القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير(34)
الأمبراطور الألماني في طريقه إلى الشَّرق
بقلم: د. علي الصلابي –الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. (خاص بالمنتدى)
تناسى ملوك ، وحكَّام الغرب الأوروبي ما بينهم من خلافاتٍ ، وحزازاتٍ ، وأحقادٍ ، وعقدوا العزم استجابةً لدعوة البابا على تسيير حملةٍ صليبيةٍ إلى بلاد الشام ، وكان أول من استجاب لهذه الدعوة فردريك بربروسا أمبراطور ألمانيا ففي ربيع سنة 585 هـ/1189 م بدأت الجيوش الألمانية في التجمُّع عند مدينة راتسبون استعداداً للمسير إلى بلاد الشام ، وكان ذلك الجيش إضافة إلى كثرته العددية يتمتَّع بنظامٍ عسكريٍّ دقيق ، فكان من يجري منه جنايةٌ ليس له جزاء إلا أن يذبح «مثل الشَّاة» ، وسار ذلك الجيش يتقدَّمه الإمبراطور فردريك بربروسا ، ويصحبته أحد أبنائه سالكاً الطريق البري باتجاه القسطنطينية ، حتى واجه عداءً شديداً من الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني أنجليوس؛ الذي بعث إلى حليفه صلاح الدين يخبره بمسيرة الألمان ، ويعد بأن لا يمكنهم من عبور بلاده ، إلا أنَّ المصادر تذكر: أن الإمبراطور البيزنطي لم يستطع منعهم من العبور ، ولكنَّه لم يسعفهم بشيءٍ من المؤن ، والعتاد ، فقلَّت عليهم الأقوات ، وعبروا خليج القسطنطينية «البسفور» وقد اشتدَّت ضائقتهم ، وحلَّ بهم كربٌ شديد( صلاح الدين والصليبيون، عبدالله الغامدي، ص 241).
ولما عبروا إلى اسيا الصُّغرى؛ تعرَّضوا لمتاعب كثيرةٍ بسبب جهلهم بتلك الأماكن؛ لذا سلكوا الأودية على غير هدى ، فكانوا يقطعون الفرسخ الواحد في يومين ، فوفعوا فريسةً للخطف من جانب التُّركمان سكان المناطق ، كما كان لدخول الشتاء أثره البالغ على سيرهم ، حيث تراكمت الثُّلوج ، فاحتاجوا إلى أكلِّ الدَّواب ، وأحرقوا عددهم لنقص الحطب عندهم ، كما عدموا العلف، فأُنهكوا ، وأُنهكت دوابُّهم؛ حتى عجزوا عن حمل عُدَدِهم ، فاضطروا إلى دفن ما عجزوا عن حمله( مفرج الكروب، جمال بن واصل، (2/318)
ولمَّا قاربوا الوصول إلى سلطنة سلاجقة الرُّوم التي كان على رأسها السُّلطان قليج أرسلان بن مسعود السَّلجوقي؛ نهض إليهم ابنه قطب الدين ملكشاه ، واشتبك معهم في معركةٍ كبيرةٍ هزموه فيها ، فتراجع إلى الوراء إلى مدينة قونية عاصمة السَّلطنة ، فتعقبه الألمان ، ودخلوا المدينة ، وأحرقوا أسواقها ، ثم أرسلوا إلى والده أرسلان يقولون له: إنا لم نصل لأخذ بلادك ، وإنما نزلنا لنثأر لبيت المقدس. وبعثوا إليه الهدايا ، وطلبوا منه الهدنة ، فهادنهم ، فبعث هو وابنه إلى صلاح الدين يعتذران من تمكين الألمان في بلدهما ، ويخبرانه بأنهما غلبوا على ذلك. ومكث الجيش الألماني مدَّةً من الزمن في بلاد قليج ، وتقوَّوا خلالها بما أرادوا من العُدَد ، والأزواد ، ثم واصلوا سيرهم (صلاح الدين والصليبيون، الغامدي، ص242).
