اخترع الغرب العلماني الفن والفضائيات للتجارة والتغيير والسيطرة . ونجح إلى مدى بعيد في تحقيق هذا الهدف , لأنه كان منفرداً في الفضاء . ومع إلزام نفسه بالحرية , ولمزيد من الكسب المادي أعطى فرصة واسعة لتجارب فضائية أخرى , تطرح وجهة نظر مغايرة , وربما مضادة .
التلفزيون الرسمي في كثير من البلاد المسلمة كان موجهاً لصياغة موقف ورؤية تخدم توجه آيديولوجيا الأنظمة العلمانية , التي قفزت للسلطة بعد خروج المستعمر , وقيام الدولة الوطنية التي استثمرت الحسن الوطني لتمرير أجندة , وتصور جديد وناعم ضد الدين , أو حضوره في التداول والمشاعر بهدف ما يسمونه (تجفيف منابع الرجعية) وما سموه لاحقاً بـ (التطرف والإسلام السياسي) , وانفردوا بالوعي الجمعي عقوداً من الزمن , حيدوا فيها الدين ليكون طقساً اجتماعياً بعد أن كان أوامر إلهية منزلة من السماء لينقاد إليها البشر , وينفذوها , ويحتكموا إليها في حياتهم ومشاكلهم ومنازعاتهم وآدابهم .
ولم تمارس الشاشات العلمانية هجوماً حاداً على الشريعة وتعاليمها على نحو خشن , إنما فرضوا العلمانية كوجهة نظر أو ربما رأي فقهي , كما هو شأن الرئيس العلماني الحبيب بورقية الذي وصف نفسه بـ ( المجاهد الأكبر ) , ليضفي انطباعاً دينياً عن شخصيته , ليمرر أفكاره العلمانية بوصفها دينية اجتهادية , ويسوقها عبر الشاشة الوحيدة الموجهة إلى عقول شعبه , شأن بعض الزعامات .
الكثير من الشعوب استقر موقفها من الدين على أنه روحانيات غير ملزمة , ويمكن إعادة تفسيرها في التلفزيون الرسمي تفسيرا أحادياً لا يقبل المناقشة . وأسفر هذا التفسير العلماني الباطني إلى انقلاب حاد في تلقي الناس , وكأن العلمانية دين جاء لتصحيح الدين . ومارس السياسي العلماني حيلة أخرى لإشغال الناس عن طرح الأسئلة , وهي زجهم في غفلة العيش وطلبه , وبعضهم ضيقوا على الناس في أرزاقهم للإمعان في محاصرة اهتمامه بالدين , وصرفة إلى التكالب على الحياة وطلب الرزق .
مع الصعود الإعلامي العربي ونهوض الحس الثقافي , وازدحام الفضاء بالشاشات وصعوبة محاصرتها , اضطر السياسي العلماني إلى التكيف القسري مع هذا الوافد الذي يحمل راياً جديداً مدعوماً بحجة , يجهلها العاكفون على التليفزيون الرسمي العلماني, تصحح مفاهيمهم وتنبه غفلتهم , وما تعرضوا له من خدعة خبيثة على مدى عقود , ثم تبين لهم أن التفسير العلماني للدين أكذوبة هشة دنيئة , وأن الانفصام المرضي الذي أورثوه للشعب لن يلبث أن يشخّص ويحدد علاجه المناسب للوعي بالحقيقة الجديدة التي تزاحم الخراقة العلمانية , وتتفوق عليها وتقصيها , وترمي بها في مزبلة التاريخ .
الفضائيات أطلّت بوجوه جديدة ذات ساحة وعلم وعمق , تتحدى العلمانية الغبية , وتحاورها وتناظرها وتسحقها بالدليل العقلي أمام أنظار المتابعين لهذه الشاشات القادمة من الرأي المغيب كرهاً , وانعكس هذا على اختيار أكثر الناس للخيار الإسلامي حلّاً ومصيراً , ما أدى إلى تراجع الوحشية العلمانية , ففي تونس مثلاً اضطر ابن علي إلى تخفيف وطأة العلمانية على الحجاب , ليس بدافع الحرية , بل لشعور نظامه العلماني بالضعف أمام الشريعة التي غيبوها وحضرت رغماً عنهم .
(المصدر: موقع المثقف الجديد)