القاضي عمر.. عالم رباني كافح الاستعمار
بقلم محمد أمين
مليبار هو اسم لمنطقة ساحليةٌ في ولاية كيرلا الواقعة في غربي جنوب الهند، مشهورة بالثورات ضد الاستعمار البريطاني، حيث واجه المستعمرون معارضات عنيفة من سكانها الغيورين حينما تصدوا لتأسيس حكمهم في مليبار.
يوجد في تاريخ الكفاح الشعبي الهندي عدد كبير من الأبطال أصبحوا رموزاً لمكافحة الاستعمار، منهم الشيخ المجاهد عمر القاضي ولينكود الذي يمثل واجهة جديدة للمكافحات ضد البريطانيين، كان القاضي عالماً ورعاً تولى إحلال الحرية في البلاد وإصلاح المجتمع ولا سيما المسلمين بطريق سلمي علمي.
امتاز عمر القاضي عن جميع المناضلين الهنود بأنه سُجن بسبب مقاومته للاستعمار على نهجه الجديد قبل دخول غاندي إلى حرب الاستقلال بسنين، اشتهر عمر القاضي بأنه عالم ورع وقاض حكيم وشاعر موهوب وطبيب حاذق.
مولد عمر القاضي ونشأته:
وُلد عمر ابن علي الذي اشتهر باسم عمر القاضي ولينكود من أبوين صالحين عام 1117هـ، والده آلي (علي) مسليار وأمه آمنة، وكان مولده في قرية “فاليانكود” في ولاية كيرلا، توفي والده وهو لم يتجاوز من عمره 10 سنين وذاق مرارة اليتم في صغره، وكان والده أول مدرِّسٍ درَسَ منه علم القراءة والعقيدة وأصول اللغة.
أكمل عمر القاضي دراسته الابتدائية في قريته ثم التحق بأحمد مسليار المخدوم النسبي في بيته ودرس منه “ألفية” ابن مالك وغيرها من الكتب، كانت دراسته العليا في حلقات جامع بوناني حيث قرأ على القاضي الشيخ مموكوتي العالم في العلوم الشرعية المتنوعة، مكث عمر في جامع بوناني 12 سنة ينهل من العلوم الشرعية كالتفسير والفقه وإحياء علوم الدين ومنهاج العابدين والمحلي.
بدأت مواهب عمر القاضي الشعرية تلفت الأنظار وهو طالب، وكان للشيخ مموكوتي مسليار دور كبير في إنشاء عمر القاضي العالم حيث ساعدت مصاحبته له على التحلي بالأخلاق الرفيعة والصفات الحميدة، كان عمر القاضي على إلمام تام بالبيئة الاجتماعية التي تحيط به، وعلى معرفة واسعة بالأحداث السياسية الواقعة من حوله.
وبعد أن أنهى دراسته عُين قاضياً في بوناني، واستمر على ذلك إلى عام 1218هـ، ثم تولى منصب القضاء في بلده ولينكود وبقي على ذلك إلى موته، كان يجيد علاج الجمع بين الطب النبوي والطب الآيورفيدي.
شعره ومؤلفاته
كما أن عمر القاضي كان عالماً وداعياً ومناضلاً كذلك، كان شاعراً بليغاً يملك خيالاً مبدعاً وعاطفة مرهفة ومشاعر جياشة، كتب الشعر في اللغة العربية وفي العربية المليالمية، تمحورت معظم أغراضه الشعرية حول مدح النبي صلى الله عليه وسلم، له قصيدة مشهورة باسم “صلى الإله” في مليبار و”قصيدة عمرية” في البلاد العربية، يُقال عنها: إن عمر القاضي أنشد هذه القصيدة أمام الروضة الشريفة في المدينة بعد أدائه لفريضة الحج.
وكتاب عمر القاضي “نفائس الدرر” يحتوي على مدح النبي وسيرته عليه الصلاة والسلام، فيه أبيات شبه فيها رسول الله بالبدر:
ركن الهدى وبل الندا وهو بدر بتمامه وبنوره استحى القمر
وله قصائد أخرى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مثل “قصيدة عمر في مدح خير البرية”، لاح الهلال ولما ظهر.
وكتب عمر القاضي قصيدة في رثاء أصحابه وأساتذته معظمها مكتوبة على جدران المساجد كما ألف قصيدة في رثاء أستاذه الشيخ الجليل سيد علوي ممبرم وهي من المرثيات المشهورة لعمر القاضي.
وله قصائد علمية: منها “مقاصد النكاح” التي ألفه معتمداً على تحفة الإمام المشهور ابن حجر الهيتمي، وكتاب “أصول الذبح” على أساس نفس الكتاب في صيغة القصيدة، هكذا اتخذ القاضي عمر الشعر وسيلة لتأليف الكتب ونشر العلم وإصلاح المجتمع ومقاومة الاحتلال الأجنبي.