وأشار ابن شداد ، وأبو شامة إلى روابط الصداقة بين السلطان قليج أرسلان والإمبراطور فردريك بربروسا ، وأنَّ قليج عندما أرسل إلى صلاح الدين يعتذر عن عبور ملك الألمان في بلاده إنما قصد بذلك التَّظاهر أمام صلاح الدين بالشِّقاق لملك الألمان ، وهو في الباطن يضمر له الوفاق ، وأنه أنفذ معه الأدلاء ، وأعطاه الرَّهائن؛ حتى يضمن له العبور بسلام.
هذا بينما يذكر ابن الأثير: أنَّ أسبابً دفعت الملك قليج أرسلان على السَّماح لملك الألمان بعبور أراضيه ، منها حالة الضَّعف التي كانت تتعرض لها بلاده بسبب المشاكل الدَّاخلية نتيجة تقسيمه ملكه بين أبنائه. يضاف إلى ذلك ما كان يتعرض له قليج أرسلان من ضغط بسبب التحالف بين خصميه صلاح الدين من مناحية ، والإمبراطور البيزنطي من ناحيةٍ أخرى. وعلى كلٍّ فتلك التسهيلات التي منحها قليج للإمبراطور فردريك بربروسا لم تنفع الجيوش الألمانية بشيءٍ؛ إذ تعرضت أثناء عبورها لبلاده لهجماتٍ عديدةٍ ، الأمر الذي أغضب ملك الألمان ، فقبض على الأدلاء ، والرَّهائن الذين سيَّرهم قليج معه ، وقيَّدهم بعد أن أخذ ما معهم، ووضعهم في الأسر
1 ـ دخول الألمان بلاد الأرمن: واصل الألمان سيرهم رغم تلك المتاعب الشديدة؛ التي تعرضوا لها ، حتى وصلوا إلى بلاد الأرمن ، فرحَّب بهم أميرها ابن لاون ، وقدَّم لهم ما يحتاجون إليه من المؤن ، والأزواد ، والعلوفات، وأرشدهم إلى أسهل الطرق وكان أمير أرمينية يأمل في أن يتوَّج ملكاً على أرمينية الصغرى حتى لا يبدو في مكانةٍ أقلَّ من مكانة الأمراء الصليبيين المقيمين ببلاد الشام من جهة ، وليبعد عنه أطماع الإمبراطور البيزنطي من جهةٍ أخرى ، ويبدو: أنَّ أمير أرمينية قد علَّق امالاً كبيرة على كلٍّ من البابا ، والإمبراطور الألماني في تحقيق هدفه هذا.
2 ـ وفاة أمبراطور الألمان: لم يطل مقام الألمان ببلاد ابن لاون ، بل واصلوا سيرهم بعد أن هداهم الطريق ، ونزلوا بطرسوس( صلاح الدين والصليبيون، سابق، ص244) ، وقد أنهكهم السَّفر بسبب ما تعرَّضوا له من متاعب في طريقهم ، فأرادوا الإقامة هناك أياماً ليريحوا أنفسهم؛ إلا أنَّ القدر خبَّأ لهم خلاف ذلك ، فحدث لهم حدثٌ مفاجىءٌ ، قلب الموازين رأساً على عقب، حيث مات الإمبراطور فردريك بربروسا غريقاً في أحد الأنهار ، وذلك سنة 586 هـ/1190 م واختلفت اراء المؤرِّخين في تعليل أسباب وفاته ، فذكر العماد ، وابن واصل: أن الألمان عندما عبروا نهر سالف التطم الموج بهم ، فطلب الملك موضعاً يعبر فيه وحده ، فدخل في مخاضةٍ قويَّةٍ فاختطفه تيار الماء ، واصطدم بشجرة فشجب رأسه ، فاستخرجوه وهو في اخر رمق ، وهلك بعد قليل، وأشار ابن شداد وغيره إلى أنَّ فردريك بربروسا نزل على شطِّ أحد الأنهار ، واستحمَّ في ماء ذلك النهر ، فأصابته برودة ذلك الماء بمرضٍ مات على أثره بعد أيامٍ قلائل أما ابن الأثير؛ فقد ذكر: أنَّ فردريك دخل النهر يريد الاغتسال ، فغرق، ومهما يكن من أمر ، فإنَّ الذي يهمنا هو أنَّ الإمبراطور فردريك بربروسا قد هلك دون أن يحقِّق هدفه في المشاركة في استعادة بيت المقدس من يد صلاح الدين ، فضلاً عن أنَّ ذلك الحدث المفاجىء كان له أثرٌ كبير على فشل الحملة الصليبية الثالثة؛ إذ إنَّ جزءاً كبيراً من الجيش الألماني قد عاد عقب وفاته إلى أوروبا، بالإضافة إلى أنَّ الصليبيين قد فقدوا بوفاته شخصيةً كبيرةً مخلصةً للمشروع الصَّليبي ، لو أنها وصلت إلى عكَّا؛ لوجد منها صلاح الدين متاعبَ كثيرة( الكامل في التاريخ، ص244).
3 ـ تفرُّق الألمان بعد موت ملكهم: وبموت الإمبراطور فردريك بربروسا حلَّت بالألمان كوارثُ كثيرةٌ ، فقد اختلفوا منذ البداية حول مَنْ يخلفه في قيادة الحملة الصليبية الألمانية؛ حيث مال بعضُهم إلى تولية ابنه فردريك السوابي ، بينما مال بعضهم إلى تولية أخ لفردريك السوابي أكبر منه، وما أن رأى الملك الأرمني ما حلَّ بالألمان من التفكُّك ، والضعف بعد موت فردريك بربروساً حتى اثر ألا: يلقي بنفسه بينهم ، فإنَّه لا يعلم كيف يكون الأمر ، وهم إفرنج ، وهو أرمني ، فاعتصم هو عنهم في بعض قلاعه المنيعة وتفرَّق الألمان بعد موت ملكهم فمنهم من عاد إلى أوروبا ، ومنهم من سار مع الأمير فردريك السوابي الذي خلف والده في قيادة الجيش الألماني ، وعند مسير بقايا الحملة إلى أنطاكية حلَّ بهم وباءٌ شديدٌ ذهب ضحيته كثير من رجالهم ، ووصلت البقيَّة الباقية إلى أنطاكية ، وكأنَّهم قد نُبشوا من القبور على حدِّ قول المؤرِّخ ابن الأثير.
وما إن وصل الألمان إلى أنطاكية حتى تبرَّم بهم صاحبها بوهيمند الثالث ، وثقلت وطأته عليهم ، وطمع في الاستيلاء على أموالهم ، وعتادهم ، فأشار عليهم بالمسير إلى حلب ، وحسَّ لهم طريقها. إلا أنَّ فردرديك السوابي لم يستجب لمشورة بوهيمند ، وإنما طلب منه أن يعطيه قلعة أنطاكية ليودع بها ماله ، وخزائنه ، وأثقاله ، فوافق بوهيمند على ذلك على أمل أن يفوز بما يودع فيها من الأموال ، والعتاد ، وكان الأمر على ما أراد ، فإنَّ الألمان لما فارقوا أنطاكية ، لم يعودوا إليها ثانية؛ ففاز بوهيمند بكل ما أودعوه فيها
وفي الوقت نفسه تعرَّضت فرقةٌ من الألمان لكارثةٍ أخرى ، كان لها أثر كبير في إضعاف نفسيَّاتهم ، فقد اتَّجهت هذه الفرقة الألمانية صوب بغراس وهم يظنون: أنها لا تزال في أيدي إخوانهم الصَّليبيين ، وما أن وصلوا إليها حتى فتحت أبواب القلعة ، وهجم المسلمون على الألمان، فاستولوا على ما معهم من الأموال ، والأسلحة ، والعتاد ، وقتلوا منهم ، وأسروا العدد الكثير ، كما خرج أيضاً بعض سكان حلب ، وتفرَّقوا في طريق الألمان ، وأخذوا يتخطفونهم ، فأسروا منهم أعداداً باعوهم في الأسواق بأثمانٍ زهيدة. إنَّ ذلك يدلُّنا أيضاً على مدى تلك العزلة التامة التي فرضها صلاح الدين على الصَّليبيين ببلاد الشام بعد إحكام سيطرته على مدن السَّاحل ، حتى إنَّ الصليبيين في الغرب الأوروبي لم يكن في مقدورهم التمييز بين المدن ، والقلاع التي استولى عليها صلاح الدين ، وبين التي لا تزال في أيدي إخوانهم الصَّليبيين في الشرق( صلاح الدين، الصلابي، ص473)
وأخيراً قرر فردريك السوابي بعد تلك الكوارث الَّتي حلت بجيشه الاتجاه إلى عكَّا ففي يوم الأربعاء 25 رجب سنة 586 هـ/أغسطس 1190 م سار على رأس جيشه إلى عكَّا عن طريق جبلة ، واللاذقية ، وانتهز المسلمون في اللاذقية فرصة مرور شراذم الألمان ، فخرج رجالها عليهم ، فقتلوا ، وأسروا منهم أعداداً كثيرة ، ولما وصل الألمان إلى طرابلس أقاموا بها للرَّاحة ، فنزل بهم وباءٌ شديد مات على أثره أكثرهم ولم يبق منهم سوى حوالي ألف رجل ركبوا في البحر يتقدَّمهم فردريك السوابي قاصدين عكَّا للانضمام إلى بني جنسهم هناك لمؤازرتهم في حصارها ، فوصلوا إلى عكَّا في 16 رمضان سنة 586 هـ/أكتوبر 1190 م.
