الفوائد المنتقاة من كتاب “الفصل بين النفس والعقل” لفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي
انتقاها عبد العزيز محمد العاصمي
بسم الله الرحمن الرحيم
[ تمكن العقل والنفس ] والنفس متمكنة في الإنسان أكثر من العقل؛ فقد يعيش الإنسان بنفس بلا عقل كما يعيش الحيوان، ولكنه لا يعيش بعقل بلا نفس، ولكن في العقل من الدراية والسياسة وتقبّل العلم ما ليس في النفس من التحايل والمكر وتقبّل التمرد؛ ولأجل هذا جرى التكليف على العقلاء مهما كانت طبائع نفوسهم؛ حادة أو رقيقة، عجلة أو متأنية، شديدة أو ضعيفة، ومهما كانت شهوات نفوسهم، ونهمها وشراهتها إليها، وتتحد عقولهم في التكليف، ولكن يختلفون في مقدار المؤاخذة عليه بحسب ما في نفوسهم. (ص: ٧).
[ القدر المطلوب من العقل للتكليف ] والعقل الذي يحتاج إليه في معرفة التكاليف والعمل بها هو حد يشترك فيه جميع العقلاء؛ لأن التكاليف الإلهية على الإنسان لا تحتاج إلى ما زاد عمّا يشترك فيه العقلاء، وأمّا حدة الذكاء والحِذْق، فهذا قدر زائد عن التكليف؛ ولأجل هذا ابتدأ التكليف على البالغ في سن الخامسة عشرة كما هو على ابن الستين … والذكاء قوة عقلية، كالشدة قوة بدنية، وكلاهما تزيد بالتمرّس، ولكل قوة أسباب زيادتها في الإنسان، تزيد في أشخاص، وتنقص في آخرين، والحدّ المطلوب في تكليف عقل الإنسان هو كالمشي لجسمه لحصول سعيه لكسب الرزق، وما زاد عن ذلك من الجري والركض قدر زائد ومواهب، كذلك في العقول: ما يزيد فيها عن حدِّ التكليف قدرٌ زائد ومواهب. (ص: ٨). [ وعاء النفس ووعاء العقل ] والنفس وعاء للرغبات والشهوات، والميول وتقبل الأعراض، والعقل وعاء للعلم والمعارف والتجارب، ولكل واحد منهما له دوافعه، ومن ثمّ غاياته. (ص: ١١). [ كلام الفلاسفة في النفس والعقل ] وكلام الفلاسفة القدماء كهرقليطس وميليسوس وأنكساغوراس وأنبادوقليس وديموقريطوس وأفلاطون وديوجانسيس وأرسطو، ومن الإسلاميين الفارابيّ ومسكوَيْه وابن سينا والغزالي وابن باجه وابن رشد، ومن النصارى إسحاق بن حنين، ومن المتأخرين رينيه ديكارت وفرويد وغاستون بشلار، وغيرهم ممن تكلم في النفس والعقل كلام كثير مختلف ومتشابه، وكثير منه مختلف في اللفظ متفق في المعنى؛ لأن كل واحد منهم يتكلم بما انتهى إليه من تجربة، ويفسر النفس والعقل من وجه يواجهه ويراه، وربما فسّر بعضهم العقل بالنفس، وفسّر بعضهم النفس بالعقل، واختلفوا في المحرّك لإرادة الإنسان والآمر له. (ص: ١٢). [ سبب خلق العقل وإنزال الشرائع ] وجميع النفوس تشترك في الشراهة والنهم، وطلب المزيد، والرغبة في عدم التوقف عند حد؛ ولهذا خُلقت العقول، وأنزلت الشرائع حتى تضبطها، فالشرائع فيها ضبط عام يستوي فيه الجميع، لا تختلف فيه نفس عن نفس، وأمّا العقول ففيها الضبط الخاص والسياسة الخاصة. (ص: ١٥). [ ما استعاذ منه الأنبياء ] ولم يأتِ أن نبيًا استعاذ من عقله، ولكن الاستعاذة تكون من شر النفس؛ لأن النفس قد تعطى الخير وترفضه، لأنها لا تشتهيه أو ينافي طبعها الذي تميل إليه. (ص: ٢١). [ دور العقل مع عبث النفس ] وأما العقل، فإنه ميزان يعطي الإنسان النتيجة بحسب ما تعطيه النفسُ المعادلةَ، فإذا أرادت النفس نتيجة معينة، نقَصت فيما تكره، وزادت فيما تحب، ثم أعطت العقل معادلتها وطالبته بالنتيجة، ثم أمرته بالعمل عليها، والتدليل على صحتها، ولكن العقل يدرك كثيرًا عبث النفس وميلها؛ ولهذا يحاسب الإنسان على أفعاله؛ لتقصير عقله بقبول تدليس نفسه عليه. (ص: ٢١). [ أثر الهوى على النفوس ومن ثمّ على العقول ] ولمّا كانت نفوس المشركين مبتلاة بالهوى، أنكرت نبوّة النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنّه بشر، ولكنّ نفوسهم لم تتفطّن عند هذا الاحتجاج أنّهم يعبدون ربًّا من حجر، فكيف تقبل ربًّا من حجر، وتنكر نبوة أحدٍ لأنّه بشر ؟!. (ص: ٢٣). [ طبع النفس الأصلي ] ولا يمكن أن يطبع الإنسان المكلف على شيءٍ ثم يقوده طبعه المجرد بلا مؤثرات طارئة إلى الخطأ والضلال، والانحراف والشذوذ، وكل التجريبيين الذين يقولون بخلاف ذلك إنما نظروا إلى الطبيعة التي اكتسبت الخطأ، ثمّ أوجدوا لها مسوغات طبيعية، والطبيعة تنشأ صحيحة، ثمّ تتأثر بمؤثرات، ثمّ تنحرف، ثمّ تتطبع على الانحراف؛ وذلك أن الإنسان فيه غريزة وشهوة، ولا يميل بطبعه إلا إلى إشباعها بالجهة الفطرية الصحيحة، وقد يلاقي الإنسان عرضًا يحرفه عن الرغبة في الطريق الصحيح. (ص: ٢٨، ٢٩). [ اختلاف حساب النفوس للوقت ] فحساب النفس قد يختلف عن الواقع، فالنفس لها ساعة زمنية خاصة بها، قد تتطابق مع ساعة الشمس، وربما لا تتطابق بزيادة أو نقص بحسب طبيعة النفس وأعراضها؛ فالنفس المطبوعة على العجلة والحِدّة إذا انتظرت شيئًا، فساعتها كاليوم بالنسبة للنفس المعتدلة، والنفس الباردة البليدة إذا انتظرت شيئًا، فاليوم عندها كالساعة بالنسبة للنفوس المعتدلة، ولو كانت النفوس تنتظر شيئًا واحدًا لاختلفت في حساب الزمن. (ص: ٣٠). [ تأثّر النفس بطبيعة النشأة ] وطبائع الإنسان تتأثّر بما تنشأ عليه، كالبيئات؛ فبيئة البادية والصحراء والبيئة التي يكثر فيها الظلم من القوي للضعيف تؤثر في طبيعة أهلها بالقسوة والشدّة والإقدام؛ لأنها نشأت على التنازع والمغالبة، فتميل طبائعهم إلى ما يوافقها؛ ولهذا فأكثر ظهورٍ للخوارج يكون في تلك الطبائع المتأثّرة بما نشأت عليه، وتعتري من نشأ في ذلك الحِدّة في الأمر والنهي والعقاب والغيرة، ويقابل ذلك البيئة المترفة المنعَّمة كثيرة الملذات ووفيرة الشهوات، فإنه يكثر فيها الإرجاء وضعف الأمر والنهي والغيرة، وقد ذكر النظر بن شُميل أن الإرجاء دين يوافق المترفين. (ص: ٣١). [ سبب تفوق بعض النفوس على غيرها ] وبعض النفوس فيها من الطبائع ما يجعلها تتقدّم على غيرها في جوانب، ولو كان غيرها أرجح منها في مجموع الطبائع، وقد تكون أولى منها في باب