بقلم د. مهنا الحبيل
إعادة طرح المشروع الفكري الإسلامي الجديد يحتاج أسئلة تحضير لدخول عهد اليقظة الثقافي للعقل المسلم المعاصر، بعد رحلة اختطاف صعبة أو مساحة تجاذب شرسة، أو اضطراب في سلوك التفكير الإسلامي، وبعد هيمنة الحزبية الدعوية والصحوة الخليجية التي ساعدت الخصم المستبد والدولي على إسقاطهم وإسقاط بيئاتهم، وأضرت بالإسلاميين كثيرا في مسار العقل الإسلامي المعاصر، وإن كانت لها إيجابيات كبرى في مسار التحرير الفكري الأول، قبل الإغراق في البناء التنظيمي وصراعاته.
وتحتاج هذه البنية الجديدة إلى جملة من الملفات المهمة التي تفكك واقع أزمة التفكير الديني وخاصة في المنطقة العربية، وبعض الثوابت المزيفة التي كُرست في خطاب الدعوة، وهي قضايا منظورة تحت المجهر لا يسلّم لها بقدسية ولا عصمة، ومن أهمها قضية الموقف من تاريخ المسلمين، وإن كان الخطاب الدعوي يكرر على استحياء أن تاريخ المسلمين ليس حجة، لكن سرعان ما يُستدعى هذا التاريخ في فصول متعددة للاستشهاد به على نصوص الشريعة.
أين يستدعى؟ يتم ذلك في مواقف وتحريرات مخالفة لثوابت النص القطعية، أو جملة مفاهيم الرسالة الإسلامية الخالدة لحياة الانسان والعدالة الاجتماعية، بل إن هذا التاريخ ذاته يُستخدم دعويا بأنه دلالة شرعية على صحة الصراع، وتصفية المذاهب والمدارس الفكرية السنية وشخصياتها، فضلا عن الطوائف والاتجاهات الثقافية، وحقوق تفكيرها الذاتية أو مساهماتها الإنسانية المشتركة، كجزء من أمة الشرق الإسلامي، وشركاء الأرض والتاريخ.
ولتنظيم الفكرة بوضوح يجدر بنا أن نُسجلها في العناصر التالية:
– أوضح النص الشرعي أن الأمة ستعيش أحداثا كارثية، لأنّها خالفت العهود الربانية وخاصة في العدالة الراشدة التي جاء التنصيص عليها بتواتر متفق مع ثوابت العدل في الكتاب العزيز.
2- وفي نص الشارع وما ورد عن النبي عليه السلام بشأن حوادث الدهر وانحرافات المسلمين، دلالة مهمة لإبطال الحجة بأي تاريخ للمسلمين انحرفوا فيه عن جادة الحق، فهو انحراف وليس حُجة على الشريعة، وإنما هي أحداث زيغ لكونها تناقض مفاهيم الرسالة التي بُعث بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
– ويجدر التنبيه على ما فعله صراع المذاهب والتوظيفات الأيديولوجية القديمة والحديثة، والتي تتخذ تحذيرات النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتواتر فهمه من السلف من صحابة وغيرهم بتطفيف خطير للتدليل على صحة منابذتها وتضييقها على المسلمين في مسالك الفقه أو فهم الحياة الإنسانية، وقلب معيار البحث من الأصول إلى فروع فهومهم.
وهنا يُنزّل مقام الشريعة من مدار فهم الفروع الفقهية بناء على أصول المفاهيم الكبرى للرسالة، فيُعكس تماما، وتجمع فروع فقهية متعددة السياقات، وبعضها قام على نزوات صراع ويجعل منها أصول تتعسف لتأويلات النص الشرعي بناء على حربها المذهبية المسيسة.
ويقاس على ذلك الدعوة الباطلة، والتي طَبقّتُ مراجعة مفاهيمها شخصيا، في مراحل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد في السُنة، ومن ذلك زعم أن المقاتلة شريعة التعامل مع غير المسلمين، أو منابذتهم ومحاصرتهم إنسانيا وهذا افتراء ضخم، اتخذ آيات قتال الباغي الظالم من معسكر الكافرين، شريعة عمّم بها علاقة المسلمين مع البشرية.
4- هنا يأتي دور الاستدلال الغريب، في استعادة تاريخ ممارسات لحكام أو علماء من المسلمين عاشوا حالات صراع شخصية أو فقهية فئوية، وبغوا أو بالغوا في ردهم، ثم تُجعل رديفا للنص الديني، فانظر كيف يُصنع عقل الفرد المسلم من هذه الكارثة التثقيفية.
