القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير (17)
“علماء مجاهدون في معارك النصر والتحرير الصَّلاحي”
بقلم د. علي محمّد الصَّلابي (خاص بالمنتدى)
كان لعلماء الأمة وشيوخها وقضاتها ورجال الفكر والدعوة فيها دورهم البارز في معارك النصر والتحرير والتمكين التي قادها نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي (رحمهما الله)، وكان من بينهم رجال لمعت أسماؤهم، وذكرنا منهم القاضي الفاضل والإمام أبو حامد الغزالي والشيخ عيسى الهكاري وأبو الطاهر ب عوف الإسكندراني، وعبد الله بن أبي عصرون، واِشتهر من بينهم علي بن نجا، والعماد الأصبهاني، وأبو بركات سعيد الخبوشاني، وغيرهم العشرات (رحمهم الله وتقبل عملهم).
أولاً: ابن نجا وكشفه لمؤامرة الشيعة
من المواقف الجديرة بالذِّكر التي قام بها بعض الفقهاء، والعلماء في بداية قيام الدولة الأيوبية ما بدر منهم من حرصٍ شديدٍ سنة 569هـ/1174م على سلامة، وأمن الدولة، وعدم تفككها؛ حتى لا يطمع فيها أعداء الإسلام والمسلمين، وكان ذلك عندما قامت جماعةٌ من الشيعة في مصر بمؤامرة تهدف إلى إعادة الخلافة الفاطمية بمصر بعد أن أسقطها صلاح الدين سنة 567هـ/1171م، وكانت خطَّتهم في ذلك أن يستدعوا الصليبيين من صقلية، وبلاد الشام إلى مصر لمساعدتهم مقابل أن يمنحوهم شيئاً من المال، والبلاد، ومِنْ خطَّتهم: أنَّه في الوقت الذي تصل فيه القوات الصليبية، ويخرج صلاح الدين بقواته للقائهم يقوم المتآمرون بإشعال نيران الثورة في الدَّاخل، فيقع السلطان بين نارين: نار ثورة بالدَّاخل، ونار وجود الصليبيين خارج البلاد؛ الأمر الذي يعمل على تشتيت قوَّاته، ويساعد على هزيمته أمام الصليبيين من ناحية، وسيطرة المتآمرين على مقاليد الحكم من ناحية أخرى (وفيات الأعيان، ابن خلكان، م3/ص431).
وقد أراد الله أن يكشف خيوط المؤامرة على يد أحد رجال الدِّين من الفقهاء المخلصين الواعين، والمقدِّرين للمصلحة الإسلامية، الغيورين على تماسك وحدة الجبهة الإسلامية، وهو، زين الدين علي. ويذكر ابن الأثير: وكان من لطف الله بالمسلمين: أنَّ الجماعة المصرية أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا، الواعظ، والقاضي المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة، والوزير، والدَّاعي، والقضاة، فلمَّا ضمُّوا إليهم القاضي ابن نجا، وشعر بخطورة ما يدعون إليه؛ قام بإخبار صلاح الدين بكلِّ تفاصيل المؤامرة، فطلب منه أن يظهر تعاطفه معهم، وتوطُؤه على ما يريدون فعله، وإخباره بما يتجدَّد من أخبار، ففعل ذلك، وصار يطالعه بكلِّ ما عزموا عليه، وبناء على ذلك استطاع صلاح الدين الوقوف على تفاصيل المؤامرة، وعندئذٍ تأكَّد صلاح الدين من حقيقة الأخبار التي وصلته من القاضي ابن نجا، وتدارك الأمر قبل وقوع الكارثة، فأمر بالقبض على هؤلاء المتآمرين جميعاً، وقضى عليهم، وسكنت الفتنة.
– ابن نجا والقائد صلاح الدين
ثم قرب السلطان إليه زين الدين علي بن نجا، وأحسن إليه بالأعطيات، والإقطاعات، وأجمل، وأعطاه، وأجزل، وأتمَّ له مراده، وأكمل، وكان السلطان يستشيره، ويروقه تدبيره، ويميل إليه لقديم معرفته، وكريم سجيته، وكان صلاح الدين يُسمي ابن نجا: عمرو بن العاص، ويعمل برأيه لسداد رأيه، وسعة حيلته، وإن كثيراً من أرباب الدولة، وأهل السنة في مصر كانوا لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين ابن نجا، وإن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين قال له: إذا رأيت مصلحة في شيءٍ؛ فاكتب إليَّ بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك، ويذكر سبط بن الجوزي: أنَّ ابن نجا نشط في الوعظ، والتحديث، وأن صلاح الدين، وأولاده كانوا يحضرون مجلسه، ويسمعون مواعظه، وكان له الجاه العظيم، والحرمة الزائدة، وعندما خرج صلاح الدين لمحاربة الصليبيين في بلاد الشام؛ كان يكتب زين الدين بن نجا بوقائعه، من ذلك: أنه عندما فتح قلعة حمص عام 570هـ/1174م، كتب إليه يصف القلعة برسالة مطوَّلة ( هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد الكيلاني، ص283).