العلم والإيمان، فحذيفة بن اليمان كان أمين سر النبي ﷺ لطبع في نفسه، استحق هذا الفضل، مع أن هناك من الصحابة من هو أفضل منه وأكمل. (ص: ٣٣). [ ما يكون فيه التفاضل ] والتفاضل يكون بين الناس في الأمور المكتسبة والاختيارية؛ كالأدب والعلم والمعرفة، فتلك أشياء مكتسبة يحصِّلها الناس باختيارهم، وهي أصل التفاضل، وأولى الفضائل بالمدح والثناء، وأما غير المكتسبة، فينتفع منها؛ كما ينتفع من بسطة جسم الإنسان وقوة بنائه وطوله في أعمال يصلح لها، ولا يصلح غيره. (ص: ٣٤). [ الأمر بالتزيّين للرجال أكثر من للنساء ] ولأجل هذا جاءت الموازنة في الحث على الزينة والتجمّل في الرجال أكثر من النساء؛ لأن المرأة فيها طبع كافٍ تحتاج فقط إلى المحافظة عليه، وأمّا هذا الطبع في الرّجل فهو أقل من المرأة، فاحتاج إلى مخاطبته بالتزيّن والتجمّل؛ لأن الطبع غلّاب، ولو جاءت الأوامر الإلهية كثيرة للمرأة بالتجمّل والتزيّن لخرجت عن الحد المقبول، فاجتمع طبعها وأمرها على جهة واحدة، فزادت عن الحد. (ص: ٣٦). [ موافقة التكاليف مع الطبائع ] ويجب أن تكون التكاليف متكافئة مع الطبائع ومكملة لها، فلمّا كانت المرأة البِكْر مطبوعة النفس على الحياء، تستحي من طلب الزواج أو الموافقة عليه، كان من الحكمة الإلهية أن يجعل سكوتها عند عرض الزواج عليها مثل نطقها، فجاء في الحديث: ((البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها)) … واشتراط الولي للمرأة في عقود النكاح هو إزالةٌ لما طبعت عليه نفس الجنسين من الضعف بينهما عند تلاقيهما، وهذا نظير كسر ضعف النفس عند خلوة الرجل بالمرأة، فوجود محرم معهما يكسر حِدّة ذلك الضعف، ويقلل أو يُزيل لوازمه. (ص: ٣٩، ٤١). [ معنى ناقصات عقل ودين ] وأمّا حديث وصف النساء بـ(ناقصات عقل)، فليس المراد بذلك نقصًا حسيًا في تركيبة العقل وتكوينه عن مجرد استيعاب المسموع والمشاهد، ولكن لمّا كانت نفس المرأة ليّنة رقيقة حييَّة، كانت ممسكة للعقل أن يفصح عمّا يريد ويعلم، منسية له عند الخصومات؛ فقد جاء في ذات الحديث وصف المرأة بـ(نقص الدين) وجاء تفسير نقص الدين بعدم صلاتها وصيامها وهي حائض، مع قدرتها البدنية على ذلك؛ لكنّ بدنها ممنوع من الفعل لأمرٍ خارج عنه، وكذلك نقصان عقلها، ليس لعلة في العقل؛ وإنما لأمر خارج عنه مؤثر فيه، وهي رقة نفسها ولينها الطبعي المتأثّر بمواقف الخصومات، فليست المرأة ذات نفس مطبوعة على الجسارة والإقدام في الخصومات والصراعات كالرجل. (ص: ٤٣). [ دليل على ما ذكر من معنى ناقصات عقل ] ويدل على ذلك أن المرأة يصح روايتها لأحاديث النبي ﷺ بالأسانيد، لا يشترط فيها أن تعتضد رواية المرأة الثقة بامرأة أخرى، بل تكفي الواحدة ما دامت ثقة، مع أن حفظ الوحي أعظم من حفظ الحقوق المالية، والاحتياط له أعظم من الاحتياط لغيره، ولكن اختلفلت في الحالين كمال النفس وتأثيرها على العقل؛ لأن الرواية لا يكون فيها مشاحة ومنازعة وخصومة على حقوقٍ، فاختلفت معلومة الرواية عن معلومة الشهادة. [ أشد الأضرار على العقل ] فلا يوجد في الطبائع النفسية أشد ضررًا على العقل من الكِبْر، وقد عدّه الحكيم الترمذي من أضداد العقل، وهو من الطبائع التي يكون الجهل لها خيرًا من العلم فيها، فالكِبْر يوجِد في النفس نشوة بمقدارها تمنع العقل من تحصيل العلم أو النتفاع منه، وكل شعور يعتري النفس يجعلها فوق حقيقتها فذلك هو الكبر. (ص: ٤٩). [ سبب قلة نبوغ أبناء العلماء في العلم ] ومن الوهم ما لا تشعر به النفوس، ولا تؤمن به، فيتأثّر تبعًا لذلك العقل؛ كوهم ابن العالم غِناه عن العلم، فيضعف أخذه للعلم، ولهذا قلّما يوجد في أبناء حذّاق العلماء من هو مثلهم، وهذا الوهم كامن، حتى إنه قد يمنع بعض تلك النفوس من السؤال عمّا لا تعلم فتستفيد علمًا. (ص: ٥١). [ ما لا بدّ للمعلم قبل التعليم ] ولا بد للمعلم أن يعرف نفوس المتعلمين، فليس كل نفس يصلح لها كل علم، والغالب أن النفوس يصلح لها العلم الذي تحتاج إليه لنفسها ولا يتعدى استعماله إلى غيرها. (ص: ٥١، ٥٢). [ تأثيرالطبائع على قبول الإيمان ] ولا خلاف أن كل النفوس تولد مطبوعة بانفراج يكفي لدخول الإيمان بالله، ولكنّ بعضها أوسع من بعض، وقد يعتري بعض النفوس من التطبّع المكتسب ما يزيدها قبولًا مثل أهل اليمن، أو رفضًا مما يضيق عن حدّ الكفاية لدخول الإيمان، وذلك مثل الطبع المكتسب في اليهود، فقد اكتسبوا عنادًا وعداوةً وحقدًا على خصومهم، حتى وُجِد في نفوسهم طبع يصدّهم عن الإيمان، لم يولد مولودهم عليه، وفي هذا قال النبي ﷺ: ((ولو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن بي اليهود)). (ص: ٥٣). [ من أسباب التعلم وطلب المعرفة ] والطفل سريع اكتساب التعلم؛ لأنّه نشأ وكل من حوله أعلم منه وأقوى، فكان في نفسه دافع للنهوض، ويسارع في اكتساب أسباب ما يحتاج إليه، فبمقدار ظهور الحاجة يكون الترقّي، وإذا كان الإنسان يعيش وهْم العلم، كان أضعف الناس طلبًا له؛ لأنّه لا يطلب ما هو محصّله!. (ص: ٥٥.) [ من النفوس ما لا يصلح لها العلم ] ومن النفوس من ضعُف تحصيلها للعلم رحمة بها وبالناس؛ لأنّها تستعمل العلم في غير مواضعه وتستغلّه للهوى، ومن هنا قال ابن المبارك: (لقد منّ الله على المسلمين بسوء حفظ إسماعيل بن خليفة). وسبب ذلك: أنّه لو كان حافظًا لاستعمل محفوظاته في غير الحقّ، وفَتَن نفسه وفتن الناس معه. (ص: ٥٥). [ جمع السلف بين العلم وحسن التعليم ] قال الشّافعي: (لو أنّ محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه؛ لكنّه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه)، وقد سُئِل الخليل بن أحمد عن مسألة فأبطأ الجواب فيها، فقال له النظر بن شُميل: ما في هذه المسألة كلّ هذا النظر ؟! قال: فرغت من المسألة وجوابها، ولكنّي أريد أن أجيبك جوابًا يكون أسرع إلى فهمك. (ص: ٥٧). [ تأثير الشهوات على