ثالثاً: موقف صلاح الدين من الحملة الألمانية:
لم يُهمل صلاح الدين أمر الحملة الألمانية منذ علمه بمسيرها إليه ، فقد استنفر الناس للجهاد، فبعث رسولاً في رمضان من سنة 585 هـ/1189 م من قبله ، وهو القاضي بهاء الدين بن شدَّاد إلى الخليفة العباسي في ذلك الوقت الناصر لدين الله أبو العبَّاس أحمد بن المستضيء لإعلامه بمسير الألمان إلى بلاد الشام ، وأمر صلاح الدين القاضي ابن شدَّاد بالمسير في طريقه إلى أمراء الموصل ، وسنجار ، والجزيرة ، وإربل لاستدعائهم للجهاد ، فأجابوا إلى ذلك ، وتأهَّبوا للمسير إلى صلاح الدين ، كما وعد الخليفة العباسي بكلِّ جميل؛ وأمدَّ صلاح الدين بالمال ، والعتاد. وتابع صلاح الدين في الوقت نفسه تقدُّم الألمان إليه عن طريق إرسال العيون (الجواسيس) لكشف أخبارهم ، كما أرسل نوَّابُه في البلاد الشاميَّة عساكِرَهم لكشفأخبار العدو ، واعتراض طريقه ، فوقعوا على فرقةٍ من جيش الألمان ، قد خرجت لطلب العلوفة للدَّواب ، فقتلوا ، وأسروا منهم زهاء خمسمئة نفس (مفرج الكروب، بن واصل، (2م/323ص).
ولما تحقَّق صلاح الدين من وصول الألمان إلى بلاد الأرمن ، وقربهم من البلاد الإسلاميَّة؛ جمع أمراء دولته ، وشاورهم فيما يصنع ، فاتَّفق رأيهم على تسيير عسكرٍ كبيرٍ لملاقاة العدو في طريقه ، وحماية بعض المدن ، فسارت تلك الجموع الإسلامية يتقدَّمها عددٌ من أمراء المسلمين ، فكبدت العدوَّ الألماني في طريقه خسائر جسيمةكما أمر صلاح الدين بهدم أسوار طبرية ، ويافا ، وأرسوف ، وقيسارية ، وصيدا ، وجبيل ، وذلك لأنَّه خشي سيطرة الصليبيين عليها، واستخدام تلك الأسوار في محاربة المسلمين
والحقيقة: أن حملة الألمان الصليبية فشلت عندما غرق قائدها الإمبراطور فردريك بربروسا في أحد أنهار اسيا الصغرى ، وتشتَّت جموع الألمان في الشام ممَّا حال دون وصولهم إلى بيت المقدس، وتحقيق هدفهم باستراجاعه من أيدي المسلمين، وأخيراً فإذا كان فردريك بربروسا قد عجَّل الخروج إلى المشرق على رأس حملته الصَّليبية ، واختار لها الطريق البري إلى بلاد الشام؛ فإنَّ فيليب أوغسطس فرنس ، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا لم يتركا الغرب الأوروبي في حملةٍ صليبية إلا في صيف 586 هـ/1190 م واختارا الذَّهاب إلى عكَّا بحراً (صلاح الدين، الصلابي، ص477).
المراجع:
- صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.
- صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل
- ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير، دار المعرفة بيروت لبنان.