وعندما قرّر رأي صلاح الدين (رحمه الله) على الاستقرار في بلاد الشام؛ كتب له ابن نجا عام 580هـ/1174م كتاباً يشوِّقه إلى مصر، ونيلها، وخيراتها، ومساجدها، ومشاهدها، ثم ذكر فضيلة مصر، واستدلَّ عليه بالآيات، والأخبار، والآداب، والآثار، فردَّ عليه صلاح الدين في رسالة، أوردها كلٌّ من سبط ابن الجوزي، وأبو شامة ـ يخبره بأنَّ سكنى الشام أفضل، ومناخها أجود، وأنَّ الله أقسم بها في القرآن، ويعاتبه على عدم حنينه إلى وطنه دمشق، ويدعوه إلى الانتقال إليها؛ إلى أن ختمها بقوله: وزين الدين وفقه الله قد تعرَّض للشام، فلم يرض أن يكون المساوي؛ حتى شرع في ذكر المساوي، ولعله يرجع إلى الحق، ويعيد سعد إسعاده، ورفاقه إلى الوفق إن شاء الله، ومهما يكن الأمر، فقد استمرَّ ابن نجا يعمل مع صلاح الدين؛ حتى دخل معه بيت المقدس فاتحاً، وألقى في المسجد الأقصى أول مجلس، للوعظ كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى. وقد توفي أبو الحسن عليُّ بن إبراهيم بن نجا الحنبليُّ الملقَّب بزين الدين عام 599ه. (وفيات الأعيان، مصدر سابق، 2/ 530).
ثانياً: العماد الأصبهاني
القاضي الإمام، والعلاَّمة المفتي، والمنشئ، والوزير: عماد الدين، أبو عبد الله محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الأصبهاني، يعرف بابن أخي العزيز، قدم بغداد، فنزل بالنظامية، وبرع في الفقه على أبي منصور سعيد ابن الرَّزاز، وأتقن العربية، والخلاف، وساد في علم الترسُّل، وصنَّف التصانيف، واشتهر ذكره، واتَّصل بابن هبيرة، ثم تحوَّل إلى دمشق سنة اثنتين وستِّين، واتَّصل بالدولة، وخدم بالإنشاء الملك نور الدِّين، وكان يُنشيء بالفارسية أيضاً، فنفَّذه نور الدين رسولاً إلى المستنجد، وولاَّه تدريس العمادية سنة سبع وستين، ثم رتَّبه في إشراف الدِّيوان، فلمَّا توفي نور الدين أُهمِل، فقصد الموصل، ومرض، ثم عاد إلى حلب، وصلاح الدين محاصرٌ لها سنة سبعين، فمدحه، ولزم ركابه، فاستكتبه، وقرَّبه، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمَّات، فيسدُّ العماد في الخدمة مَسَدَّه، وصار العماد معاون القاضي الفاضل في الأمور كلها، واستعاد مقامه القديم، وصار كاتب سرِّ صلاح الدين، واستكتبه صلاح الدين، ووثق به، وقرَّبه إليه وصار من خاصته، ويصرِّف الأمور، ويقسم الأموال الَّتي سلَّمها إليه السُّلطان، ويوقِّع على ما يوقِّع عليه دون مراجعةٍ، ويقضي حاجات من يلجأ إليه من الناس، ويزاحم الوزراء، وأعيان الدولة؛ وإن لم يصل إلى نفس المكانة العالية؛ التي كانت للفاضل في نفس صلاح الدين. وقد لزم العماد صلاح الدين بعد هذا أكثر من القاضي الفاضل؛ الذي كان يتخلَّف عن السلطان كثيراً، ويقيم في القاهرة، ودمشق؛ ليشتغل بالأعمال السُّلطانية… وأنشأ في عهد صلاح الدين الرَّسائل، والمناشير، والتبشيرات الكثيرة، ودخل مجالس المشورة (سير أعلام النبلاء، الذهبي، 21/345).
ولما مات السلطان صلاح الدين سنة 589هـ أفل نجم العماد، فاختلت أحواله، وساءت أموره، ولم يعامله أولاد صلاح الدِّين معاملة أبيهم له، وأقصوه عن مركزه، وفي ذلك يقول العماد في مقدمة البرق الشامي: ولما نقله الله الكريم إلى جناب جنانه؛ اقتسم أولاده ممالكه؛ وقلت: سلكوا مسالكه، ونسكوا مناسكه، وإنهم يعرفون مقداري، ويرفعون مناري، ويشرحون صدري، ولا يضعون قدري، فأخلف الظنُّ، حتى قطعوا رسومي، ومنعوا مرسومي، وغوَّروا منابعي، وكدروا مشاعري، وبعد موت صلاح الدِّين لا يذكر المؤلفون الذين ترجموا للعماد شيئاً من أخباره، فيقول ياقوت: إنه لزم بيته، وأقبل على التصنيف، والإفادة، والكتابة والتأليف والعزلة، وقد توفي العماد في الاثنين مستهلَّ شهر رمضان سنة 597هـ/5 حزيران 1121م، ودفن في مقابر الصُّوفية خارج باب النصر (العماد الأصبهاني، حسين عاصي، ص27).