العلم ] وكما تؤثر الطبائع في العلم ونوعه ومقداره، فإن الشهوات كذلك، وهي أقوى تأثيرًا فيه، حتّى إنّ بعض النفوس تجعل العلم وما تختاره منه وسيلة توصلها إلى تحقيق شهوتها، ولا تخرج من أدلته إلا ما تهوى، فتنتقي به ما تشتهي، كما ينتقي الآكل ما يشتهي من الطعام … والعلم لديها وسيلة تلتقط به، وليس غاية كما يظهر للناس. (ص: ٦٣). [ تأثير الطبائع على تطبيق العقوبات ] وذلك أن الإنسان الغني إذا سرق المال الحقير، فإن هذا دليل على شدة ضعف النفس ودناءتها، وأن قناعة العقل فيه مختلّة في تقدير الخير من الشر ، ومثله يستحق العقوبة التعزيرية أشد من غيره من الفقراء وأصحاب الحاجات، وأمّا سرقة الفقير فلا يرفع فقره عنه عقوبة السرقة، ولكن يخففها إن كانت تعزيرًا. (ص: ٦٤). [ اختلاف النفوس في الثواب والعقاب ] فالثواب والعقاب كلبس الثياب؛ يختلف التاس في طولهم، وعرضهم، ونوع حاجتهم في حرٍّ أو برد أو ستر عورة، وحقهم في التساوي هو في استيعاب حاجة كلّ واحد منهم وسدّها، فإن سُدّ الجميع كانوا متساوين، وإن كان الأطول منهم قصُرَ لباسه عن ستره مقدار أنملة، والأقصر منهم تمّ ستره فهذا لا يقال بتساويهم فيه، بل إنّ الأطول مظلوم مبخوس الحق، ولو كان ما عليه من لباس أكثر من غيره؛ لأن العبرة ليست بحجم ما أخذ، ولكن في كفايته له. (ص: ٦٥، ٦٦). [ المحرمات التي ترتب عليها عقوبات ] وغالب الأخطاء التي جاء فيها عقوبات هي المحرمات المتعدية، التي تتصل بخطأ الإنسان وفعله الحرام في حق غيره، وغالب ما لم يأت فيه عقوبة فهو من الأخطاء والمحرمات اللازمة لنفس الشخص وغير المتعدية إلى غيره، بل منها ما يكون تعلقه بحق غيره ضعيفًا، فلا تُنزَّلُ فيها عقوبة دنيوية؛ كالغيبة والنظر المحرّم بلا تجسس، والكِبْر، وما يخص الإنسان نفسه قدر كبير جدًا من أفعاله المحرمة اللازمة له، ولا يعديها إلى غيره. (ص: ٦٧). [ ليس لكل صواب ثواب ولا لكل خطأ عقاب ] فليس كلّ صواب تثاب عليه، وذلك ليبقى داعي الفطرة إلى الخير، فلا يتطبّع بعمل الصواب، إن كان فيه ثواب وإلا فيدعه، وليس كل خطأ تعاقب عليه ولو كان العقاب يزيله حقيقة؛ لأن زوال الظاهر ليس بكافٍ مع نقص النفس وكسرها وأذيّتها بما لا يوازي ذلك الزوال. (ص: ٦٨). [ اختلاف المحرمات باختلاف الحال ] وقد تختلف تلك المحرّمات بحسب الأزمنة والبلدان والأشخاص؛ فالزمن الذي تشيع فيه الكبائر وتُعلَن، ينبغي أن تخفف فيه شدة الخطاب على الصغائر، أو يسكت عنها إلى أجل، من غير تشريعها؛ لأن نفوس أهل هذا الزمن أو البلد تتأثّر بخطاب الصغائر فتَنفِر؛ لأنها متوطنة على ما هو أشد منها، وهذا قد يكون في الأشخاص؛ فنفسُ الغارق في الكبائر ليست كنفْسِ من يستوحش من الصغائر. (ص: ٧٠، ٧١). [ أعظم ما يظهر النّفاق ] ولو أنّ الأنبياء عاقبوا كل مخطئ بأي حال، لكثرت خصومهم، ونفَرَ الناس منهم، فإن من أعظم ما يظهر النّفاق: العقوبة على كلّ خطأ، والثواب على كل صواب. (ص: ٧١). [ متى يُكَف عن العقوبة ] وقد نَظَر عمر بن الخطّاب في ترك النّفي والتغريب – وهو عقوبة في ذاتها مشروعة – لمّا كانت سببًا في دفع الإنسان إلى شرٍّ أعظم من شرّه الذي عوقب عليه، وقد نفى عمر بن الخطاب رجلًا في الخمْرِ، فلحِق بالروم وتنصّر، فقال عمر: ((لا أُغرّب بعده مسلمًا)). (ص: ٧٢). [ الاحتجاج بالضعف عند الخطأ ] وليس للإنسان أن يحتجّ بضعف نفسه في موقف أو نازلة هو قد تولى أمرها ويعلم من نفسه ذلك الضعف، ولم يبيّن النبي ﷺ لأبي ذرّ عذره بضعفه لو تولّى، بل بيّن له ضعفه في أن لا يتولّى، وبين له أنه لو تولّى ستكون العاقبة النّدامة. (ص: ٧٥). [ تسفيه النفوس للعقول ] وقد تكون بعض النفوس المضطربة مُنْزِلةً لعقول أصحابها إلى دركات السفه، ولو كانت عقولهم على علم وذكاء، فالعلم في العقول، والاتزان في النفوس، ولن يستفاد من إناءٍ في يدٍ مضطربة. (ص: ٧٦). [ التآلف والتنافر في العقول والنّفوس ] والعقول تتوافق وتتآلف ولو تباينت في مقدار العلم، إذا كانت النفوس متوافقة، فقد يصاحب العالم جاهلًا، ولكن قلّ أن تتآلف اانفوس إذا تنافرت، فالتفوس كأسنان التُّرس الذي يسير بمثله، إن امتد طرف انكمش الآخر، وإن امتد الآخر انكمش الأول حتّى تسير التروس. (ص: ٧٧). [ أنواع النّفوس ] ويوجد نفوس غالبة الكمال، فتتوافق مع أكثر النّفوس، لكنّها لا تتوافق مع صنف أو صنفين أو ثلاثة، ويوجد منها ما تتوافق مع نصف النفوس أو ربعها، ومنهم من نفسه لا تتوافق من أحد، وتُنازع كلّ نفس تُقاربها؛ حتّى لا تأْنس بأحد، ولا يأنس بها أحد. (ص: ٧٧). [ اختلاف حال النّفس في المجلس الواحد ] ولهذا كان بعض العلماء يأخذ من المجالس أولها، ويفارقها قبل أن تطول؛ لأنّ النفوس في أوّل المجالس تُخرج أحسن ما في عقولها، كما قال الزهري: (إذا طال المجلس، كان للشيطان فيه نصيب). (ص: ٧٩). [ سياسة العقل للنفس ] وكم من نفس ناقصة كمّلها عقلٌ راجح بسياسته لها، وحكمته في وضعها في مواضع تصلح لها، وحمايتها عن ضد ذلك. (ص: ٨٠). [ التفكر فيما اعتادته النفس ] ومع العادة والتطبّع يحتاج العقل إلى شدّة حضور وتفكّر، وكثير من الذين ترسّخ فيهم العقائد والبدع والأخطاء إنما هو بسبب النشأة والتطبّع عليها، ثم كان دور العقل تثبيتها بالتدليل عليها، وليس إنشاءها. (ص: ٨١). [ إمكانية تغيير الطبائع ] وليس معنى أن هناك بعضَ الطبائع النفسيّة تولد مع الإنسان أنه لا يملك تغييرها فيه، بالزيادة أو النقص، فقد يكون لبعض الطبائع النفسية علاج في إرخائها وشدّها، وتقويتها وإضعافها، كما يعالج الإنسان بعض حواسّه وما خُلق عليه، فيقوّيه ويضعّفه بحدود، وفي الحديث: ((إنّما الحلم بالتحلّم)). (ص: ٨١). [ تأثر الطبائع بما حولها ] وقد تتجاوز حدود تأثّر الإنسان بطبائع من حوله من الناس إلى تأثره بطبائع الحيوانات التي يختلط بها، فالإنسان يؤثر فيها ويتأثّر بها، فالمعروف أن أصحاب الإبل