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَامَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْشُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْيَنتَصِرُونَ (39) ﴾. الشورى الآيات: [ 36-37-38-39].
المادة اللغوية وأصل استعمالها:
حين نستنطق المعاجم اللغوية مستفسرين عن أساس استعمال مادة «شورى» يجيبنا العلامة «ابن منظور» في لسان العرب «شار العسل يشوره شورا وشيارا وشيارة ومشارا ومشارة: استخرجه واجتناه، وشرت العسل واشترته: اجتنيته وأخذته من موضعه. وشرت الدابة شورا/: عرضتها على البيع أقبلت بها وأدبرت، وأشار عليه بأمر كذا: أمره به وهي الشورى والمشورة والمشورة، وشاورته في الأمر واستشرته بمعنى .اهـ».
والخلاصة أن المادة تدور في معناها حول استخلاص الشيء واستخراجه أو استكناه سره واختباره وذلك فعل المستشير مع مستشاريه يعرض الأمر عليهم فيتداولون فيه الرأي، فما كان حسنا صوابا أخذ به، وما كان معوجا ملتويا أعرض عنه.
سبب النزول
لم يذكر الواحدي في «أسباب النزول» ولا السيوطي في «لباب النقول» ولا غيرهما من المهتمين بذكر ملابسات النصوص وموارد التنزيل شيئا عن آية «آل عمران» ولا عن آيات «سورة الشورى»، لكن الأمر واضح بالنسبة لآية «آل عمران» فإنها واردة في سياق الحديث عن «أحد» أسبابها ونتائجها ومواقع العبرة منها، وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد استشار أصحابه رضوان الله تعالى عنهم ماذا يفضلون هل ينتظرون المشركين حتى يغزوهم في المدينة فيقاتلونهم في سككها وترجمهم النساء والصبيان بالحجارة من أطمها وحصونها؟ أم يخرجون الى عدوهم فيلتحمون معه خارج المدينة؟ وكان رأي الشيوخ وعبد الله بن أبي والرسول صلى الله عليه وسلم عدم الخروج، ورأي عامة الشباب ممن فاتهم شرف الاستشهاد ببدر الخروج لملاقاة العدو بظاهر المدينة، وحدث في المعركة أشياء أدت إلى هزيمة المسلمين بسبب مخالفتهم أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة الرماة، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل الأخطاء في أحد رغم جسامة التضحيات دروسا تستفيد منها الاجيال المسلمة ما دامت السماوات و الأرض، وهو ما يفوق في الاعتبار نشوة النصر التي لا تدوم سوى بضعة أيام، وربما بضع ساعات، فكان الذين يبدو عليهم أنهم استكرهوا الرسول على الخروج، يخشون أن يسقط اعتبارهم لدى مقام النبوة، وأن يظل وهم أخطائهم يطاردهم في كل وقت وحين، فأرشد الله نبيه إلى أنه ألانه لهم وحسن أخلاقه في معاملتهم برحمته، ولذلك أمره بالعفو عنهم والاستغفار لهم، وليشعرهم بأن منازلهم عنده ما تزال هي هي، لم تتغير، أمره فضلا عن ذلك بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم، وترسيخا لمبدإ الشورى في نفوسهم.
وقد لمح إلى هذا الذي فهمناه من حكمة إيراد الأمر بالشورى بعد غزوة أحد العلامة نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تفسيره «غرائب القرآنورغائب الفرقان» حين قال: [وأمره بها – بعني بالمشاورة – بعد غزوة أحد، مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالا مما كانوا، وأن عفوه أعظم من كل ذنب، وأن الاعتماد على فضله وكرمه، لا على العمل والطاعة] اهـ.