الحياة الاجتماعية
وقف عمر القاضي حياته على إصلاح المجتمع ونشر العلم ومقاومة الاستعمار، بدأت حياته الاجتماعية قاضياً وإماماً في الجوامع، حيث تولى منصب القضاء في أماكن كثيرة خلال مدة قصيرة، كما كان مدرساً في حلقات جامع بوناني وجامع ترور لفترة طويلة، كان لحياة عمر القاضي جانبان رئيسان؛ هما الإصلاح ومقاومة الاستعمار.
الإصلاح
كان المسلمون في أيام عمر القاضي منهمكين في البدع والخرافات منحرفين عن جادة التوحيد الخالص، فقام فيهم عمر القاضي مصلحاً ومجدداً يعود بهم إلى كتاب الله وسُنة رسوله، كان عمر القاضي متشدداً في التوحيد الذي لا يسمح للمسلم أبداً الإشراك في الله في العبادة والدعاء.
حارب القاضي العلماء الذين كانوا يجعلون الطلاب يسجدون أمامهم بحجة أنه سجود التعظيم، ووصفه شركاً ظاهراً، وأصدر فتاوى كثيرة في القضية، وألَّف قصيدة تنكر هذه العادة، كان المسلمون الأغنياء يفتخرون بأصلهم ونسبهم، فهاجمهم بشعره القائل:
أيا فاخراً بالنسب كيف التفاخر وأصلكمُ من قبل تِيّن ونايرُ
وآشارِ وموشارِ ومنّانُ بانرُ وكُيْبان شدِّي وناياد بَرَيَرُ
الأسماء المذكورة في الأبيات أسماء الطبقات التي كانت قائمة بين الهنادكة، ولما دخلت تلك الطبقات في الإسلام أبقوا على بعض عاداتها وتقاليدها واستمروا على تفاخرهم بأنسابهم واستخفافهم بمن هو أدنى منهم في سلّم الطبقات حتى يحول ذلك دون اعتناق تلك الطبقات بعدُ في الإسلام، استنكر القاضي منهم هذا التصرف، وبين لهم أن الإسلام دين الأخوة والمساواة، وأن أكرم الناس أتقاهم، كان القاضي يحكم بين المسلمين في قضاياهم الأسرية والاجتماعية كما كان يفصل بينهم في مسائلهم الدينية، وكانوا يرضون بقضائه ويقبلونه بطيب نفس وصفاء خاطر.
مقاومة الاستعمار
تدخّل عمر القاضي في أهم القضايا السياسية التي واجهها الناس في تلك الأيام، هي الاحتلال الأجنبي، أدرك عمر القاضي أن الاحتلال هو أساس المشكلات الاجتماعية والثقافية كلها، ولذا وقف في طليعة المقاومة.
كان عدم التعاون من أكبر الأسلحة التي استخدمها المناضلون من أجل الاستقلال ضد الاحتلال البريطاني في الهند، قاد الزعيم الوطني مهاتما غاندي حركة العصيان المدني لرفض دفع الضرائب التي فرضتها الحكومة البريطانية على المواطنين في الهند، بينما سُجن أحد العلماء الربانيين بسبب رفض دفع الضرائب التي فرضتها الحكومة البريطانية قبل غاندي بمائة سنة هو عمر القاضي الذي أيد حرب الاستقلال بتشكيل حركة المقاومة الضريبية، وهو أول من قام برفض دفع الضريبة، قال عمر القاضي لجباة الضرائب: إن المالك الحقيقي للأرض هو الله، وإنه لن يدفع الضرائب لأرض الله، حاولت الحكومة البريطانية لإقناع عمر القاضي، إلا أنه أصرّ على موقفه، فسُجن في 19 ديسمبر 1819م، ثم أُفرج عنه بدون شرط؛ إثر الاحتجاج الشعبي الشديد.
جدير بالذكر أن عمر القاضي اتخذ موقفه الباسل ضد الاحتلال قبل عام 1858م الذي وقعت فيه أول ثورة للاستقلال، وقبل نداء غاندي إلى رفض دفع الضرائب والعصيان المدني بسنين.
مواقف عمر القاضي كانت مستمدة من المصدر الأصلي للحكم في الإسلام، يؤكد أشعاره بأن الحاكم هو الله، وأن المسلمين مكلفون باتباع أحكام الله فقط، أما حكم المستعمرين أو الحكم من غير الله فلا يجوز للمسلمين اتباعه، هكذا كان الدين دافعاً له في مكافحة الاستعمار، وهذا الموقف يدل على أن عمر القاضي جمع بين الإيمان وحب الوطن والجهاد في سبيل حريته.
وفي 12 رمضان 1273هـ، انتابت عمر القاضي دوخة وهو يصلي التراويح، وتوفي في 23 ذي الحجة من نفس السنة وعمره 95 عاماً.
(المصدر: مجلة المجتمع)