فيهم غلظة وشدة طبع اكتسبوه منها، وأصحاب الغنم فيهم سكينة وهدوء طبع اكتسبوه منها، وفي هذا جاء الحديث: ((الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، والفدّادين أهل الوبر، والسّكينة في أهل الغنم)). (ص: ٨٢). [ حق النفس على العقل ] وللنفس حق على العقل في إعطائها شهوتها الصحيحة بالطريقة الصحيحة، وتقييدها عمّا عدا ذلك. (ص: ٨٢). [ النفس الفقيرة ] فالنفس إذا اشتهت أسرَت العقل، وساقته في تحقيق رغباتها، وتسمى النفس المأسورة بالشهوات بالنفس الفقيرة، وقد استعاذ النبي ﷺ من الفقر، وفسّره أحمد بن حنبل بأنّه فقر النفس. (ص: ٨٣). [ منع النفس من حقوقها ] ومنع النفس من حقها في المتعة والشهوة أذيّة فها، وربّما يدفعها ذلك إلى التمرّد عليه، والخروج عن قيده، وقد قال ابن مسعود: (استبق نفسك ولا تكرهها، فإنّك إن أكرهت القلب على شيء عمي). (ص: ٨٤). [ عندما يكون قضاء النهمة هو المنتهى ] فإن الحيوان المريض بالجَرَب يحكّ جلده حتى ينتهي ولو أدمى؛ لأنه ليس لديه عقل يوقفه عن بلوغ غايته، وقضاء لذّته ونهمه؛ فهي منتهاه، وأمّا الإنسان فليس قضاء نهمه هو المنتهى لديه، ما لم يحكُمْه العقل. (ص: ٨٥). [ تدرّج النفس في انحرافها ] كما حدث مع قوم لوط، فإن الشذوذ عنده لم ينشأ من الرجل إلى الرجل بلا تدرج، بل وقع الرجال في أدبار أزواجهم، ثم في أقبال وأدبار غيرهن من النساء، ولم يكونوا حينها يجدون أدنى ميل في نفوس الرجال إلى الرجال، ثم بدؤوا بالميل إلى استحسان الرجال للرجال، حتى استحسنوا منهم ما يستحسنونه من النساء، فحاجز وطء أدبار الزوجات حدث في جيل، وحاجز الوقوع في غير الزوجات من النساء كُسِر في جيل، والجيل الثالث وما بعده هو الذي وقع في الشذوذ التام من جميع الوجوه. (ص: ٨٦، ٨٧). [ من هو السفيه ؟ ] والعقل الذي يطلق للنفس تحقيق رغباتها متى ما أرادت في كل زمان يدل على غلبة النفس عليه، وهي إمّا غلبته لقوتها، أو أنها غلبته لضعفه ولو لم تكن قويّة في ذاتها، وهذا في كل حال يسمّى السّفه، وأصحابه يسمّون بالسّفهاء. (ص: ٨٨). [ ليس لكل شهوة حد تنتهي إليه ] وشهوات الإنسان تختلف؛ منها ما ينتهي إلى حد، كالأكل فإنه ينتهي إلى حد الشبع، وكالشرب فإنه ينتهي إلى حد الريّ، ومنها ما لا ينتهي نهمه؛ كالمال والجاه وغير ذلك. (ص: ٩٠). [ البصيرة بالعواقب ] وكلما كان العقل بصيرًا بالعواقب خبيرًا بها، كان ضبطه لنهم النفس أقوى، وكانت هي في مواجهتها له أضعف. (ص: ٩١). [ مما يعين العقل على شهوة النفس ] إزالة الأسباب التي جعلت النفس تزيد في شهواتها، حتى جعلتها لا تتأثّر بالعقوبات، كدوافع النفس إلى شهوة المال وشهوة النكاح وغيرهما، فأخذ المال بالحرام – كالسرقة والرشوة والغصب والغش – كل هذا له دوافع غريزية في الإنسان، وله دوافع خارجة زائدة عن ذلك؛ كتيسير أسباب السرقة والرشوة والغش، فهذه دوافع زائدة تعمي النفوس عن رؤية العقوبات التي تحرمها من شهوات أخرى. (ص: ٩٤). [ أصل الشبهات ] ولا توجد شبهة إلا وهي نابتة على الأرض شهوة، حتى تتحول إلى كونها مذهبًا متبوعًا، وربّما دينًا أو عادةً في الناس، وهذه قاعدة في كل الأمم والشعوب، تصنع شهواتهم مذاهبهم الباطلة، والنفس إذا اشتهت هويت، فالشهوة قبل الهوى، وكلاهما نسبهما الله إلى النفس، سواءً كانت خيرًا، أو شرًا، قال تعالى: ﴿تَشتَهي أَنفُسُكُم﴾. وقال: ﴿اشتَهَت أَنفُسُهُم﴾. وقال: ﴿تَهوَى الأَنفُسُ﴾. (ص: ١٠٠). [ موافقة الحق لهوى النفس ] فقد يوافق الحق هوى النفس، فيحتاج الإنسان إلى تصحيح نيّته لا إلى ترك فعله. (ص: ١٠٠). [ فرق بين الوقوع والتسويغ ] والشهوات التي تستبدّ على العقول لتنقاد لها في فعل الأخطاء والمحرّمات مع قناعتها بكونها كذلك أخف من النفوس التي تشتهي ولا تكتفي بأَطْرِ العقل على تحقيق شهوتها؛ بل تأطِرُه على تسويغها وتشريعها، والتدليل عليها، والدعوة إليها؛ لأن هذا تحوّل للشهوات إلى شبهات، ثم أفعال وقناعات يدعى إليها، والأول إنما حول الشهوات إلى الأفعال، ولم يمر بمرحلة تحويلها إلى شبهات … وهذا من طغيان النفوس على العقول. (ص: ١٠١). [ استمرار المصلح في إصلاحه ] وكثير من المصلحين يرى الناس مستمرين على الأخطاء بأفعالهم، غير مقلعين عنها، ولا مستمعين لقوله، ثم يدركه الملل واليأس ويتركهم، مع كونهم يفعلون الأخطاء بشهوة وانقياد للنفس على الجسد فحسب، من فير قناعة العقل، ويقين القلب، والواجب عليه أن يستمر؛ لأن ثمة فرق بين فعلهم للشهوة وهي شهوة، وبين فعلهم للشهوة وهي شبهة، وفرق بين تزاوج أنفسهم مع أفعالهم، وبين تزاوج أنفسهم مع عقولهم، واستمرار المصلح في إصلاحه يحافظ على انفكاك الباطن ولو كان الظاهر متصلًا بالأخطاء، مستمرًا عليها. (ص: ١٠٢). [ متى يغلب الباطل على الحق ] وفعل الناس للشر لا يعني غلبة الباطل على الحق حتى يفعلوه عن قناعة بأنّهم يفعلون خيرًا، وقد قيل لأحمد بن حنبل: ظهر الباطل على الحق! فقال: (إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلبونا بعدُ لازمة للحق). (ص: ١٠٣). [ أقوى الشهوات وأضعفها ] وأقوى الشهوات تأثيرًا في العقول شهوة الجاه، وأضعفها تأثيرًا في العقول شهوة الطعام. (ص: ١٠٣.) [ متى يكون الجاه شهوة محرمة ] ومحبة الجاه والذكر الحسن، وكراهية الذكر السيئ: طبْع الناس الأسوياء، ولكن الكلام هنا عن شهوة الجاه، وهي قدر زائد عن الطبع الذي يشترك فيه كل الناس، وهي التي تؤدي إلى جعل الجاه غاية ومنتهى المطالب، فيأخذ الإنسان الوسائل لأجل تحقيق تلك الغاية. (ص: ١٠٥.) [ ماذا يفعل طلاب الجاه عند انتقال الجاه لجهة أخرى ؟ ] الجاه إذا كان غايةً ومنتهى، فإن من يطلبه إذا لم يجده بهذه الوسائل فسيطلبه بغيرها من وسائل السوء، وربما يتخذ وسائل الخير حتى توصله إلى الغاية، فإذا لم يجدها هناك، فإنه سيتغير ويترك تلك الوسائل التي أفنى فيها عمره الطويل، ويبحث عن أخرى، وهذا تفسير سلوك كثير من الذين يتغيرون عن مبادئهم، وعن أصولهم التي كانوا عليها، عند انتقال الجاه من موضع إلى موضع آخر، ومن مكان إلى مكان، ومن مبدأ إلى مبدأ، والنفس لا بد أن تجد مسوّغًا لتحوّلها عن ذلك، فربّما وصفت تحولها بالتجديد والمراجعة. (ص: ١٠٥). [ من خفايا طلب الجاه ] حتّى يستميت بعضهم في البعد عن الناس؛ حتّى لا يُذكر ولا يُرفع، وهو في باطنه يحب أن يذكر بحب البعد عنهم لأجل ذلك، وإذا سئل عن شيء يقول: (لا أدري) وهو يريد أن يوصف بالحذر من القول بلا علم؛ حتى يقول: (لا أدري) فيما يدري، وهذا في نفسه شرٌّ ممّن يقول: (أعلم) فيما لا يعلم، وإن كان الثاني شرًا منه في ضرره على النّاس. (ص: ١٠٧). [ أوّل من تسعّر بهم النار ] والطرُقُ إليه وحده – أي: الجاه- أكثر من جميع الطرق الموصلة إلى جميع الشهوات؛ ولأجل هذا جاء في الحديث أن أوّل من تسعّر بهم النارُ يوم القيامة ثلاثة، وجميعهم من طلّاب الجاه، الأوّل بذل حياته، والثاني بذل وقته فتعلّم، والثالث بذل ماله، وكلّهم غايته الجاه. (ص: ١٠٧). [ اختلاف منازل الشهوات في النفوس ] لأن الشهوات تختلف منازلها في النفوس؛ فنفوس تقبّل الأيدي والرؤوس لتحصل على المال، ونفوسٌ تتمنّى لو دفعت المال لتُقَبّل منها الأيدي والرؤوس. (ص: ١١٠). [ من فتن الجاه ] ومن فتنة بعض هذه النفوس المتعلقة بالجاه: أنها ترى أن كثرة تقبلها يذهب جاهها، فتثبت على ما هي عليه، وترى أنها قدْرُها، فتُمسك بجاه قليل يقين، خير من تقلّبات أخرى بجاه كثير مظنون، ثمّ يشتغل بتثبيت مذهبه وأقواله، كمن يشتغل بتثبيت بيته ولو على رأس جبل. (ص: ١١٠). [ من أسباب شدة العداوة للناس ] وإذا اجتمع في الإنسان أمران: شدّة شهوة الجاه، وشدة ضعف أسباب الجاه فيه، كانت عداوته للناس وحسده لهم أكثر؛ كالمضطجع العاجز الذي يحب أن يراه الناس بين القيام، وهو لا يكفيه حتى قعود الناس ولا اضطجاعهم حتى (يُرى)، فما يزال مشتغلًا بعيوب الناس، واقعًا فيهم حسدًا وبغيًا، من غير أن ينتفع من ذلك بشيء. (ص: ١١٢). [ الشهوة المدبرة والشهوة المقبلة ] ولهذا فإن الشهوة المدبرة أحب إلى النفس من الشهوة المقبلة؛ لأن في النفس تشوّفًا لإشباع القدرة على الحصول بما لم يحصل عليه غيرها، وهذا يعطيها اختصاصًا وكمالًا لها عن غيرها، وهذه سنة غالبة في الكون حتّى في الماديَّات؛ فإنّ أندر الجواهر وجودًا، أغلاها ثمنًا. (ص: ١١٤). [ الجمع بين العلم والإيمان ] وإذا اجتمع العلم والإيمان في الإنسان، كان أشد ضبطًا لشهوات نفسه، ويجعلانه غير منقاد لها، ولا لغيرها من النفوس، وبمقدار نقص العلم والإيمان في الإنسان تسهل قيادة عقله والتحكّم فيه؛ ولهذا إذا أراد السلطان التحكم في الناس سلبهم العلم والإيمان؛ لأن العقل الجاهل سهْل الانقياد للشبهات، وعديم الإيمان سهل الانقياد للشهوات. (ص: ١١٥، ١١٦). [ أثر العلم والإيمان على الرأي والمشورة ] ولما كان أبو بكر وعمر مقدَّمين في العلم والإيمان، وجاءت نازلة الردّة بارتداد قبائل العرب ثمّ تمرّدت، وأبو بكر مطبوع على اللين، وعمر مطبوع على الشدّة، جاهد أبو بكر طبع اللين الذي هو عليه إلى الأخذ بالشدّة، مع أن الشدّة من طبع عمر وهي الأولى بالإقدام، وكان في عمر من قوة العلم والإيمان ما خالف باجتهاده أوّل الأمر طبعه، فلم تؤثر فيه شدّة طبعه وهو يرى خلافه، حتّى استبانت له حجة أبي بكر الموافقة لطبعه، فأخذ بها لدليلها، لا لطبعه، وكل واحد منهما لم يؤثر طبعه عليه في فعله، وإنّما كان الفارق بما زاده أبو بكر من علم وإيمان في إصابة الحق أوّل مرّة. (ص: ١١٦). [ العلم أولى من القوة ] واكتساب العقل للعلم أنفع له من اكتساب البدن للقوّة، فالعلم يبصّر الإنسان بمواضع الانتفاع بالجهد القليل، والوصول إلى الغاية بأسهل طريق، ومن ذلك أن نبي الله سليمان – عليه السلام – لمّا أراد عرش ملكة سبأ، بادَرَ إلى إجابته بتحقيق مراده اثنان من الجنّ، الأوّل قال: ﴿أَنا آتيكَ بِهِ قَبلَ أَن تَقومَ مِن مَقامِكَ﴾. وأمّا الثاني، وهو الذي لديه علم ليس لدى الأوّل، فقال الله فيه: ﴿قالَ الَّذي عِندَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتابِ أَنا آتيكَ بِهِ قَبلَ أَن يَرتَدَّ إِلَيكَ طَرفُكَ﴾. لأنّه يتحصّل بالعلم ما لا يتحصّل بالقوّة. (ص: ١١٦، ١١٧). [ القوة بلا عقل ] فالقوة البدنيّة لا تنفع كثيرًا بلا عقل عالِم يقودها، ولكنّها قد تضر، والضرر عندها أسهل من النّفع، فالفيل لا يمكّن أن يبني عُشًا، ولكنّه قد يهدم قصرًا؛ لأنّ البناء يحتاج إلى عقل، وأمّا الهدم فلا يحتاج إلى كبير عقل. (ص: ١١٧). [ العلم سلاح ذو حدّين ] وكما أنّ العلم علاج للنفس من الوصول إلى أهوائها، وقائد يسوسها كما يسوس الفارس فرسه حتى يُطوِّعها، فقد يكون خادمًا للنفس في إيصالها إلى ما تهوى، فبدلًا من الحِذق في مواجهتها وسياستها، يكون خادمًا لها. (ص: ١١٧). [ النفس المتسلطة مع الشورى ] حتى الشورى لا تُشاور إلا من يعطيها مرادها، فتُسكِّن العقل بأنّها شاورت، وهي انتقت من يوافقها في الهوى ويطابقها في الصورة، ومن اختار في الشورى من يوافقه فكأنّما أشار إلى ظلّه شاهدًا معه!. (ص: ١١٨). [ الاختلاف بين الطبع وشهوة النّفس ] وهذا الاختلاف هو ما يجعل بعض النّفوس تتباين، فمنها ما هي شديدة الأنَفَة والعزّة، فترى الموت جوعًا وسكنى العراء: خيرًا من سؤال النّاس، ومن النفوس من هي عكس ذلك؛ فلو كانت غنيّة فإنّها لا ترى حرجًا من سؤال الناس تمرةً إذا اشتهتها النفس. (ص: ١١٩). [ عندما تتغلّب شهوة على بقيّة الشهوات ] وأمّا إذا جعل الإنسان إحدى شهواته غالبة، كانت هي قائدته، وعليها تُبنى أولوياته، ويكسو تركه لغيرها بكساء الفضيلة والدين والنّبْل، وهذا ما تفعله بعض النفوس التي تولع بحب الوجاهة والصدارة والشهرة والذكر الحسن، ربما تركت شهوات تخدش جاهها وشهرتها عند النّاس، ودليل