مقالاتمقالات مختارة

الفقه الحضاري … الحلقة المفقودة في مشاريع النهضة

الفقه الحضاري … الحلقة المفقودة في مشاريع النهضة

بقلم د. مسفر القحطاني

هناك تسابق محموم نحو تحقيق أعلى معايير التنمية المستدامة في منطقتنا العربية وفي دول كثيرة حول العالم، باعتبار أن النهوض التنموي دولاب لا يتوقف عن الصعود، وتوقف هذا الدولاب لا يعني البقاء الآمن والجمود على الموجود؛ بل هو التراجع والنكوص نحو حضيض التخلف، الذي لم يعد مكاناً واجماً من البؤس والعوز، فقد أصبحت بيئة التخلف اليوم المكان الأكثر خطورة على الاستقرار والمحفّز المثير لإشعال الفتن والثورات المدمرة.

وهذا ما جعل العناية بالتقدم الاقتصادي تحتل أولوية العمل والجهد لدى كل حكومات العالم، لأن الرفاه والرخاء التنموي والمجتمعي سيجلبان الأمن والاستقرار النفسي والمادي، وأي توتر مهما كان حجمه؛ قد يصيب هذا النمو، فإن منظومة معقدة ومتشابكة من المصالح المعولمة ستختل لهذا التوتر ولو كان عرضيا. المقصود من هذه المقدمة أن أطرح سؤالاً وأحاول الإجابة عنه، والمتعلق بالعوامل الأخرى للنهوض، هل لها أهمية وأولوية؛ أم يُكتفى بالرفاه الاقتصادي كعلاج سحري لكل الأزمات المجتمعية؟ ولأجل مناقشة هذه القضية نحتاج إلى استلهام خبرة وبحث مؤرخي الحضارة المعاصرين وفلاسفتها، وغالب من كتب في هذا الموضوع من أولئك المفكرين كانوا يسلطون الضوء على الأماكن الخافتة والزوايا غير المرئية التي تخفى على كثير من صنّاع المال ولا تلاحظها استديوات الإعلام المعاصر، فمؤرخ الحضارة ول ديورانت حصر عوامل النهوض في أربعة، اثنين منها يعودان إلى الطبيعة هما: العامل الجيولوجي والعامل الجغرافي، واثنين يعودان للإنسان هما: العامل الاقتصادي والعامل النفسي المتمثل في الأمن والأخلاق و وحدة اللغة. (انظر: قصة الحضارة، تحقيق زكي نجيب محمود،طبعة دار الجيل والمنظمة العربية للثقافة والعلوم، 1/3-7)، بينما لخص ارنولد توينبي عوامل التحضر في عامل أساسي وهو عامل التحدي والاستجابة فالإنسان إذا تعرض لتحد من الطبيعة أو من إنسان آخر، فاستجابته الطبيعية لهذا التحدي ستؤدي للنمو والتغيير نحو الأفضل (انظر: فقه التحضر،عبدالمجيد النجار،طبعة دار الغرب، ط1، 1999م، ص25)، ويرى مالك بن نبي أن عوامل التحضر أربعة: الأفكار والإنسان والتراب والزمن، ثم ركّز على الأفكار باعتبارها الباعث الفاعل للعوامل الثلاثة الأخرى، وجعل جوهر الأفكار ما كان منبعثاً من عقيدة دينية، يقول: «الحضارة لا تنبعث كما هو ملاحظ إلا بالعقيدة الدينية وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها» (انظر: شروط النهضة، ترجمة عبدالصبور شاهين، طبعة دار الفكر،1986،ص 65-72).

وبالنظر في ما سبق قوله وما أكدته الكثير من الدراسات التاريخية؛ فإن العامل الفكري أو ما نسميه قيم النهضة والحضارة، كان له دور الرافعة التنموية في شكل كبير ومؤثر، ولو لم يظهر دوره في العلن، وأمام هذه النتيجة، أحاول البرهنة على صحته في المسائل الآتية:

