الفرد والمجتمع والثورة: خمس مقاربات سوسيولوجية في الفضاء السيبيري 2من 3
إعداد أكرم حجازي
المقاربة الرابعة: الإنسان الافتراضي
يبدو الإنسان، بفعل سطوة العلم والتحول المستمرين، هو الوجه الآخر للمجتمع. وكلاهما مجرد ظاهرة نمطية قابلة للتشكل. ففي كل نمط اجتماعي اقتصادي في التاريخ الإنساني كنا نلحظ تلازما بين الفرد والمجتمع القائم، ففي المجتمع البدائي كان يقبع إنسان الصيد الخائف والمتوحش في نفس الوقت، ثم خلَّف المجتمع الإقطاعي- الزراعي الإنسان العبد، أما في المجتمع الصناعي فكان الإنسان الميكانيكي الذي يهتم بالتراكم الرأسمالي والعلمي ويستعيض عن قوته الجسدية بقوة الآلة، أما في مجتمع الثورتين الصناعية والإدارية في خمسينات القرن العشرين فقد ظهر الإنسان المنظم، وما هي إلا بضعة سنوات بالكاد تصل إلى العقد حتى ظهر الإنسان الصناعي المبرمج ثم تلاه الإنسان التكنولوجي وما بعد التكنولوجي وها نحن في عصر الإنسان الرقمي ومجتمع المعلومات. فهل يمكن القول أن ” الإنسان الأخير” قضى على أطروحة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير“؟ أم أنه هو ذاته الإنسان الافتراضي الذي روج له؟
لعله هو ذاته. وهو كالمجتمع أحد منتجات العولمة، وها هو فوكوياما يدلل على ذلك بمقالة حديثة له يقول فيها: ” قبل 10 سنوات جادلت بأننا بلغنا “نهاية التاريخ” ولم أعلن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق” (فرانسيس فوكوياما، 2001). ولكن موقع هذا الإنسان لا تعني ماهيته حصرا فمن يكون؟
الإنسان الافتراضي هو ذاك الفرد الذي يقبع خلف جهاز الحاسوب في غرفة أو مكتب أو سيارة أو قطار أو طائرة أو مقهى انترنت متصفحا ومتجولا في أنحاء العالم والمواقع ومتواصلا مع عالم من الأفراد والجماعات والمؤسسات يفاوض ويحاور ويفتش عن المعلومات والمعرفة ويقضي احتياجاته دون أن يتحرك من مكانه. إنه بالحقيقة السيبيرية:
“ أشبه ما يكون بالبرنامج الإلكتروني، فهذا الإنسان سيأكل ويشرب ويحب ويضاجع بطريقة رقمية، وهو سيعيش في مجتمع رقمي بالكامل، وسيعيش في مدينة مفترضة هائلة الضخامة مدينة واحدة تشمل العالم كله، وهذه المدينة موجودة في الخيال فقط، وهذا الإنسان لن يضطر أنْ يذهب إلى مكاتب ليزاول عمله، ولن يضطر للذهاب لمحلات تجارية ليشتري منها ولا إلى مطاعم ليأكل بها ولا إلى سيارات ليتنقل بها ولا إلى نواد اجتماعية ليقابل أصدقاءه بها… هذا الإنسان لن يضطر للذهاب إلى أي مكان، وذلك لأنه ببساطة موجود في كل مكان …“
وسيصبح الإنسان الواقعي موضع تندر وسخرية عندما:
“سيجلس هذا الإنسان (الافتراضي) يوما ليكتب، أو يدردش مع أصدقائه ليقول، تصوروا أنّ إنسان الزمن الماضي كان يضطر للصحو في الساعة السابعة من صباح كل يوم ليذهب إلى عمله، وكان يضطر أنْ يذهب إلى ما كان يسميه بالسوق التجاري ليشتري ملابسه منها، ويضطر أنْ يذهب إلى ما كان يسمى بالمطعم ليأكل وفي المساء يذهب لمبنى يعرف بالنادي ليقابل أصدقاءه. تصوروا؟” (محمد سناجلة، www.almashreq.org) (1).
وفي واقع الأمر هذا هو الإنسان الواقعي ولكن ما يجعله الإنسان الافتراضي هو تفاعل الآخرين معه على الرغم من عدم معرفتهم به، فهو عبر تقنية الإنترنت شخصا ما مفترض وجوده بالنسبة للآخرين. فهو إذن ذلك الإنسان الذي ” يتم سحب البعد الواقعي عنه والذي يحصره في الزمان والمكان إلى بعد آخر هو البعد الافتراضي الذي يقيم فيه داخل الآلة وليس خارجها … هو الإنسان الذي يتحول الجسد فيه إلى ما يشبه النص المتشعب من خلال تواجده في الزمان والمكان” (محمد اسليم أ، مرجع سابق)(2).
تذكرنا حالة هذا الإنسان بوضعية عالم الجن وتحديدا عالم القصص القرآني خاصة قصة النبي سليمان والهدهد وعرش ملكة سبأ وقدرة عفاريت الجن على تنفيذ مهمات وتقديم خدمات عبر حوار تنافسي أساسه العلم ومفاعيله عابرة للزمان والمكان: ” قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ …{40}” ( سورة النمل). ففي هذه الآيات الكريمة يبدو أن الزمان والمكان قد توحدا تماما، وهذا ما تقر باحتمال وقوعه أحد قوانين النظرية النسبية وهي تتحدث عن السرعة المطلقة والسرعة النسبية.
أما في عالمنا الذي نفترض أنه لما يزل واقعيا بعد، وفي مقاربة من نوع مختلف، فالإنسان الافتراضي يتنقل عبر أرجاء الكرة الأرضية بسرعة الضوء بحثا عن المعلومات تماما كما هو حال الجان وهو حال يدعو للفزع مما يسميه البعض بعنف وإرهاب المعلومات (نبيل علي وآخرون، 2004)، وهي وضعية تدفع الإنسان الواقعي إلى الإمعان في التخوف من سحب كلي للواقع والتساؤل عما إذا كنا تحت تهديد تلاش تام للثقافة وحتى للهوية القومية؟ أو أننا أمام نوع من التلاشي الكوني كما يوحي به بودريار؟ أو ابتلاع رهيب للزمان كما أعلن عن ذلك بول فيريللو منذ سنوات عديدة؟ (محمد اسليم أ، مرجع سابق) لعل التساؤلات المشحونة بعاطفة الخوف الشديد باتت مشروعة كونها لا تغفل في سياق آخر التساؤل عن مصير الموجودات البشرية الحضارية التي استوجب الوصول إليها آلاف السنين فما هو مصيرها؟ هل هي المتاحف الجديدة للحضارة الإنسانية؟
إن مشكلة الإنسان الأخير تكمن في إرهاصات حضارة جديدة لعله لم يع بعد دوره وماهيته فيها ولا غايته، وهو على العكس من نهايته يبدو في معطيات الزمن القادم مجرد إنسان بدائي متماهيا إلى حد كبير مع نظيره التقليدي. فالإنسان الواقعي وهو في حالة الدفاع عن الذات غدا في موضع تساؤل عما إذا كان يسير على طريق الزوال ومن ورائه الإنسانية برمتها والتي بات البعض يبحث في مصيرها وماهيتها الجديدة في ضوء التقنية وتقدم العلوم الطبية، فهو في كل الاعتبارات والتصورات إنسان خاضع للآلة وللفعل الرقمي الذي يتيح له كل شئ وبما أن الرقمية هي لغة برمجة في واحد من مناحيها فربما يتحول الإنسان إلى كائن مُبرمَج صاغر تقوده الرقمية إلى حيث تشاء تشكيله، وهو بهذا المعنى جاهل بل غارق في الجهل مسيطَر عليه وهو ما كان قد حذر منه عالم الاجتماع الألماني هربرت ماركوز في النصف الأول من القرن20 من خلال كتابه ” الإنسان ذو البعد الواحد” حينما رأى في الإنسان القابع ساعات طوال خلف الآلة مجرد عبد لها أبعد ما يكون عن العلم بأسرار الجسد، أي الحياة ومضامينها.