ذلك أنّها لو تيسّرت لها تلك الشهوات من غير تأثير على وجاهتها، لكانت أشد إقبالًا عليها، ونهمًا في الاستمتاع بها. (ص: ١٢٠). [ استفراغ النفس لوسعها ] للنفس طاقة كما أن للبدن طاقة، إذا أجهده بالركض مسرعًا فإنّه ينقطع، ولو مشى واستراح لوصل إلى الغاية ببدن صحيح، وهكذا في إقبال النفس على ما ترغب ولو كان خيرًا أو حقًّا، فإن إطلاق العقلِ العنان للنفس في كل إقبال يستفرغ وسعها وهمّتها، ثمّ يدركها العجز والضعف والملل، حتّى تترك الخير وهي تحبّه. (ص: ١٢٢). [ تأثير الأعراض على العقل ] فإذا كان الإنسان يتكلّم أو يعمل، وفي أثناء ذلك عَلِم أن هناك من يلاحظه ممن يحبّه أو يكرهه أو يعظّمه أو يهابه، اضطربت نفسه، فتغيَّر في كلامه أو فعله، ولن يستقر حتّى يتدارك نفسه بتجاهل ذلك ليتوازن، فإذا استقرّت النّفس استقرّ العقل معها. (ص: ١٢٩). [ تأثير الهدية على النفس والرأي ] ولمّا جاء كتاب سليمان ملكةَ سبأ، خافت من فعله فيها وفي قومها، فأرسلت إليه ما اعتادت فيه أنه يدخل على النفوس أعراضًا محبوبة فيؤثرُ في أحكام العقل وآرائه، فأرسلتْ إلى سليمان بهدية؛ لعلها تدخل عليه الفرح، فإن كان قد أراد بها ما يسوءها، تزول إرادته أو تخف، كما قالت: ﴿وَإِنّي مُرسِلَةٌ إِلَيهِم بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرجِعُ المُرسَلونَ﴾. ولكن عرف سليمان مرادها، ولم يقبل هديتها، كما قال الله: ﴿فَلَمّا جاءَ سُلَيمانَ قالَ أَتُمِدّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيرٌ مِمّا آتاكُم بَل أَنتُم بِهَدِيَّتِكُم تَفرَحونَ﴾. (ص: ١٣٥). [ أثر الأعراض المحبوبة على العقل ] فالنفس تحب أن تكون مطمئنّة وآمنة؛ فترجّح غالبًا تصديق الأخبار المطمئنة والمؤمنة لها؛ تريد السكون والاستقرار، فتترك الحذر والاحتياط حتى تتفاجأ بخلاف ما تحب، فينزل بها ما تكره، فيكون ضرره عليها أطول زمانًا وأشد أثرًا من ضرر عرض القلق والحذر الذي هربت منه بتصديق الأوهام، وهنا يظهر كمال العقل في موازنة الحقائق بحسب أدلتها، لا بحسب ما تحبّ وما تكره. (ص: ١٣٨). [ علامة الإنسان الفاشل ] والنفس تحبّ استدعاء محبوباتها بصورة عاجلة؛ من متعة وفرح وراحة، وهذه علامة الإنسان الفاشل؛ لأنّ المجد والكمال لا يتحقق إلّا بآلام البدايات، والنفس التي لم تحرَق لا تُشرِق. (ص: ١٤٠). [ تأثير الفرح على النفس والرأي ] فالفرح يعطي النفس نشوة تَأطِرُ العقل على عدم رؤية الحقائق البعيدة، وإذا لم تجد النّفس مقاومة من العقل لهذا العرض، فإنّها تستبدّ وتسير به إلى ما تريد وتهوى؛ ولهذا تجد عند خوف النفس من تأثير قوّة حجج المخالفين لها وبراهينهم التي لا تجد ردًّا عليها أنّها تقوم باستجلاب السخرية والاستهزاء؛ حتّى تُشغل عقلها ونفوس الآخرين، بنشوة فرح وضحك تعمي عقولهم عن استيعاب حُجة الخصوم، وفي هذا يقول الله: ﴿فَاتَّخَذتُموهُم سِخرِيًّا حَتّى أَنسَوكُم ذِكري﴾. (ص: ١٤٠). [ وهم التلازم ] لا يوجد تلازم بين الصواب ومحبّته، ولا تلازم بين الخطأ ومراهيته، فجعل الأعراض النفسية دليلًا على صحة الرأي وخطئه خطأ، والأدلّة والبراهين مستقلة عن ذاك؛ فقد تتوافق مع الأعراض وقد تختلف معها، وفي هذا يقول الله: ﴿وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾. (ص: ١٤٢). [ قد تحضر الأسباب ولا تحضر نتائجها ] فإذا هيأ الإنسان أسباب السعادة ولم تسعد؛ فلأن النفس فيها من أسباب الشقاوة أكثر من ذلك، فلا تتحقق سعادتها حتى تنقص من هذا وتزيد من هذا؛ حتى تشعر بما تريد، وهذا كذلك في الأمن مع الخوف، والفرح مع الحزن؛ ولأجل هذا يوجد من أصحاب الإيمان واليقين من السعادة مع كثرة المصائب عليه ما تفقده الألم والحزن، ويوجد من أصحاب ضعف الإيمان واليقين من الشّقاء مع كثرة النِّعم المسْبَغَة عليه ما تفقده المتعة واللذة. (ص: ١٤٣). [ الاجتماع الخطير ] كالنفس المطبوعة على الشدة والحدّة، ثم جاءها عرض الغضب في تحقيق ما تشتهيه وتميل إليه ولو كان ممنوعًا، ومثل هذا الاجتماع من النفس لا يكادُ يقوى عليه العقل، فتستبدّ عليه أن يفعل ما لا يرى ولو كانت لديه الحجة كالشمس، ما لم يكن مع الإنسان إيمانٌ كامل أو قريب من الكمال يمنعُ هجوم نفسه مع طبعها وعرضها وشهوتها. (ص: ١٤٧). [ عندما يكون الإنسان كالحيوان لا يتطوّر ] وإذا لم يكن العقل موجودًا، فالإنسان حينها كالحيوان؛ يعيش بنفس فقط تأمره وتنهاه، وهو ينقاد لها، … فالعش الذي يبنيه الطير في زمن آدم هو نفس العُش الذي يبنيه الطير اليوم، ويأكل ويشرب ويمرض ويموت بنفس الأسباب وبنفس الطريقة، مع كثرة أعراض الخوف والمخاطر عليه، فإنّه لا ينتفع منها. والعقل مع النّفس يُخرجها من هذا السياق، بحسب ما في العقل من علم ومعرفة وخبرة. (ص: ١٤٩، ١٥٠). [ نتائج العقل تتأثّر بمقدمات النفس ] العقل ميزان، والنفس قاعدته التي ينتصب عليها، وإذا كانت قاعدته مائلة أو مضطربة عند الحاجة للوزن، فإن النتيجة تكون خاطئة، وتلك النتيجة تنتسب إلى العقل لا إلى النفس؛ باعتبار أنه هو مؤديها، وهذا صحيح من وجهٍ على ما تقدّم، ولكن عند التحقيق والتدقيق فإنّ العقلَ إنّما أعطى النتيجة بحسب ما وُضِع فيه من أشياء. (ص: ١٥١). [ العقل كربّان السفينة ] وكلمّا كان العقل قويًا بالعلم والخبرة، كان بصيرًا بطبع النفس وهواها وميلها، فيتعامل معها كما يتعامل ربّان السفينة مع قاعدتها – وهي البحر – بأمواجها وهدوئها، ويتعامل كذلك مع الهواء بحسب جهته، وكذلك قوّته وضعفه، والعقل الذي ينساق للنفس بحسب ما تعطيه، كقائد السفينة الذي ينساق للموج والهواء كيفما يؤدّيه. (ص: ١٥١). [ الحد الفاصل ومصرع أهل الدقّة ] وللعقل حدود، ولها – أي للنفس – حدود في النزاع، فإذا اقتحم العقل في حق النفس الخالص، اضطربت واختلّت، وإذا اقتحمت النفس حق العقل اضطرب واختل، والعاقل الكامل من عرف الحد الفاصل بينهما، ومنع