بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي
إن الناظر في الساحة العلمية للأمة الإسلامية يرى بكل وضوح حجم المصيبة التي حلت بأقدس مجال شرعي للمسلمين، ونقصد به: مجال الفتوى، وهو مجال حيوي وخطير في نفس الوقت؛ حيوي لأنه يضمن للشريعة استمرارها وديمومتها ومرونتها، وخطير لأن إهماله وعدم صيانته من العبث يؤدي إلى انهيار النسيج الثقافي للمجتمعات الإسلامية وانتشار الفوضى فيها. وتتأكد خطورته مع التساهل الذي باتت عليه نظرة عوام المسلمين لحقيقة الفتوى، والتي هي في الأصل توقيع عن رب العالمين، وقد صار استخفاف العامة بقدسية الفتوى علامة فارقة في عصرنا، خاصة مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، التي منحت للكثيرين فرصة التلاعب بالفتاوى، وإثارة فوضى علمية تراكمية في ساحات المسلمين، ويتخذ ذلك أشكالا كثيرة، لعل أخطرها: نشر بعض الجهات المشبوهة لفتاوى شاذة ومكذوبة؛ لتشويه رموز الساحة الفقهية والعلمية، مما يجعل التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة أمرا واجبا على طلبة العلم وأئمة المساجد، من خلال تخصيص دورات علمية وخطب وندوات ومحاضرات دورية تشرح للأمة أهمية الفتوى، مع تناول الموضوع من كل جوانبه، واستعمال كل الأساليب لإقناع الناس بضرورة احترام هذا المجال الشرعي العظيم.
الفتوى بين مسلم الماضي ومسلم الحاضر:
يجمع أهل الشريعة في عصرنا أن مسلم العصر لا يعطي لمجال الفتوى حقه من الاحترام والتبجيل، بدليل أن الكثير من المسلمين يلجأ إلى استفتاء من تظهر عليه سمات التدين، بل ثبت أن بعض المسلمين قد يستفتي أي شخص فيما يشكل عليه أو يجهله، بل كثيرا ما يلجأ الناس إلى البحث عن الفتاوى بأنفسهم عبر شبكة الانترنت، ومنهم من صار يعتقد أن له أهلية استخلاص الفتاوى من خلال النصوص الشرعية بفضل مستواه الجامعي، وصرنا نرى في الواقع مشاحنات ذات صلة بالشريعة، ممن لا يحق لهم الحديث فيها، فيأتي كل واحد منهما بحديث أو واقعة قد قرأها في كتب السيرة؛ ليستدل بها لنفسه دون خوف ولا وجل، أي أن كل من لا علاقة له بمجال الفقه والشريعة صار يطأ بجرأته اللامحدودة على قدسية الفتوى، وقد وصف القرآن الكريم هذه الجموع الخائضة في شرع الله بالكذب فقال سبحانه: “وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون” – النحل: الآية 116 – ولاشك أن الكذب على الله أخطر أنواع الكذب على الإطلاق، والكذب يتعارض مع حقيقة المسلم ورسالته في الأرض، وكان سلفنا الصالح يدرك ذلك إدراكا عميقا تاما يقول أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه عن الخوض في الشريعة الإسلامية بغير علم: “أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟!”.
وقد نال الاستهتار الجمعي بالفتوى من هيبة الشريعة لدى مجموع أفراد الأمة، وقلل من قيمة العلم والعلماء ودورهم، مما يؤشر لدخول الأمة فوضى عميقة، لم تشهد لها مثيلا فيما مضى، وهو ففي الماضي لم يكن هذا الاستهتار منتشرا أو موجودا بالصورة التي نراها اليوم – حسب اطلاعنا – أو لم يصل لدرجة الظاهرة فيمن سبقنا لأسباب كثيرة، أبرزها احترام العلماء والعامة للعلم والفقهاء، ومعرفتهم بالحدود المرسومة بين المقلد وبين الفقيه يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: “أدركتُ عشرين ومائةً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا”.. وكانوا لا يأخذون الفتوى إلا ممن زكته الأمة، ومن خلال صفوتها، يقول مالك: ” ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون من أهل المدينة أني أهلٌ لذلك”. وقد كان يرى على وجوه السلف الخوف من الخوض في مسائل الشرع، وهذه شهادة مالك رحمه الله: ” أدركتُ أهلَ العلم والفقه ببلدنا إذا سُئِل كأن الموتَ أشرفَ عليه”. ومن خلال هذه الأقوال يتبين أن مشكلة استهتار الناس بالفتوى لم تكن مطروحة وقتها، ولم تكن ظاهرة حياتية، بل تشير هذه الآثار إلى أن فقهاء وعلماء تلك الفترة كانوا يتهيبون الخوض في مسائل الفقه، وكان ذلك شائعا بينهم، ويتعمدون التأكيد عليه من خلال نشر مثل هذه الأقوال، التي تحض على احترام مجال الفتوى. وهو ما يجب أن تسترجعه نفوس طلبة العلم، كما يتأكد اليوم ضرورة إدخال مادة الفتوى وآدابها وضوابطها في المناهج الدراسية لكليات الشريعة في العالم الإسلامي.