المقاربة الخامسة: المجتمع الافتراضي
إن عمليات التبدل والتحول المنبتة عن كل ماضي تواترت عبر الزمان والمكان وقلبت حياة الأفراد والمجتمعات رأسا على عقب. ولما كان البعض محقا في توصيف العصر الذي نعيش فإن العلامة العربي ابن خلدون هو أجدر من يوصِّف عصرنا حين يقول: “إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث” (ابن خلدون، بدون تاريخ:31).
إذا استعرنا لغة أوجست كونت عن الكلية الاجتماعية فالمجتمع بالمحصلة هو كل الأفراد الأحياء منهم والأموات وكل إجمالي الذاكرة الاجتماعية. والكل بحسب هذا المعنى سيحشر في مبدأ الصفر – واحد وسيصير افتراضيا لا محالة وبالتالي فهو، إلى حد كبير، معرض للتلاشي الكوني. فالمجتمع الرقمي ليس مجتمعا محليا تقليديا تحدده اللغة أو الثقافة أو الأصول الإثنية أوالتضاريس الجغرافية، إنه أوسع بكثير مما يُظَن ويبدو أنه حتى اللحظة مجتمعا هلاميا مبعثرا في شتى أنحاء الأرض والفضاء السيبيري ولكنه في طريقه إلى التشكل والتقارب على نحو يجعل منه قارة سادسة مضمونها المال والتجارة والتقانة والاتصالات والاقتصاد…إلخ هذه القارة هي الحيز الافتراضي الذي ولدته الرقمية (جان كلود غيبو أ، 2000). ولأن خمس سكان الكرة الأرضية هم المعنيون فقط في المعيش الذي تفرزه سياسات العولمة (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003)، فالمجتمع/ القارة الذي يجري الحديث عنه إذن هو مجتمع الخمس هذا.
وإذا أردنا تكثيف عمليات التغير المنتظرة فلن يكون بوسعنا الحديث، في إطار الخمس، إلا عن مجتمع متخيل يسير كالإنسان بسرعة الضوء. فإذا كان الإنسان الواقعي نفسه مهددا بنوع من التلاشي فلماذا لا يكون المجتمع كذلك؟ ربما علينا التساؤل أيضا عن حاجة الإنسان الافتراضي إلى مجتمع ذو طبيعة تقليدية مكون من تشكيلات اجتماعية وثقافية وجغرافية وإنسانية؟ بل ربما علينا التساؤل عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية المنتظر صياغتها أو ولادتها في ظل إنسان حاضر في كل زمان ومكان، بل أنه متواجد في أكثر من مكان في نفس الوقت. وكذا التساؤل عما إذا كان للموجودات الاجتماعية والثقافية والمحيط الاجتماعي عنده قيمة تذكر؟
فالحواسيب والبرمجة وتقنيات الخزن والإرجاع والبحث ستوفر إمكانية نقل مختلف المنجزات الحضارية على أقراص أو توفيرها على المواقع، وحتى الطبيعة بتنوعاتها وتضاريسها وظواهرها يمكن حشوها في أدمغة الحواسيب ومشتقاتها. فقد تمكنت شركة أرشفة أمريكية www.archive.orgما بين عامي 1993-1999 من أرشفة ألف قرص إلكترونيا من سعة 15 جيجا بايت، ومع معطيات اليوم سيرتفع الحشد إلى 100 جيجا بايت (محمد اسليم أ: مرجع سابق ). وهو ما فعلته صحيفة النهار اللبنانية التي خزنت على أقراص مدمجة قرابة64 عاما من الذاكرة العربية واللبنانية وضعت في متناول الباحثين وأصحاب القرار بطريقة سهلة وسريعة (عماد بشير وآخرون، 2004: 31).
من الصعب تصور ما تخفيه القشرة الرقمية، ولكن من المدهش انتظار ما ستكون عليه الأمور بعد بضعة سنوات أو عقدين على الأكثر إذا علمنا مثلا أن أنظمة البث التفاعلي باتت تطرق الأبواب ولوحات الاستقبال والإرسال ستعلق على الجدران وفي الساحات العامة، والبنى التحتية يجري تحويلها في الكثير من مدن العالم إلى بنى رقمية لتكتسح البيوت الرقمية المجتمع الواقعي ولتغدو أنظمة الاتصالات الراهنة عما قليل في ذمة التاريخ.
وفي واقع الأمر فنحن لا نتحدث عن تلاشي الإنسان الواقعي أو المجتمع الواقعي ليحل محلهما الافتراضي، بل نتحدث عن أنماط اجتماعية واقتصادية واستهلاكية جديدة بنفس القدر الذي نتحدث فيه عن أنماط السلوك والقيم والعادات والرموز والثقافة التي سيتمتع بها الإنسان الجديد. ونتساءل عن المحتوى الحضاري والإنساني الذي سيميز شخصية الإنسان الافتراضي؟ كما نتساءل عن الوسط الاجتماعي الذي سيعيش به ونمط العلاقات التي سينسجها؟ بل أننا نتساءل عن المفاهيم الجديدة التي سيتخذها للتعبير عن كينونته في إطار الفضاء الافتراضي كمفهومه للوجود والحياة والحضارة والدين والثقافة والعلم والمعرفة والإنسان والجماعة والأسرة والمؤسسة والبنية والآخر والعدو والصديق والمكان والزمان والعمل والبطالة…إلخ؟ ترى، ألسنا بصدد اشتقاقات جديدة للغة؟ لا ريب البتة أن التساؤلات أكثر من أن تحصى، فنحن نعيش لحظة انفجار كوني جديد (New Bingbang) من المستحيل أن نقدر على استشراف آثارها.
لو عاينا قليلا ثنائية الدولة والمجتمع والآثار المترتبة على الثورة المعلوماتية فالتوجهات العالمية السائدة اليوم تقوم على مبدأ السوق المعولمة وتتجه في الوقت نفسه نحو إنشاء الحكومة الإلكترونية، وهما متغيران بنيويان سيؤديان إذا ما استمر العمل بهما على نفس الوتيرة من السرعة إلى غياب الدولة وعجز المجتمع عن التدخل والتأثير في سلطة السوق. ولا شك أن مثل هذه الأحداث ستكون كافية لاستحضار النبوءات الماركسية التي ترى أن الحاجة إلى الدولة ستختفي كلما اقتربت المجتمعات الاشتراكية من آخر مراحل تطورها، أما ليبراليا فيجري الحديث الآن عن عالم فوضوي يحكمه السوق ويقوده أصحاب المال والثروة من شتى المنابت والأصول، وهم الذين يتلاعبون بالدول والمجتمعات على حد سواء ويفرضون السياسات التي تلائم مصالحهم دون أي وازع إلا من السوق. وهو الأمر الذي أفرز ما يعرف اليوم بالعولمة. وتأسيسا على ذلك يتخوف البعض من فقدان الدول المتقدمة لرأسمالها الاجتماعي المتمثل بالرفاهية وتعدد الطبقات وأنظمة التأمينات والنقابات وسطوة المجتمع المدني بل وتعرضها إلى العنف وخطر التفكك بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003).
في أواخر السبعينات من القرن العشرين كان العالم الثالث بقيادة حركة عدم الانحياز يجهد للمطالبة بديمقراطية إعلامية من خلال الاتفاق على نظام اتصال وإعلام جديد وفضاء عادل للبث على اعتبار أن العالم بفعل تطور وسائل الإعلام أصبح قرية صغيرة ولما تزل القوى الكبرى في العالم تحتكر المعلومات (مصطفى المصمودي، 1985)، وفي عصرنا الراهن وقد اختفت هذه المطالبات إلى غير رجعة يصف لنا إدوارد لوتاك أحد الاستراتيجيين الأميركيين التحولات الجارية بالقول: ” إن السرعة المروعة التي تجري بها التحولات قد غدت صدمة لشطر عظيم من السكان” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 291 )، بينما لم يجد المهتمون بالبحث لدينا وعلى أبواب العصر الرقمي إلا نفس العبارة لتوصيف عالم اليوم وهو يصير “قرية صغيرة“! وكأن شيئا لم يتغير.
حتى تعريف المجتمع المعلوماتي كان موضوعا لإشكالية أثارها أحد الباحثين محدثا بعض اللبس والتوتر في الفهم من حيث “النشأة غير الطبيعية” لهذا المجتمع “المفاجأة” من خلال تبرير وجوده تارة بـ ” ردة فعل أمريكية ذات طابع عسكري على قيام الاتحاد السوفياتي/سابقا في عام 1957 بإرسال القمر الصناعي العسكريSputnik Space!! ” (عمر بن يونس أ، 2004: 47) مما أربك الولايات المتحدة ودفعها إلى إعادة النظر في مناهجها التربوية والعلمية والتفكير ببناء قاعدة معلومات جديدة فكانت شبكة الانترنت العسكرية أولى بواكير المجتمع المعلوماتي. أو برده تارة أخرى إلى تطور علمي هو بالضرورة طبيعي حين ” أطلق العلماء فكرة وجوده مع ظهور الحوسبة“! (عمر بن يونس أ، 2004: 50).
إن الأطروحات التي تنطلق من المجتمع المعلوماتي متصورة إياه مجرد تقنية يصعب ملاحقتها وبالتالي يصعب تعريفه باعتباره مجتمعا يتشكل بصورة لا نهائية إنما تقع في فخ الحيرة التي تخلفها التقنية الرقمية ذاتها على الدوام ولن تصل إلى نتيجة البتة، ويحضرنا في هذا السياق تعليق الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة حين يقول: “ إن التاريخ يشهد على أن أولئك الذين يعيشون في غمرة التحولات الثورية نادرا ما يفهمون المغزى النهائي لهذه التحولات ” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 74).
ودفعا للالتباس والخوف واللغط ينبغي الإقرار ببعض الحقائق المنهجية:
- أن المجتمع المعلوماتي بالنهاية ليس منبتا عن المجتمع الواقعي الذي يمثل حاضنة له فضلا عن أنه أحد ظواهره، وبالتالي فمهما اتسع الفضاء الافتراضي لهذا المجتمع ومهما كانت قوته وقدرته على اختزال المجتمع الواقعي سيظل أحد منتجاته ولن يقو على إزالته.
- · والأهم من هذا وذاك أن الحرب النفسية والمادية الشرسة والإرهابية التي تشن على شعوب العالم الثالث وحتى على الطبقات الوسطى والفقيرة في العوالم المتقدمة ينبغي أن تشكل حوافز للعلوم الإنسانية كي تتأني في رصد مثل هذه الظواهر وطمأنة المجتمعات، فأيا تكن تطورات التقنية والثورات العلمية فإن موضوع علم الاجتماع في الكثير من نظرياته هي حكما العلاقات الاجتماعية ولا شيء غيرها.
- · وهذا يعني أن التفكير في المجتمع الرقمي ينبغي ألا ينصب على المكونات والخصائص التقنية له التي هي مختلفة قطعا عن المجتمع الواقعي بل على التفاعل الاجتماعي معه وعلى السلوكيات والمواقف والآراء التي تصاحب هذا التفاعل أو تنبثق عنه. إذ أن من البديهيات البسيطة أن المجتمع الواقعي كائن وموجود ولا يمكن إلغاءه تحت أي ظرف كان، بينما المجتمع الرقمي لا يمكن له أن يتواجد في أية كينونة من دون تفاعل الأفراد والجماعات والمؤسسات مع مناهجه ومنتجاته. وعليه فإن تطوره مرهون بمدى تفاعل المجتمع الواقعي معه وتقبله له.