أولاً: النهضة والتنمية الاقتصادية شأن مادي، ومعايير تحققهما تظهر في العلن كأشياء محسوسة، كتحسن في الخدمات وزيادة في الرواتب وتوافر الحاجات السكنية والمعيشية من دون عناء وزحام، فالتعلق حينئذ سيتجه نحو الأسباب المادية التي ستثمر نتائج مادية في أرض الواقع، وهذا هو المطلوب، وهذه النظرة المادية غلبت على الفكر الإداري والاقتصادي قديماً، أما اليوم فإن هناك عودة الى ما قرره فلاسفة الحضارة السالف ذكرهم، من أهمية القيم والأفكار في تحقق النهوض والتحضر المنشود، فقد أشارت مجلة هارفرد بزنس ريفيو- النسخة العربية- إلى دراسة ذكرها رون كاروتشي في مقال له نشر 12 حزيران (يونيو) 2017م؛ وهي دراسة شاملة أجريت على ألف شركة من الشركات المدرجة على قائمة «أفضل أماكن العمل» تبين وجود علاقة قوية بين أداء الشركة القوي ومدى إيمان الموظفين بأن شركتهم تطبق القيم التي تدّعي تبنيها، ففكرة أن تضع الشركة عددا من القيم في موقعها على الانترنت أو في واجهة المدخل لتجميل الشركة، بات أمرا مرفوضا، إذا أصبحت شعارات فارغة، والأسوأ أنها ستؤدي إلى انعدام الثقة والضعف المتدرج نحو الانهيار. (انظر : https://hbrarabic.com/إساءة-استخدام-قيم-الشركات). فالشركات اليوم تسعى بشكل جاد لأن تنفذ التزاماتها القيمية وتطبقها في الواقع؛ لأنها محك البقاء أو العدم، وهذا المطلب ليس خاصاً بشركة أو منظمة ربحية؛ بل كل خطط التنمية الحكومية يجب أن تجعله نصب عينيها تحقيقا لا تجميلاً.

ثانياً: ما هي طبيعة القيم التي يجب أن تتبناها الخطط والمشاريع التنموية والنهضوية؟ وهذا سؤال مهم جدا لأنه يبحث في العلاقة النفسية الدافعة للعمل عند الفرد- فهو حجر الزاوية- والعلاقة الإنتاجية المتمثلة في مجالات التنمية المختلفة، وهذه العلاقة الباعثة للعمل والنهوض هي التي أشار إليها توينبي ومالك بن نبي وغيرهم في دور العقيدة الدينية المحفزة للانطلاق. ليس ذلك فحسب؛ بل إن النهضة المنطلقة من قيم المجتمع هي منتج مقدس يحافظ عليه الفرد من دون إملاء أو إخضاع لأنه متولد من مقدس لديه، فالثقافة والدين وأخلاق المجتمع، هي قيم التحضر وبها تكمن قوة مشروع النهوض واستمراره، فماكس فيبر سبق في بيان الدور العظيم الذي صنعته الاخلاق البروتستانتية في التقدم الرأسمالي الذي شهدته بعض مناطق أوروبا بعد القرن السابع عشر وأحدثت نهضة صناعية لم تسبق في تاريخ أوروبا والعالم، ولا يمكن أن نغفل دور أخلاق الساموراي الباعثة لدى الياباني قيمة تجويد عمله والانسجام مع روح الفريق وتحطيم الأنانية في الفرد، ولا تكاد توجد أمة كان لها شأن حضاري إلا وهناك منظومة قيمية مقدسة يحترمها الجميع من دون تردد. ومجتمعاتنا العربية والإسلامية تحتاج في مشروعاتها للنهوض لأن تتصالح مع قيمها الدينية والثقافية وترفع من شأنها وتعتز بهويتها، فالخرافات والتحريفات والأساطير التي هيمنت ولا تزال على ديانات وثقافات عالمية ومنها استلهموا قيمهم الحضارية؛ لم تكن عائقا للتقدم؛ لأن احترام الفرد العميق لها هو جذر التحضر الرشيد، وهو ما تفتقده بعض مجتمعاتنا ونخبنا الاقتصادية المعادية لقيمها وثقافتها الدينية؛ على رغم كل التبعية العوراء التي تُظهرها للنماذج الأقل عنها.

ثالثا: فقه الحضارة، كمصطلح مستعمل في هذا المقال، مقصودٌ بعينه، لأن الحضارة المطلوبة في مجتمعاتنا المعاصرة، هي قوانين وإجراءات إدارية، وإدخال الفقه هنا وربطه بالحضارة يعني تداخل الفقه الشرعي مع نُظم إدارة المال والأعمال المتنوعة، والفقه في هذا الباب ليست غالبيته عقائد غيبية تتطلب التسليم والانقياد؛ بل جلها أخلاق إرشادية نحو الصحيح من الأفعال والأقوال، فالفقه الحضاري لا يخرج عن دائرة القيم الحضارية للإسلام؛ مثل العناية بالكرامة الإنسانية، والانفاق المعتدل، والأمانة والصدق في التعامل، والصبر والإصرار على العمل، والاتقان والتجويد في الصناعة والزراعة والبناء وغيرها. وهذا الفقه ميزته التشريعية أنه يتحول آليات عمل إجرائية من خلال التكليف بها من باب الوجوب أو الندب أو الكراهة أو التحريم أو الاباحة، ومن ثمَّ تصبح تلك الإجراءات مع التعبد بالعمل بها؛ منظومة قانونية وقيمية في آنٍ واحد. وقد سبق في التشريعات القانونية استعمال الفقه الدستوري والفقه السياسي والفقه الجنائي كإطار عام لأحكام وقيم وإجراءات منتظمة في سياق واحد. والفقه الحضاري؛ مع ضرورته المعاصرة، لم يأخذ نصيبه من الاهتمام من وجهة نظري.

رابعاً: وبناءً على ما سبق من اهتمام بالفقه الحضاري استلهمته بعض التجارب الحضارية في العالم، فإن النخب المفكرة والعاملة في تطوير أنموذج حضاري للنهوض تحتاج إلى أن تصوغ قيمها الحضارية بشكل أدق وأوضح، بناءً على ثقافتها التي تنتمي إليها والمستقبل الذي تتطلع من خلاله لتحقيقها، فالقانون مهما كانت هيبته لا يستقيم في الواقع إلا في بيئة قيمية تدرك أهمية الالتزام والاحترام والحاجة للقانون، وقد ربط ذلك جان جاك روسو بمثال بطرس الأكبر الذي أراد أن يستعجل المدنية بإصدار القوانين حتى يحاكي الانكليز والالمان، ولكنه فشل، يعلّق روسو: «لقد كان بطرس عبقريا في المحاكاة، ومعدوما من العبقرية الحقيقية تلك التي تخلق وتصنع كل شيء من لا شيء، فبعض الأمور ما صنع بطرس كان حسنا؛ بينما كان أكثرها في غير موضعه، لقد نظر كيف كان شعبه (الروس) همجيا، ولم ينظر كيف لم يكن ناضجا مهيأ للمدنية» (انظر: في العقد الاجتماعي، ترجمة وتعليق عبدالعزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2011م، ص132)، ومثله أشار له فولتير في مقاربته للتحضر الإنكليزي وما يقابله من تخلف فرنسي في بعض الشؤون (انظر: رسائل فلسفية، ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير، ط1، 2014، مواضع كثيرة مثل 101، 33)، فالتحضر ما لم تسبقه منظومة قيمية متكاملة تنطلق من الفرد باعتبار تلك القيم مقدسا دينياً أو ثقافياً، فإن الجهود والأموال قد تذهب بلا رجعة ومعها الكثير من الحسرات، وتاريخنا الحضاري الإسلامي الذي نتباهى به، ما ظهر شأنه في العلوم والفنون والعمران إلا بعد تربية قيمية عاشها الجيل الأول مع النبي القدوة عليه الصلاة والسلام، أصبحت تلك القيم بعد ذلك شعلة متوقدة في نفوس الفاتحين لقرون عدة.

خامساً: ظهرت نماذج معاصرة استلهمت الفقه الحضاري كمشروع مواز لا يقل عن خطط التنمية الاقتصادية والإدارية، ولعل أبرز مثال ما قدمه رئيس وزراء ماليزيا عبدالله بدوي في وثيقة الإسلام الحضاري (انظر: الإسلامية الماليزية، كتب مركز المسبار للدراسات والبحوث عام 2007م) واحتوت الوثيقة على المبادئ العشرة للإسلام الحضاري، فقد كانت أهم الاعتبارات لهذا المشروع؛ تكمن في عودة الأمة إلى منابعها الأصيلة، وإعطاء الأولوية للقيم والمعاني الإسلامية الفاضلة لكي توجه الحياة وترشدها.

واليوم هناك رؤى واعدة لتنمية ناهضة بالإنسان والمجتمع غالبها يأمل بتحقيق وعوده في 2030م، وهذه الرؤى التي هي أمل الفرد بمستقبل زاهر وآمن ومستقر، في ظل محيط يغلي بالأزمات، تجعل كل الرهان الرسمي والشعبي على إنجاح هذه الرؤى، والسعي الحثيث إلى تحقيق أهدافها، ولا أظن بعد العرض السابق من براهين وتجارب موجزة أن نغفل البُعد القيمي والفقه الحضاري؛ بل نحتاج إلى تأسيس غرف عمليات لا تتوقف في توظيف القيم في التنمية، وزرع الأفكار التقدمية في وعي المجتمع، وتحصينه من الأفكار المميتة التي تحرمه التقدم وتقضي على استعداده النفسي للعمل والمبادرة، والباب الذي يجب أن ندلف منه لتحقيق هذه الغاية هو باب التعليم، وما لم يفتح هذا الباب لهذا الوعي الحضاري، وإلا فكل الجهود ما هي إلا قفز من النوافذ وحرث في مستنقعات التخلف.

(المصدر: صحيفة الحياة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى