الفقيه الحائر والمثقف التائه في زمن الحداثة
لابقلم إبراهيم البيومي غانم
يختلف زمن التقليد القديم اختلافًا جذريًا عن الزمن المعاصر للحداثة، ويختلف بأقصى درجات الاختلاف عن زمن ما بعد الحداثة. وهنا مناقشة لأحوال الفقيه الحائر والمثقف التائه في زمن الحداثة، ونرجئ القول في أحوال ما بعد الحداثة إلى وقت آخر.
إن الفقيه القديم الذي عاش في أزمنة ما قبل الحداثة كان راسخًا في علمه، ومستقرًا في محيطه الاجتماعي ومؤثرًا فيه بشكل إيجابي في أغلب الأحيان، ولكن اقتحام زمن الحداثة لمجتمعاتنا قد أحال هذا الفقيه إلى ذمة التاريخ، وحلَّ محله فقيه مختلف يعيش هذا الزمن المعاصر منذ مائتي سنة تقريبًا، وتتملكه الحيرة من كل جانب. وبافتراض أن الفقيه القديم لا يزال موجودًا في هذا الزمن ولو في دوائر محدودة ومحددة، فإنه في الأغلب الأعم قد بات غير قادر على التأثير في مجتمعه، بل غير قادر على الاحتفاظ بأرضيته الاجتماعية التى كانت له، واضحة يخسرها بالتدريج لصالح غريمه الحداثي الذي بات يحمل اسم المثقف منذ قرن ونصف القرن فقط. ومن أسفٍ أن هذا هو ما حدث بالفعل. وأصبح التزاحم في الواقع بين قطبين يمثل أحدهما فقيه حائر، ويمثل الآخر مثقف تائه ومشدود الوثاق بمرجعية فكرية مستوردة، ويكاد يكون في رؤيته للحياة منبت الصلة بقيم مجتمعه ومقاصده في الحياة.
والفكرة الأساسية هنا هي أن تحديات التحديث ومفارقات الحداثة بمفهومها الأوروبي التنويري المنقولة إلى مجتمعاتنا الإسلامية، كانت تقتضي فتح جسور التواصل بين الفقيه التقليدي الحائر والمثقف الحداثي التائه، بل بين علم الفقه بكل مشتملاته، وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية بكل حمولتها، ولكن لم يحدث شيء من هذا، وخسر كل من الفقيه والمثقف معًا، وخسرهما المجتمع، وكانت خسارته هي الأفدح بلا جدال لأنها حاصل خسارتهما معًا.
إن المثقفَ الحداثي هو ابن العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة. وشرط اكتساب هذا المثقف للحداثة هو إيمانه بالقطيعة مع الثقافة التقليدية القديمة والموروثة. وقد تكفَّلت العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة التي وفدت إلى بلادنا بإنجاز هذه القطيعة المعرفية. وتشير نشأة هذه العلوم في بلادنا إلى أنها نبتت منفصلة عن العلوم الشرعية الموروثة بمفاهيمها، وغريبة عن منهجيات البحث في قضاياها، وعن آليات النظر في مسائلها، وحتى عن غاياتها ومقاصدها العامة.
إن التراجع الكبير لتأثير الفقه والفقيه في الزمن المعاصر، كان من المفترض أن يؤدي لظهور موجة قوية من البحوث المتعمقة لإيجاد معالجة جادة لأزمة الفقه الإسلامي وفقهائه من منظور العلوم الاجتماعية، ولكن هذا لم يحدث.
وقد بات من المؤكد أن اللا وظيفية هي أنسب كلمة لوصف أغلب العلوم الاجتماعية الحديثة في بلادنا، كما أن اللا فاعلية هي أنسب كلمة تصف أغلب العلوم الشرعية الموروثة بما في ذلك الفقه الذي يمثل في نظرنا المقابل الموضوعي لعلم الاجتماع بمعناه الحديث. وكانت نتيجة ذلك هي ما نراه من تمزق في صفوف الجماعة العلمية في مجتمعاتنا: بين حامل علم فقهي يشعر بالحيرة طوال الوقت ولا قدرة لديه على الاجتهاد، وحامل علم اجتماعي تائه طول الوقت ولا قدرة لديه على التأثير في الواقع أو اختراق الثقافة السائدة لدى السواد الأعظم من أبناء المجتمع. الأول يقلد السَّلف ويحاول استعادة النمط التاريخي لحياتهم ووضعه في الحاضر، والثاني يقلد الخواجات ويحاول نقل نمط حياتهم إلى هذا الحاضر؛ وكلاهما يشعر في قرارة نفسه أنه دون قدرة على المشاركة في التغيير الإيجابي للواقع الاجتماعي.