- · أن أي خروج “غير طبيعي“عن الحاجات البشرية أو العجز الإنساني عن مواكبة الانفجار العلمي سيعني قطعا تراجعا ليس في التقنية ولا بالتقدم العلمي بل بالتفاعل معهما، وفي ذلك يستوي الفقير والغني فردا أو دولة أو مجتمع، ولنستمع لما يقوله أومبيرتو أميللي المدير السابق لشركة فيات الإيطالية: فـ” حينما تبلغ التكاليف الاجتماعية للتكيف مع السوق العالمية حدا لا يطاق ستزدهر عقلية الانكفاء على الذات في مختلف دول العالم” (هانس بيترمارتين وهارالد شومان، 2003: 16). أما اللاهوتي الألماني الكبير كارل راهنر فيعلق على مفاعيل الرقمية وغزوات التكنولوجيا مبتعدا عنها وقانعا فيما لديه بعبارة طريفة:] ” نوافق أن نبقى” أغبياء متنبهين” و”بلهاء حاملين البراءة” يشوبنا من دون أن ندري”جهل الفقهاء”[ (جان كلود غيبو أ، 2000).
إن الفكرة القائلة بأن فهم المجتمع المعلوماتي والكشف عن ماهيته تحتاج إلى تقنيات منهجية جديدة تلائم مكوناته وخصائصه صحيحة نسبيا، ولكن ما هو الهدف الذي نسعى إليه من هذا المنحى إن لم يكن بالمحصلة تفسير الوقائع والأحداث والظواهر الناتجة عن التفاعل البشري معه حتى لو كان في الفضاء الافتراضي؟ قد يقترح البعض القول أن “الظواهر الكامنة في المجتمع المعلوماتي، وهي لم تكشف بعد، ليست ظواهر طبيعية” (عمر بن يونس أ، 2004: 75) وبالتالي تحتاج إلى تقنيات غير مألوفة. ففي هذا السياق يطرح مثلا مسألة البنية القانونية التي يتوجب عليها التوقف عند ظواهر مجتمع المعلومات بحيث تلائم المكونات البنيوية لهذا المجتمع والسلوك البشري في الوقت الذي يكون فيه الفرد في الفضاء الافتراضي وليس الواقعي. وهذه مسألة يمكن الاستجابة لها عبر التحديث المستمر للمنظومة القانونية وتفعيل فقه القضاء محليا ودوليا وتبادل الخبرات لمواجهة الظواهر الطارئة.
وحقيقة الأمر فالظواهر الكامنة في المجتمع المعلوماتي هي ظواهر صحية حتى لو نشأت في سياق التطور ولكن ما ليس صحيا هو المراهنة على الرقمية دون أن يكون للدولة أي خطط للاستفادة منها. وهنا تغدو ظاهرة فائض الوقت في العالم الرقمي إحدى أكبر وأغرب الظواهر الإنسانية على مر التاريخ. فقد كان العالم يتعامل مع المعلومة بوصفها خدمة تقدمها المصادر وبنوك المعلومات في سبيل تنمية المجتمعات وتحقيق المزيد من التقدم العلمي والرفاهية الاجتماعية، ولكن مع ظهور الحوسبة والرقمية تحولت المعلومة منذ عام 1994 إلى سلعة ذات طبيعة استهلاكية(عمر بن يونس أ، 2004: 52)، وما كان يستغرق إنجازه شهورا أو سنينا أو عقودا بات يتحقق اليوم في بضعة ثواني أو دقائق أو أيام على الأكثر، وا كانت تستوعبه البشرية من تطور تكنولوجي في أربعين عاما باتت تتفاعل معه في أربع سنوات( باسم غدير، 2003: 39)، وهذا يعني توفيرا هائلا للوقت والجهد والمال، والسؤال هو: كيف سيقع التصرف بفائض الزمن الذي بات يمثل سلعة ذات رأسمال مادي وذو قيمة هائلة؟ ففي الدول المتقدمة وبعض دول العالم الثالث كالبرازيل وماليزيا والهند يجري استثمار الزمن الفائض في تضخم واضح للثروة وسباق علمي مذهل. فهل هذا هو الحال عند العرب؟ من المؤكد أن الجواب بلا خاصة إذا عرفنا أن حجم مجمل سوق المعلوماتية العربية حسب أرقام عام 2001 يتوقف عند نحو ملياري دولار، منها 400 مليون دولار للبرامج، وهي سوق صغيرة إذا قارناها بالسوق الهولندية مثلا والتي تفوقها بأربعة أضعاف (ثورة الديجيتال www.annabaa.org).
(المصدر: رسالة بوست)