عامة الأمس والشريعة:
كان الكثير من عوام المسلمين في مختلف الأقطار الإسلامية قبل الحركة الاستعمارية التي مزقت ودمرت العالم الإسلامي يحفظون المتون والمختصرات، ويهتمون بالكتب والمصنفات التي تناسبهم، ويطلب بعضهم من بعض العلماء والفقهاء تأليف رسالة في فن ما حتى يسهل عليهم أخذها وفهمها، فقد كان عامة مسلمي المغرب العربي – على سبيل المثال – يحفظون القرآن الكريم، ويجمعون بين متون كثيرة، حفظا وفهما، فكان الرجل يحفظ في الفقه متن ابن عاشر مثلا، ويحفظ الرسالة لابن أبي زيد القيرواني عن ظهر قلب، وكانت المسابقات والمباريات العلمية تقام بين الناس في حفظ مختصر خليل رحمه الله، وعدد مسائله بالتقريب 83 ألف مسالة بالمنطوق، ومثلها بالمفهوم.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك : ” لم تزل ألطاف الله بالمالكية تتوالى حتى أخرج لهم شابا جمع لهم مذهبهم في أوراق يتأبطها الرجل ويخرج، يتأبطها الرجل أي يجعلها تحت إبطه ويخرج، وهو عمدة المذهب اليوم، يحفظه الناس كما يحفظون القرآن، خدم بأنواع الخدمة”.
أما اليوم فإن الكثير ممن يتخرج من الجامعة بشهادة جامعية، ولا علاقة له بالشريعة، ولا يحسن كتابة مقال علمي في تخصصه، ولا يعرف تدبيج بحث علمي، ويعجز حتى عن كتابة شكوى يدفع بها الظلم عن نفسه، يلجأ إلى طلب المساعدة والاستشارة والتأكد من صحة عمله، إلا أنه يصبح جريئا عند الخوض في أمور الشريعة الإسلامية، وبصلف عجيب، وغرور مكشوف، فشتان بين العصرين، عصر يحفظ العامة فيه القرآن والمتون والمنظومات، وعصر صار فيه بعض العامة يحاكمون البخاري ومسلم رحمهما الله، ويشتمون تراث الأمة العظيم.
الغزالي يحذر من خطر العامة على الفتوى:
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: ” .. والعامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري. وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته “.
بل يذهب إلى أكثر من ذلك فيحذر العوام من إنكار المنكر إلا في مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كحرمة الربا والزنا والرشوة والقتل، وكحرمة ترك الصلاة، وقد كان الغزالي بعيدا في نظرته إلى خطورة جراءة العوام على انتهاك حياض الفتوى؛ لأن العامي إذا تجاوز ذلك وحاول الإنكار فإن ما يفسده أكثر مما يصلحه، والواقع شاهد على ذلك، يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: ” العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة، فأمّا ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.”. وهذا التنبيه مما يجب إحياؤه في مجتمعاتنا الإسلامية.