الحل الذي أقترحه لهذه المعضلة هو: وجوب الجمع بين الاثنين ضمن رؤية ذات مرجعية معرفية واحدة، مع القبول باجتهادات متعددة تحت هذه المرجعية، ليس فقط لرأب الصدع بينهما؛ وإنما لتهيئة أرضية صلبة لتكوين جماعة علمية تستثمر منهجيات العلوم الاجتماعية المتطورة في البحث الفقهي، وتحتكم إلى قيم وثوابت العلوم الشرعية في المسائل الاجتماعية والإنسانية. وساعتها سيكون لدينا علماء من الفقهاء والمثقفين، بإمكانهم الإسهام بفاعلية في حل مشكلات المجتمع والتغلب على أزماته وتمكينه من التقدم للأمام بقوة وثبات.
إن التراجع الكبير لتأثير الفقه والفقيه في الزمن المعاصر، وتلاشي دوره في قيادة التغير الاجتماعي وتحسين جودة الحياة للسواد الأعظم من الناس؛ هذا التراجع كان من المفترض أن يؤدي إلى ظهور موجة قوية من البحوث المتعمقة لإيجاد معالجة جادة لأزمة الفقه الإسلامي وفقهائه من منظور العلوم الاجتماعية ومنهجياتها، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث حتى اليوم. بل إن المفاهيم الأساسية في هذه الإشكالية لا تزال ملتبسة وغير واضحة لأغلب أطرافها.
وفي هذا السياق ثمة أهمية معرفية كبيرة لتحديد مدلول مفهوم الحداثة ومفهوم التحديث ولو بإيجاز. فالحداثة هي: رؤية جديدة للعلاقة بين الماضي والحاضر، والمجتمع والعصر، والثابت والمتحول. هي رؤية جديدة للعالم؛ أي أن ميدان عملها الأساسي هو البنيات العقلية والوجدانية. أما مفهوم التحديث فهو: عملية اقتباس تقنيات جديدة في هذا المجال أو ذاك، وهي عملية غير محايدة ثقافيًا، كانت هكذا، ولا تزال كذلك. والميدان الأساسي لهذه العملية هو البنيات المادية والمؤسسات والنظم الإدارية والمرافق الخدمية المختلفة.
وإذا كانت الثقافة في أحد تعريفاتها عبارة عن رؤية عامة، وطريقة نظر للحياة، وحالة فكرية تشمل المجمتع كله (مع بعض التباينات)، أو هي إجابة على سؤال مركزي هو: لماذا نعيش؟ إذا كانت الثقافة كذلك، وهي في رأينا كذلك، فعلى الفقيه ألا يطابقها مع الحداثة المرتبطة بتجربة المجتمعات الأوروبية/ الغربية، وبما أجابت به على ذلك السؤال المركزي: لماذا نعيش.
خطر الثقافة الحداثية أنها لا تبني مثقفًا تائهًا فقط في بلادنا، وإنما تسهم أيضًا في تعيق حيرة الفقيه التقليدي وتشوش رؤيته؛ إذ إن هذه الثقافة مبنية على تصور يرى الإنسان أداةً في الحاضر والمستقبل.
ومن أسف أننا نرى بعض الفقهاء الحائرين يتمالحون بانتمائهم للثقافة الحداثية، حتى إن منهم من يدعي أنه يعرفها ويعرف لغاتها الرئيسية وآدابها، والحقيقة أنه يسمع عنها وينبهر بها دون أن يفقهها. إن سؤال الثقافة ليست له إجابة واحدة هي ما تقدمه الحداثة بمرجعيتها التنويرية الأوروبية، والتي لا تنفك عنها عملية التحديث، مهما حرصنا وكررنا التأكيد أن التحديث يُعنى بالجواب على سؤال مركزي هو: كيف نعيش؟
وبرؤية مقارنة يتضح الفرق بين الحداثة والتحديث والثقافة. فالتصور الأمريكي مثلًا يقزمُ الحداثة إلى مستوى الصراع بين ثقافة حديثة يحملها الأمريكيون تحديدًا، ويبشرون العالم بها من جهة، وثقافات تقليدية ومتخلفة تتبناها شعوب الحضارات الأخرى. ومعنى هذا أن التصور الفلسفي الأمريكي يختزل الحداثة إلى الجانب الأداتي التقني للتواصل بين الجماعات والأفراد. وطبقًا لهذا التصور وبتطبيقه يتبين: أنك إذا نقلت منتجات التقدم وأدواته؛ فأنت في نظرهم إنسان حداثي! وإذا عجزت عن ذلك، أو رفضته، فأنت إنسان متخلف وتقليدي، وقد لا تستحق الحياة. وهذا ما لا نجده في التصور الفرنسي مثلًا. فالتصور الفلسفي الفرنسي يرى أن الحداثة هي نقطة افتراضية يتمكن عندها المجتمع من ممارسة تصوره لذاته على أرض الواقع، ويؤكد السعي لحل مشاكله عن طريق رؤية سياسية أساسها التفكير العقلاني الرشيد. وليست الثقافة في التصور الفرنسي مجرد مجموعة علاقات يغيب فيها البعد السياسي للإنسان لتجعله نتاج تجاذبات قوى السوق وآليات الاتصال والهيمنة التكنولوجية التي يركز عليها التصور الأمريكي.
وثمة قاسم مشترك بين مختلف الرؤى الحداثية الغربية للثقافة، وهو أنها مبنية على القطيعة مع التصور الغيبي الديني، ومع الثقافة التقليدية التي ينتمي إليها الفقيه الإسلامي ولا يستطيع التنكر لها، وعليه يقع عبء السعي ليكون المجتمع أقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة وأحكامها.
خطر الثقافة الحداثية أنها لا تبني مثقفًا تائهًا فقط في بلادنا، وإنما تسهم أيضًا في تعيق حيرة الفقيه التقليدي وتشوش رؤيته؛ إذ إن هذه الثقافة الحديثة مبنية على تصور يرى الإنسان أداةً في الحاضر والمستقبل. وتقوم هذه الثقافة أيضًا على أن كل شيء يجب أن يتم تجاوزه، بحجة أن كل تحقق للشيء يجعله يدخل في الماضي الذي ترفضه الحداثة ولا تتوقف عنده. وهذه الثقافة على هذا النحو تمثلُ تحديًا بالغ الخطورة على الفقيه الحائر في هذا الزمن المعاصر الذي لا يزال متشبثًا بمناهجه التقليدية في البحث والنظر، ولم يتكمن في الوقت عينه من تجاوز حيرته.
إن الثقافة الحداثية هي ثقافة غير ثابتة وغير مستقرة، تريد تحقق الشيء وتجاوزه في الوقت عينه، ولذلك هي سوف تعيد صياغة رؤية المنتمين إليها للزمان والمكان بطريقة أفقية تطورية مما يكرس ثقافة ملاحقة الزمان الذي لا يتوقف، ومحاولة الهيمنة على المكان كله دون جدوى. ويتجلى هذا المعنى اليوم في احتدام الصراعات العسكرية والحروب الاقتصادية، وتسارع عملية الاستهلاك، حيث تغزو المنتجات المادية الاستهلاكية كل مكان في العالم، وفي وقت واحد تقريبًا. وفي اللحظة نفسها تدخل مواد أخرى إلى السوق في سباق مطرد لا آخر له.
وإذا كانت الثقافة هي نتاج لفعل الإنسان في الأرض، وكان هذا النتاج متأتٍ من تصوراته واعتقاداته، فإن الحداثة هي مرحلة معينة، ظهرت في مكان معين، وهي تعطي تصورًا خاصًا لثقافة موجودة. ونتاج هذه الثقافة الحداثية أنها تضع تحديًا أمام الثقافات الأخرى، وعليها أن تجيب عليه عن طريق تكييف ذاتها أو عن طريق الاقتباس، أو التفاعل، أو الرفض، أو غير ذلك من ردود الأفعال، على نحو ما حصل في بلادنا خلال القرنين الماضيين.
بمعايير المثقف الحداثي التائه في بلادنا، توجد حداثة واحدة، ومن ثم ثقافة واحدة. وهذه هي نقطة الفراق الكبرى بين المثقف التائه والفقيه الحائر، حتى ولو كان هذا الفقيه مستجمعًا لشروط الاجتهاد وقادرًا عليه، وحتى لو كان خبيرًا بشئون قومه ومطلعًا على أحوال زمانه كما قال المالكية قديمًا.
(المصدر: موقع “إضاءات”)