الهدي النبوي في المسألة:
ولقد استجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وامتثل تعاليمه، فكان يشاور أصحابه فيما لا نص فيه من الأمور الهامة وخاصة شؤون الحرب، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب الى العير فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون، وشاورهم يوم بدر في موضع النزول فأشار عليه الحباب بن المنذر بالنزول على الماء وبناء حوض كبير عليه وتغوير بقية الآبار، وشاورهم يوم أحد في أن ينتظر العدو بالمدينة أو يخرج لملاقاتهم خارجها فأشار أكثرهم بالخروج فخرج إليهم، وأشار عليه السعدان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهم وخرق الصحيفة، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصديق: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال ولما أرجف المنافقون وأهل الإفك بما أرجفوا به في شأن الصديقة بنت الصديق قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا، واستشار أسامة وعليا في فراق عائشة فأما أسامة فقال: أهلك يا رسول الله والله ما علمت إلا خيرا وسل الجارية تصدقك يعني بريرة، وأما علي فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، والحوادث في ذلك مشهورة مستفيضة في السيرة، وانظر تفسير ابن كثير في الموضوع.
الأخبار والآثار الواردة في الشورى:
غزا الحافظ ابن كثير الى صاحب المسند برواية عبد الله بن غنم أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم»، وفي سنن ابن ماجة والترمذي وأبي داود والنسائي وحسنه من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المستشار مؤتمن».
وروى البغوي بسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقال الحسن البصري: «قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة، ولكن أراد ان يستن به من بعده من أمته» وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبر قبل العمل يؤمنك من الندم» وقال بعض الحكماء «ما استنبط الصواب بمثل المشاورة». وقال بعض الأذكياء: «إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون» وقال بعضهم: «شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا، وأنت تأخذه مجانا»، وقال العلامة علاء الدين البغدادي المعروف بالخازن: «ومن فوئد المشاورة أنه قد يعزم الانسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره فيعلم بذلك عجز نفسه عن الاحاطة بفنون المصالح، ومنها أنه إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه»، وقال أبو بكر بن العربي المعافري «الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا» ومن الآثار المروية: «المشورة حصن من الندامة وأمان من الملامة»، وقال علي رضي الله عنه «نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد» وقال عمر بن عبد العزيز: «المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم».
صفات المستشار:
والرأي لا يطلب من كل من هب ودب من السفلة والأراذل وغوغاء الناس وإنما تقدح زناد افكار العقلاء، وتريش سهام ألباب الفطناء، وما أحسن بيتي بشار، اللذين وصف بهما المستشار، وهما:
إذا بلغ الرأي المشورة فاسـتعن برأي لبيب أو مشورة حـازم
ولا تجعل الشورة عليك غضاضة فإن الخـــوافي قوة للقوادم
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين»: «اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمرا، ولا يمضي عزما إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، وطالعة ذي العقل الراجح، فإن الله تعالى أمر بالمشورة نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما تكفل به من إرشاده ووعد به من تأييده فقال تعالى ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ » وإذا جمع إلى رجاحة العقل وحصافة الرأي كمال الدين وتمام التقوى والورع، بلغ غاية القصود، ووفى بكل موعود. قال أبو سليمان الخطابي: «فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح، وبذل جهده فوقعت الاشارة خطأ، فلا غرامة عليه» ويضاف إلى هذه الشروط أن يكون من أهل ود المستشير، ليقدح زناد الرأي ويبالغ في تحري الصواب.
إذا كنت في حاجة مرسلا فأرسل حكيما ولا توصـه
وإن باب أمر عليك التوى فشـاور لبيبا ولا تـعصه
ونـص الحديث إلى أهله فـإن الـوثيـقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإلـــــه تبين ذلك في شـخـصه
وأضاف أبو الحسن الماوردي شرطا آخرفقال: «وأن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل، فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر» ولذلك كان كسرى اذا دهمه أمر بعث الى مرازبته فاستشارهم، فإن قصروا في الرأي ضرب قهارمته وقال أبطأتم بأرزاقهم فاخطأوا في آرائهم. وتمام الشروط المطلوبة في المستشار «أن لا يكون له في الأمر المستشار فيه غرض يتابعه، ولا هوى يساعده، فإن الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي اذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد» اهـ. انظر «أدب الدنيا والدين» [ص 208].