ثالثاً: أبو البركات سعيد الخَبُوشاني
الفقيه الكبير، الزاهد، نجم الدين أبو البركات محمد بن موفَّق بن سعيد الخُبُوشاني، الشَّافعي، الصوفي، تفقَّه على محمد بن يحيى، وبرع، وكان يستحضر كتابه المحيط وهو ستة عشر مجلداً، وأصله من نيسابور، وكان السلطان صلاح الدين يُقَرِّبُهُ، ويعتقد فيه، وقد اشتهر بالفضل والدِّيانة، وسلامة الباطن، وكان متقشِّفاً في العيش، صلباً في الدِّين، وكان يقول ـ قبل نزوله إلى مصر ـ أصعد إلى مصر، وأزيل ملك بني عُبيد اليهودي. فنزل بالقاهرة، وصرَّح بمثالب أهل القصر، وجعل سَبَّهم تسبيَحَهُ، فحاروا فيه، فنفذوا إليه بمالٍ عظيم، قيل: أربعة آلاف دينار، فقال للرسول: ويلك! ما هذه البدعة؟ فأعجله، فرمى الذَّهب بين يديه، فضربه، وصارت عمامته حِلَقَاً، وأنزله من السلم.
وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فقد جاءه حاجب نائب مصر المظفَّر تقي الدين عمر، وقال له: تقيُّ الدين يُسلِّمُ عليك. فقال الخُبوشاني: قل: بل شَقِيُّ الدين، لا سَلمَّ الله عليه! قال: إنَّه يعتذر، ويقول: ليس له موضعٌ لبيع المِزْرِ قال: يكذب. قال: إن كان ثَمَّ مكان؛ فأرناه قال: ادْنُ. فدنا، فأمسك بشعره، وجعل يلطم على رأسه، ويقول: لستُ مزَّاراً، فأعرفَ مواضع المِزْر. فَخَلَّصوه منه وعاش عمره لم يأخذ درهماً لِمَلِكٍ، ولا من وقْفٍ، ودفن في الكساء الذي صحبه من بلده، وكان يأكل من تاجرٍ صَحِبَهُ من بلده، هذا؛ وقد مات الخَبُوشانيُّ في ذي القعدة سنة سبعٍ وثمانين وخمسمئة.
فهذه التراجم لسير بعض العلماء في عهد صلاح الدين، وكانت مكانةُ هؤلاء العلماء، والفقهاء عند صلاح الدين بالغة الرفعة، ونالوا حظاً وافراً عنده، فكان مجلسه حافلاً بأهل العلم، والفضل، ويذكر العماد في هذا الشأن: أنَّه كان: يؤثر سماع الحديث بالأسانيد، وتكلَّم العلماء عنده بالعلم الشرعي المفيد، وكان لمداومة الكلام مع الفقهاء، ومشاركة القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، والأسباب المرضيَّة، والأدلة المرعيَّة.
وخلاصة القول: إنَّ العلماء، والفقهاء كانوا يحتلُّون مكانةً عظيمةً، وحظوةً كبيرةً عند صلاح الدين، ونالوا منه كلَّ عطف، ورعاية، واحترام، وتقدير من الناحيتين: المادية، والمعنوية، وكانت آراؤهم موضع اعتبارٍ، وتقديرٍ من هؤلاء الملوك، واستشارتهم واجبةٌ في كلِّ الأمور الشرعية؛ الَّتي تمسُّ كلَّ نواحي الحياة في الدَّولة، بل أصبح لهؤلاء العلماء، والفقهاء السيطرة الروحية على أذهان الناس، وبلغت مكانتهم حداً كبيراً من الرفعة لدرجة أنَّهم أَثَّروا تأثيراً بالغاً في الشعوب، والحكومات، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ الحكومات قد أسلمت زمام الدفاع، والقتال لرجال العلم، والفقه، أمثال الفقيه عيسى الهكَّاري؛ الذي أجاد، وبرع في الناحيتين الدينية، والحربية في عصر صلاح الدين (صلاح الدين الأيوبي، مصدر سابق، ص280).
المصادر والمراجع
1. دور الفقهاء والعلماء في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية، آسيا سليمان نقلي، مكتبة العبيكان 2002 م.
2. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة 1990 م.
3. صلاح الدين الأيوبي، علي محمد الصَّلابي، دار الأصالة، إستانبول، 2023م.
4. العماد الأصبهاني، حسين عاصي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،1991م.
5. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.
6. هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد عرسان الكيلاني، دار القلم، الإمارات العربية، الطبعة الثالثة 1423 هـ 2002م.
7. وفيات الأعيان وأنباء الزمان، ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت.