بقلم حمدي شفيق
يرى بعض الفقهاء المعاصرين أن مبدأ الفصل بين السلطات ” إن لم يكن الإسلام قد قرّره،فإنه لم يرفضه.فإذا كانت المصلحة تقضى بالأخذ به فهو واجب”.انتهى. ويقول فقيه ثان:”توزيع وظائف الدولة على هيئات مستقلة ومتخصصة،يراقب بعضها بعضاً ،لا ينافى مبادئ الفكر السياسي في الإسلام. وإذا كان المسجد قد أدى دوره -كبرلمان- يناقش فيه المسلمون أمور حياتهم، ويعرض فيه حكام المسلمين سياساتهم،فان (التنظيم) العصري القائم على استحداث برلمان منتخب،يختار الحكام ويحاسبهم، ويعزلهم إذا أخطأوا،يتفق تماماً مع مبادئ المسلمين في الحكم والسياسة”.
وأرى أن مبدأ الفصل بين السلطات كان موجوداً في النظام الإسلامي منذ العهد النبوي الشريف، وكل ما فى الأمر أنه لم يكن معروفاً بهذا الاسم تحديداً ، لكن استقلال كل سلطة من السلطات الثلاث كانت له مظاهر واضحة ، وهناك وقائع تثبت ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك. ومن ذلك الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية الذي بدأ بإسناد الرسول صلى الله عليه وسلم القضاء –تدريجياً-لبعض أصحابه ،ليفصل كل منهم فى بعض القضايا بدون تدخل من النبى صلى الله عليه وسلم ،أو الرجوع إليه بشأن إصدار الحكم . وكان هذا التدرّج ضرورياً فى بداية تكوين الدولة لتدريب الصحابة على مهام القضاء وتشجيعهم على الفصل بين المتخاصمين بالحق دون خشية الخطأ .. وهذا ظاهر تماماً فى حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه ، الذى جاءت إحدى رواياته صريحة فى أن رجلين اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم فكلّف عمرو بن العاص بالقضاء بينهما فى حضرته الشريفة.
استقلال القضاء
ثم تطوّر الأمر باتساع رقعة الدولة في عهود الخلفاء الراشدين ،فكان لابد من تفرّغ بعض الصحابة ثم التابعين لتولى وظيفة القضاء. وبذلك تم استكمال استقلال القضاء تماماً عن سلطات التنفيذ والإدارة. ويمكننا هنا أن نعرض بعض الحالات التي كلّف فيها الرسول صلى الله عليه و سلم عدداً من الصحابة بالفصل فى منازعات قضائية بشكل مستقل عنه.فقد أرسل معاذ بن جبل رضى الله عنه قاضياً على اليمن-كما في رواية أحمد وأبى داود- وعلياً بن أبى طالب على إقليم ثان باليمن أيضاً، وأبا موسى الأشعري قاضياً على إقليم ثالث. وبعد فتح مكة عيّن صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد قاضياً عليها . وعيّن قضاة آخرين في مناطق وقضايا أخرى، ومنهم عمرو بن العاص –كما تقدم-و عمرو بن حزم وحذيفة بن اليمان رضي الله عن الجميع.
وأسند الحكم في قضية يهود بني قريظة إلى سعد بن معاذ بناء على طلبهم .. والثابت أنه صلى الله عليه وسلم لم يتدخل مطلقاً، ولم يعترض على أي حكم أصدره أي منهم ، ولم يقم بتعديله فى كل تلك الحالات. وهذا أبلغ دليل على استقلال القضاء في العهد النبوي الشريف. وبعد ذلك كان من اليسير تولّيهم القضاء بشكل كامل ومنفصل عمن يشغل رئاسة الدولة أو الولاة أو الوزراء الذين يشكّلون السلطة التنفيذية في دولة الإسلام.
وقد تأكد استقلال السلطة القضائية حين تولّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه القضاء بالمدينة طوال عهد الصدّيق، ومكث سنتين كاملتين لا يأتيه أحد لندرة الخصومات فى عهد أبى بكر بسبب تقوى الصحابة وورعهم.ثم تولّى على بن أبى طالب القضاء في عهد الفاروق رضوان الله على الجميع . ولم يكن الخليفة يتدخّل مطلقاً فى عمل القضاء .
وقد حكم القاضي شريح على الفاروق عمر لصالح أعرابي في ناقة اشتراها منه، وفى عهد على بن أبى طالب حكم أيضاً لصالح يهودي ضد أمير المؤمنين رضي الله عنه، في نزاع بينهما على درع، وهذا يدل على العدل،كما يدل كذلك على استقلال القاضي عن الخليفة، بدليل أنه حكم عليه وليس له.
المصدر: موقع الأمة.