كل واحد منهما التعدّي على الآخر، وينقص كمال عقل الإنسان بمقدار أخذ نفسه من حقّ عقله، وتضطرب نفسه بمقدار أخذ عقله من حقّ نفسه، وبين الحقّين شيء ممتزج مشترك، وهو مصرع أهل الدقة من الأذكياء !. (ص: ١٥٤). [ اختلال الترتيب بين النفس والعقل ] وكثير من الناس عند اختيار الأفكار والقناعات أو الأعمال، يخطئون في تقديم آلة الاختيار، فيقدّمون النّفس لتختار ما تحب وتشتهي، فإذا اختارت النفس وانتهت، قدّموا العقل ليفكّر ويفحص الطّرق التي توصّل نفسه إلى ما تشتهي، ويتوهّم الإنسان أنه استعمل عقله في المكان الصحيح، وربّما أكثر التفكير والتأمّل والفحص، ولكن هذا كله غير مجدٍ، لأنّه تفكير متأخّر عن الاختيار، وهو كحال المسافر الذي أضاع الطريق في الصحراء، إن اختارت النفس له الطريق، اختارت الجهة التي يستقبل فيها الهواء البارد ويستدبر الشمس عن عينيْه، ثم على العقل أن يفكّر في اختيار الطريق السهل الذي لا شوك فيه ولا حجارة تؤذي القدمين. (ص: ١٥٦). [ الترك خير من الخطأ ] وبعض الأفكار تركها خير من تطبيقها الخاطئ، فلو تُرِك الجسم بلا زينة خيرٌ من وضع الخاتم في أصابع القدم. (ص: ١٥٧). [ حتى يوضع الشيء في موضعه ] ولا يمكن أن يوضع في موضعه إلا متى عُرِف ما قبله وما بعده ومناسبة وجوده بينهما، وأولويّته على غيره في هذا الموضع، فقد تجتمع المناسبة المشتركة في أكثر من شيء، فيؤخذ أنسب المناسبَين. (ص: ١٦٥). [ حتّى تستقر المعاني في النّفوس ] ولهذا تتهاوى كثير من الدعوات الصحيحة من نفوس الناس مع الوقت ولو أحبتها نفوسهم ومالت إليها؛ لأن حبها والميل إليها شيء، وإمكان تطبيقها شيء آخر، ووضعها قبل اكتمال ما قبلها لا يستقر ولا يثبت، وهذا كحال من يأمر أهل بلد يستحلّون الزنى ويشرّعونه بالحجاب، أو ينهاهم عن النظر إلى النساء، ونحو ذلك من لَبِنات المعاني التي ليس لها قاعدة تستقرّ عليها فتسقط وتتهاوى، فهؤلاء لا يتصوّر أن تثبت تلك الأحكام في أذهانهم حتى تثبت قاعدة بنائها في نفوسهم، وهو تحريم الزّنى. (ص: ١٦٦). [ تخبّط النفس مع شرائع الدين ] ولهذا يوجد في بعض النفوس المقبلة على التديّن من تُشْبِع إقبالها بمستحبات وتترك الواجبات، وتتورّع عن مكروهات وترتكب محرّمات، والسبب في ذلك أنها اشتهت المستحب ففعلته، ولم يتعارض المكروه مع شهوتها فتركته … وإذا لم تكن الأعمال والأفكار في النفوس منتظمة ومتّسقة، فإنّها تكون سريعة السّقوط والانهيار، وتكون النفوس أقرب إلى الانتكاسة منها إلى الثبات. (ص: ١٦٧، ١٦٨). [ محددات أولويات الدين ] إنّ الدين والعبادة فيهما أولويات وتراتيب ليس لأحد أن يبنيها في نفسه على ما تشتهي وعلى ما طُبعت عليه، حتّى تتوهم أنّها متعبدة ومتديّنة، وحقيقتها خلاف ذلك. (ص: ١٧٠). [ سياسة النفس من حيث الزمان ] واستعجال الأعمال الصالحة طبع تميل إليه العقول الكاملة، ولكن إذا كان لديها من العلم ما تعلم به عدم مناسبة الزمان، جاهدت نفسها بتأجيله، وإذا كان في النّفس طبع التراخي وكان في العقول من العلم ما يناسب تعجيله، فإن العقول تجاهد النفوس على ما يخالف طبعها. (ص: ١٧١). [ ضرورة مناسبة المكان للعمل الصالح ] وقد عزم عمر بن الخطاب وهو بمنىً أن يقوم في الناس خطيبًا، مبينًا أمر البيعة في الخلافة من بعده، قال: (إنّي إن شاء الله قائم العشيّة في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم). وقد رأى عبدالرحمن بن عوف عدم مناسبة المكان بمنىً لمثل هذا الكلام؛ لما فيها من أخلاط الناس مختلفي القبائل والنواحي والمدارك والعقول؛ فقال لعمر: (يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في النّاس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مطيّر، وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها، فأمهِل حتى تقدم المدينة؛ فإنّها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف النّاس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: (أما والله – إن شاء الله – لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة). (ص: ١٧٢). [ تقديم الأنسب على الأعرف ] وقد يكون من الحكمة وضع العارف بالعمل وتقديمه على الأعرف منه؛ لأنّ الأول ينقاد له الناس ويحبّونه، فتحقق المقصود به أكثر من الثاني. (ص: ١٧٣). [ الصراع الدائم ] وإذا عجزت النفس عن توجيه مسار العقل، تفكّرت في تحقيق طبعها ورغباتها في مسيرته تلك، قدر استطاعتها، فما لا يدرك كله لا يترك بعضه أو جلّه، فإن قدرت أن تسير بالعقل خلفها، وإلا سارت خلفه تطمع فيما يشبعها ولو من حركة أو سكون. (ص: ١٧٤). [ العلم المجمل لا يكفي ] وإذا كان علم الإنسان مجملًا؛ فيعرف الخير ويعرف الشر، ويميّز الخطأ من الصواب، ولكنه لا يميز تفاصيل مراتب الخير والصواب، ودرجات كل واحد منهما، ولا يميز تفاصيل دركات الشر والخطأ، فإنّ نفسه عند تزاحم الخير وعجزها عن جمعه كلّه، ستأخذ من الخير والصواب بحسب ما تهواه … ولا تنظر إلى حقيقة الخير في نفسه: هل هو أكبر مما تركت أو أصغر ؟. (ص: ١٧٥). [ ضرر الجاهل وضرر العالم ] فالغالب أنّ ضرر الجاهل على نفسه، وضرر العالم على نفسه وعلى الناس. وكلّما كان العالم أكثر علمًا وأظهر صلاحًا، كان هواه الذي يدخل عليه أشد شرًا عليه وعلى النّاس؛ ولهذا فإن الأولى عند تولي المناصب والولايات التي يختار لها عالم ألا ينظر إلى مجرد علمه وعلو كعبه في المعرفة والتجربة؛ وإنّما ينظر إلى مقدار دخول الهوى عليه، وتسرب الشهوة إلى نفسه. (ص: ١٧٦). [ قيمة التجربة ] وذلك أن سنن الكون تتشابه، وهذا من إبداع الله في كونه؛ أن جعله يجري على نظام وأسباب لا تنخرم، وإلا لكان الكون خبط عشواء، ولكان الإنسان لا ينتفع بتصرّفاته لأن الكون حوله يجري بالصدف أو القوانين المضطربة ! والناس جميعًا على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم تعظّم أهل