الفتوى بين يدي الدجاجلة:
باسم كذبة محاربة التطرف واستغلال الدين لأغراض سياسية، أصدر الكثير من دجاجلة العصر ممن يحسبون على أهل الفتوى والشرع – أغلبهم لا علاقة له بالفقه أصلا – فتاوى استباحت دماء المسلمين، واستحلت أعراضهم، وذهبت إلى انفكاك العصمة الزوجية لأسباب ما أنزل الله بها من سلطان، فخربت الذمم والأعراض والأموال، وقد حذر ابن عباس رضي الله عنهم من هذا القسم عندما أوضح للمسلمين أن أهل الفتوى والعلم على قسمين يجب معرفتهما، ومحذرا من خلال هذا القول من القسم الثاني: ” إن لله قراء، وإن للشيطان قراء “، ويحق في دجاجلة الفتوى قول ربيعة الرأي رحمه الله : ” وبعضُ من يُفتي هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق”.. ولو شاهد ما يجري على ألسنة هذا الصنف في عصرنا لشدد في اقتراح العقوبة الزاجرة. في هؤلاء الأشقياء، وقد كان السلف والكثير من الخلف يرون أن مجال الفتوى قد يكون سببا في هلاك المفتي وشقائه، حيث يقول سحنون رحمه الله: ” إنا لله. ما أشقى المُفتي والحاكم! “، ثم أضاف وهو من هو في العلم والفقه: ” ها أنا ذا؛ يُتعلَّمُ مني ما تُضرَب به الرقاب، وتُوطَأ به الفُروج، وتُؤخَذ به الحقوق، أما كنتُ عن هذا غنيًّا؟! “. ويروى عن عبد اللطيف سلطاني عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قوله: ” من أراد خيري الدنيا والآخرة فليجتنب الإمامة والقضاء”، وهي مبالغة نابعة من شيخ فاضل نال بسبب تعظيمه حرمة الفتوى وصيانتها شديد المحن.
وباسم السماحة المفصلة على هوى النظام العالمي، وباسم حرية التعبير، والحريات الشخصية، خرجت فتاوى هدامة تستبيح أركان الإسلام، والمعلوم من الدين بالضرورة، ممن لا ضمير لهم ولا مروءة، طلبا واسترضاء لقوى الاستكبار العالمي، وهي فتاوى ساقطة شرعا، مناقضة لروح الشريعة ومقاصدها، وأركانها، وتهدف إلى تفريغ الشريعة من روحها، وعزلها عن وظيفتها في دنيا الناس، ووصلت الجراءة إلى الدعوة الي إلغاء المناهج الإسلامية من المدارس والثانويات باسم المواطنة والاشتراك الأممي في الأخلاق، حتى إننا صرنا نقرأ لمن يتبعهم الآلاف – عن الدعوة إلى مساواة الإسلام باليهودية والنصرانية، بحجة أن الأخلاق واحدة وأن الكتب السماوية واحدة.
ولاشك أن خطر دجاجلة العصر على بيضة الإسلام عظيم؛ لأن في جلوسهم للفتوى هدما للإسلام وحصونه، وتمزيقا لنسيجه وهم المقصودون بقول عمر رضي الله عنه: ” يهدِمُ الإسلامَ زلّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المُضلّين.”. ما يجعل التصدي لخطرهم واجبا من واجبات العصر، وليت أهل القرار والكلمة المسموعة من المسؤولين والعلماء يعيدون إحياء ملتقيات الفكر الإسلامي الكبرى؛ حتى تكون محلا لمثل هذه المواضيع التي تهم كل مسلمي العالم.
أنقذوا الفتوى يا معاشر العلماء والفقهاء:
إن هتك العوام ودجاجلة الفتوى حرمات الفتوى وتسببهم في نشر فوضى علمية وفقهية كبيرة، أدت إلى اهتزاز إسلام وإيمان الكثير من المسلمين، والنيل من هيبة الكثير من أعمدة الإسلام يستوجب التفاتة صادقة ومستمرة من أهل العلم والفقه، للتصدي لهذه الغارة الخطيرة على مجال الفتوى، فهذا من صميم حفظ الدين الذي يمثل احد الكليات الخمس الذي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها، كما أن الذود عن حياض الفتوى يحقق للأمة استقرارها، ويحمي نسيجها الثقافي ويصون وحدة المجتمعات الإسلامية وبالتالي يساهم في إمكانية تفرغ المسلمين للعودة إلى استئناف الحياة وفق هويتهم الإسلامية والعودة إلى ريادة العالم؛ لنشر الرحمة بين المسلمين خاصة، وفي ربوع الأرض التي تئن من الظلم والفساد، وتحقيقا للخيرية التي وصفت بها في النص الذي أسس هذه الأمة.
المصدر: الاسلام اليوم.