وإذا كان المستشارون كثرة، نظر في آرائهم، وسبرها بعقله، وبحث في أسبابها وعللها، وفحص أدلتها، ثم أمضى ما ظهر له فيه الصواب، واستبان فيه فصل الخطاب، قال القرطبي في تفسيره: «والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك اخلاف، وينظر أقربها إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية».
لا شورى في مورد النص:
ولا يعرض الأمر للشورى إلا حين نبحث عن النص القاطع والدليل الصريح فلا نعثر عليه، وذلك لأن الشورى اجتهاد، والاجتهاد لا يكون في مورد النص، فما عسى أن تبلغ عقول البشر بجانب علم الله الذي يحيط بكل شيء، و«إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» كما يقول المثل، وأما حين يرد في المسألة نص غير صريح لأن دلالته تحتمل وتحتمل، فهي أيضا محل للاجتهاد والشورى، لأن «ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال» كما يقول علماء الأصول، ولا يبعد عن ساحة الاجتهاد والشورى إلا ما فيه نص قطعي الدلالة. وهذه القضية محل الاتفاق والاجماع من علماء الاسلام، قال الشيخ علاء الدين البغدادي المعروف بالخازن «اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك، وقيل أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أسارى بدر وهو من أمر الدين».
وزاد أبو بكر بن العربي المعافري القضية وضوحا في كتابه أحكام القرآن فقال: «وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآثار كثير، ولم يشاورهم في الأحكام لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام، من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام، وأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما سبق بيانه وقال عمر: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وتشاوروا في أمر الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وتشاوروا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده على الوجوه المذكورة في كتب الفقه».
الحكم الشرعي في الشورى:
اختلف أهل العلم في حكم الشورى، وتردد نزاعهم بين القول بالوجوب أو الندب، وبعد ربه كاتب المقال، يختار التفصيل في القضية فيرى وجوب الشروى على أولي الأمر من الخلفاء والملوك والرؤساء وزعماء الهيآت وأمراء الجماعات الإسلامية، ومن في حكمهم ممن يبتون في قضايا المسلمين الهامة ومصالحهم العامة المشتركة، بينما تكون الشورى من المندوبات والرغائب حين تتعلق بمصالح الأفراد فيما بينهم وتكون تلك المصالح مادية محضة أما إذا كانت لها علاقة بالدين، فإنه في هذه الحالة – أيضا – يجب استفتاء أهل العلم وذوي الاختصاص، وعمدتنا في ذلك أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الشورى في معرضين اثنين:
1- أحدهما: في معرض الامتنان على الرسول والمومنين معا: فإن الله سبحانه، ألان نبيه للناس وجعله لين العريكة دمث الأخلاق بريئا من كل غلطة، سالما من كل جفاء، خاليا من كل فظاظة، فآوى إليه الناس واطمأنوا لحسن خلقه، وقروا عينا بعدله وسعة قلبه، وسماحة نفسه، ونعموا بعفوه وصفحه ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ الآية: 159 – آل عمران.
وجاء الأمر بالعفو عنهم والاستغفار لهم، ولا يكون العفو والاستغفار إلا عن ذنب وقد سبق لك في سبب النزول بيان ذلك ، بل وأمر صلى الله عليه وصلم فضلا عن ذلك، برفع منازلهم وإدنائهم أكثر حتى يكونوا من المستشارين ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ والأصل في الأمر أن يكون للوجوب، حتى ترد قرينة تصرفه لغير ذلك، والقرائن هنا بالوجوب أشبه، لأن الأمر هنا في معرض الامتنان، فحين أقول لك مثلا: اني علتك صغيرا، وربيتك وعلمتكم شابا، وساعدتك وأنت كهل فارغ حرمتي والزم جانب الأدب معي، فإنك تحمل هذا الطلب مني على الجد واللزوم وليس على الندب والترخيص، ويؤكد ذلك أن الأمر موجه هنا إلى الرسول وهو الذي يتلقى الوحي عن ربه، ولو استغنى أحد عن الشورى لعلو مكانته، لكان هو أفضل المستغنين، أضف إلى ذلك أن الذين أمر بمشاورتهم هنا ناس خالفوا أوامره في أحد ثم تولوا عنه مدبرين، وظنوا أن اعتبارهم قد سقط إلى الأبد، لكن الله أمره بمشاورتهم حتى يعلموا أن منازلهم لم تنل منها تلك الهفوات.
2- والثاني في معرض الثناء على المومنين وتميزهم بالصفات اللازمة لهم لزوم الأركان والواجبات، وإدراج صفة الشورى بين فريضتين من فرائض الإسلام، من شك فيهما أو جحد وجوبهما فلا يمارى في كفره إلا أعظم الناس جهالة، وأكثرهم ضلالة، وأجسرهم على حدود الله ومحارمه كل ذلك يشعر بوجوب الشورى على أولياء الأمر من المسلمين وكونها الدعامة والأساس في كل نظام ارتأى أن يسير على هدى الله ووفق هدي نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، واتل معي متدبرا متمعنا آيات هذا النص من سورة الشورى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) ﴾، وبناء على ما سقته لك من الاعتبارات، فإني لا أملك إلا أن أصرخ بحدة مع ابن عطية الأندلسي العالم المالكي كما نقل عنه القرطبي «والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب»، كما يرى ابن خويز منداد من علماء المالكية أيضا وجوب استشارة أولى الحل والعقد وهم أرباب الاختصاص في المجالات المختلفة، يقول: «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعملون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها»، وراجع إن شئت تفسير القرطبي. ويعني بالوجوه الأعيان والرؤساء وكبار القواد. قال أبو عبد الله البخاري: «وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها»، ويقصد رحمه الله بالأمور المباحة الأمور التي تصلح أن تكون محلا للاجتهاد مما لا نص فيه صريحا من الشارع الحكيم.
وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن المسلمين بخير ما حافظا على الشورى أساسا لنظامهم ودعامة لمصالحهم، ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان امراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها»، وقد اختار المعاصرون من علماء الإسلام وما ذهبنا إليه، فهذا الشيخ عبد الوهاب خلاف يقول في رسالته «السياسة الشرعية» «إن الله سبحانه وتعالى جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وساق وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة والسجايا اللازمة كأنه شأن الاسلام ومن مقتضياته» ويقول الأستاذ سيد قطب: «لأن الشورى كالصلاة بالنسبة للمسلم المؤمن، فإذا كان لا يمكن للمسلم المؤمن أن يترك الصلاة، فكذلك لا يمكن له أن يترك العمل بالشورى، وبخاصة في الأمور المتعلقة بمصالح الأمة»، انظر تفسير آيات سورة الشورى. ويقول محمد رشيد رضا عند كلامه على آية سورة الشورى «فالآية الأولى التي جاءت بصيغة الخبر تؤكد فرضها حتما كما في الأساليب البليغة للعربية، ولها أكثر من مثيل في القرآن كآية ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ﴾».
والصفة التي بها صدر الأمر بالشورى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ هي بعد النبوة، صفة القيادة والقوامة والاشراف على شؤون المسلمين، وبما أن كل حكم مرتبط بعلته وسببه أو كما تقول القاعدة الأصولية «العلة تدور مع المعلول وجودا أو عدما»، وبما أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كلف بمشاورة المسلمين وجوبا فيما ليس فيه معه عهد من ربه كما بينا، فإن خلفاء الرسول وأولياء أمور المسلمين من بعده تكون الشورى واجبة عليهم من باب الأولى والأخرى بحكم وجوب اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فرضه عليه ربه، مما علم بالضرورة أنه خاصا به.