التجارب وذوي الخبرة، وقد كانت العرب تسمّي العقل بالتجارب، فيقولون: العقلُ التجارب. (ص: ١٧٦، ١٧٧). [ سلامة الطبع مع كثرة التجربة ] إذا اجتمع في الإنسان سلامة طبعه وكثرة تجاربه، اجتمع فيه كمال العقل، كما قال معاوية: (العقل عقلان: عقل تجارب، وعقل نَحِيزة، فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام له، وإذا تفرّدا كانت النحيزة أَوْلاهما). (ص: ١٧٧). [ مكانة التاريخ ] وقراءة كتب التاريخ هي عمر الإنسان الذي يحياه بتجارب لم يجرّبها، وحوادث لم يعشها، وأكثر الناس معرفةً لتجارب لم يرها هو أكثرهم قراءةً في كتب التاريخ الصحيح، والسنة في الأفراد والأمم ماضية متشابهة، ليست مختلفة ولا متباينة، وكل أحوال اتحدت أسبابها فلا بدّ أن تتّحد نتائجها. (ص: ١٧٨). [ التفكير والانتفاع بالعلم ] وصاحب العلم الذي لا يطيل التفكّر في الأمور والتأمل فيها قليلُ الانتفاع من علمه لنفسه ولغيره، ويكون صاحب العلم القليل الذي يفكّر في علمه أنفع من كثير العلم الذي لا يفكّر، ولهذا يرتفع صاحب الحفظ القليل فقهٍ كثير على صاحب الحفظ الكثير بفقهٍ قليل. (ص: ١٧٩). [ التفكير من غير علم أو بعلم قليل ] العقل المفكّر لا بد له من معلومات يخوضها ويديرها بفكره، ليُخْرج من هذا الخليط مزيجًا نافعًا، وإذا كان التفكير بلا علم، أو تفكير كثير جدًا بعلم قليل جدًا، كانت الزيادة في ذلك مضرّة، وذلك أن التفكير يتحول من التأمل في المعلومات إلى التأمل في النفس وخطراتها، ورغباتها وطبعها وميلها. (ص: ١٨٠). [ تفكير الجهّال ] ودعوة الجهّال إلى التفكير بلا علم هي دعوة لهم إلى أن يبدعوا في الجهل وتنظيمه، والهوى وتحسينه، وإتقان الوصول إليه، وهذا يظهر كثيرًا في الذين يولعون في التفكير وتعظيمه، ويدعون إليه وهم مهملون للعلم والمعرفة. (ص: ١٨١). [ أخطر أنواع التفكير ] وأخطر أنواع التفكير تفكير الحاذق بالمعرفة الخاطئة أو المخلوطة حقًا بباطل وخطأً بصواب. والواجب قبل التفكير بما يخدم المعارف والعلوم التفكّر في صحتها في ذاتها. (ص: ١٨٢). [ ليس كل علم يستحق التفكير ] ولا يلزم من صحة كل علم صحة إطلاق التفكير فيه؛ وذلك أن التفكير جهد وتنقيب يجهد العقل، كما يجهد الحفر والتنقيب البدن، فالإنسان لا يحفر بئرًا ليستخرج قطرة، ولا يفتت حصاة ليستخرج منها معدنًا لا ينفعه، ولكن يستسهل تفتيت الجبال لاستخراج الذهب. (ص: ١٨٢، ١٨٣). [ تأثير الجاه على التفكير ] وكثيرًا ما تختار النفس التفكر في علم لا لذاته وآثار نفعه؛ وإنّما لأنّ ذات العلم يكسب صاحبه جاهًا أو مالًا، فالنفس اتخذت ذلك العلم وسيلة لتحقيق شهوة مجردة، وليس لتحقيق نفع، وهذا يحدث كثيرًا إذا أطلق للنفس اختيار العلوم، فهي لا تنظر إلى آثارها على الناس، وإنما تنظر إلى آثارها على شهواتها ورغباتها. (ص: ١٨٤). [ تجريد النفس عند التفكير ] وذلك أن الحذق في التفكير يصيّر المعلومة المظنونة والمشكوك فيها إلى يقينية عند النفس التي تهواها، فهي تفكر في وجوه التصحيح لها أكثرَ من وجوه الخطأ، وكثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين أخذوا علومًا مظنونة، ولكنهم أوتوا حدة في الذكاء والتفكير، مع ميل وتعصب لتلك العلوم التي حصلوها، فأتقنوا التفكير فيها من جهة تريهم وجه الصواب فيها، ودللوا على صحتها بأدلّة تأسر العقول لأول وهلة، واستجمعوا قوة التفكير الممزوج بميل النفس، ففتنوا أنفسهم وفتنوا الناس بحسن عرض أقوالهم… وكثير من الفلاسفة والمتكلمين دخلوا في تأكيد معارف خاطئة بالتفكير بنفس ميّالة، وسوّدوا الكتب وسطّروا الصحف، ثم لما ذهب ميل النفوس، صح لهم التفكير وتغيرت طريقته، فتراجعوا عن أكثر ما كتبوه، وبعضهم عن جميعه، وكتبهم كبيرة موجودة في المكتبات اليوم، تراجعوا عنها بسطر أو أسطُر، معناها أنّ الطريق كلّه خاطئ (ص: ١٨٤ – ١٨٦). [ التفكير في شهوات النفس ] وذلك أن كثرة التفكير في شهوات النفس مثير لها، ومهيج لحرارتها، وكلما كثر التفكير بشهوات النفس سيطرت على العقل ولو كان عالمًا عارفًا، حتى يغيب عن الاختيار. (ص: ١٨٧). [ التفكير بين أمرين تميل النفس إلى أحدهما ] والنفس إذا مُكّنت من التفكير في شيئين تشتهي بقوةٍ أحدهما، فإن طول التفكير لا يزيدها إلا ميلًا إلى ترجيح ما تشتهي، والوليد بن المغيرة كانت نفسه ميّالة إلى شهوة الجاه والأنفة وعدم التبعية، ولما سمع القرآن تفكّر فيه وأطال، ولم يكن ذلك بعقل متجرد منه بلا سطوة النفس، فما زاده طول تأمله وفكره إلا عنادًا، وخرج بنتيجة ظالمةً لا تمحّص رأيه؛ وإنّما تحقق شهوته؛ ولذا قال الله عنه واصفًا تفكيره الطويل: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ • فَقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ • ثُمَّ قُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ • ثُمَّ نَظَرَ • ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ وكانت نتيجة طول تفكيره ﴿ ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ • فَقالَ إِن هذا إِلّا سِحرٌ يُؤثَرُ﴾. وحقيقة الأمر لا يحتاج لطول تفكير لوضوحه، ولو استسلم وانقاد لإعجاز الوحي من أوّل الأمر، ولم يمكّن للنفس بطول التفكير أن تؤصل فيه ما تهوى حتى غلبته، لوصل إلى الصواب. (ص: ١٩٠). [ سياسة النفس حتى تختار ما تكره ] فحريّة الاختيار مؤثرة في الأفعال حتى في الأشياء المكروهة، فإبراهيم الخليل – عليه السلام – لما أمره الله أن يذبح ابنه، عرض الأمر على ابنه؛ ليكون باختياره: ﴿ يا بُنَيَّ إِنّي أَرى فِي المَنامِ أَنّي أَذبَحُكَ فَانظُر ماذا تَرى﴾. يشاوره ويستأذنه في أمر حتمي الامتثال، وهذا من سياسة إبراهيم لنفس ولده، مع علمه بأنه لن يؤثر ذلك في قناعة عقله بامتثال الأمر، ولكن حتى لا يكون لنفسه سطوة عليه فتؤذيه ولا يملكها. (ص: ١٩٣).*** انتهى بحمد الله تعالى ***
(المصدر: صيد الفوائد)