5- وحين نؤكد هذا الأمر، وبأن الشارع أرسل للأمة والإنسانية مدار هديها وسلامتها وخلق بيئة تعايشها، كما قرر مواجهة التعدي وبأس الردع للمعتدين، فهو أوجد قاعدة توازن لطبيعة النفس البشرية التي هو أعرف بها.
ثم كان العدل ميزان الأمر وقسطاطه، ولنقاء فكر الرسالة حذرت من حوادث التاريخ وما تجره على المسلمين، وأن الدين الحق في كل عهد ميثاقه المتين وهو حرية الإنسان وضمان نجاته لحياة ناجحة سرمدية، فإن أبى فاته هذا الحصاد، وشرّع له حقه القانوني، إلا من بغى واعتدى على رسالة الإنقاذ بسلاحه.
6- فكيف نفهم هذا المدار التاريخي؟ الفهم هنا يقول بصراحة إن الإسلام ليس مسؤولا عن بغي بعض تاريخ أهله، بل يحذر منه ليبقى صفاء الرسالة للبشرية.
7- المسألة الأخرى أن هذا الاهتمام الكبير بتحذير المسلمين من تاريخهم القادم، يُعطي مؤشرا لدلالات الإعجاز، وأن التعبد للأمة المحمدية هو عبر النص وتراتبية فهمه، وأن الشارع الحكيم قد علم بغي المسلمين قبل أن يأتي زمانه، كما علم بغي غيرهم ووضع الميزان.
ولننتبه هنا من مسألة الإعجاز الأخرى، وهي أن الشارع لم يقل للمسلمين ستنعمون بنصركم على بغاة الكافرين ويطول عهدكم، وكأنها مكسب تجاري أو فئوي.. كلا، إنما قرر لهم في بلاغ لا يَخشى أن يقال عليه، أهذا هو عهد المسلمين؟
نعم هو عهدهم لو تخلوا عن قواعد التشريع الكبرى ومفاهيم العدالة، الشارع لا يُجامل، ويُصارح المسلم وغيره ليذكره أن الرسالة ليست غنيمة لقومية ولا جغرافيا، وإنما بلاغ هداية واستخلاف لكل البشرية، ولا عبرة بالبغي حتى ولو كان في صدر تاريخ الأمة الإسلامية.
8- وهنا نؤكد على حقائق موازية مهمة وهي أن هذا التاريخ ليس كومة سيئات كما يظن البعض ففيه وفيه، كما أن العسكرة السياسية للاستبداد لخدمة التوريث أو صراعات الأيديولوجيا كانت مساحة ضمن التاريخ، يجب ألا تُسقِط الكم الهائل من الإنتاج الفكري والإنساني الثقافي لتاريخ المسلمين غير السياسي.
9- كما أن هذه الرومانسية والهزيمة النفسية التي تُهيمن على عقول بعض الباحثين في مراجعة وقراءة تاريخ الأمم هي أيضا تعيش أزمة ردة فعل، لم تستطع الخروج منها، فتاريخ الأمم الأخرى فيها من الحروب، وإفناء الأمم والخلائق ما تضج به الكتب ويسد كل أفق من بشاعتها.
10- المسألة الأخرى تطور علوم البشرية والأمم ونهضتها لها مدار تاريخي نسبي مهم، يُقرأ به كل عهد، ولا يُقرأ تطور ذلك العهد بمعايير ما بعده بقرون، بل بمعايير زمنه، وما بني عليه في العهود التالية.
11- أمرٌ آخر مهم، يتعلق بمعادلة الردع بين الحكم والتمرد، إذا كان التمرد تعصبا لأيديولوجية وليس فكرا أو كفاحا إصلاحيا يُمنح القتيل فيه أجر حمزة الشهيد، فهي غالبا حروب مصالح شرسة فيها ما يبرر بعضه للحكم إن قُرئ كاستقرار مدني لصالح أي مجتمع، وفيها ما يدين الحكم أو التمرد.. فهل تمرد القرامطة على سبيل المثال وقتل الناس في حجهم وردم بئر زمزم بهم، فضلا عن التقديس التأليهي، سوى نموذج مما يفعله التمرد المتوحش.
ولذلك فإن الموقف من التاريخ في إعادة وعي المسلم المعاصر، يحتاج لهذه الروح والثقة برسالته التي لا تمر عبر أفعال سلاطين أو حكام جور، أو جماعات صراع مذهبية أفنت بعضها بعضا، وإنما عبر قناعته بأن هذه صور مرضية يستفاد منها لتجنبها، كما يستفاد من مواقف رائعة راشدة هي من تمثل حسن التخلق بالرسالة الإسلامية، فالتاريخ أحداث يفعلها الناس وتسجل لهم أو عليهم، أما الشريعة فهي مقتضيات الرسالة والعدالة السماوية.
المصدر: الجزيرة نت.