الفتاوى المسوغة للتطبيع – عرض ونقض 1 من 2
إعداد د. عطية عدلان
مركز (محكمات) للبحوث والدراسات
الإصدار رقم (7)
الفتاوى المسوغة للتطبيع
عرض ونقض
مقدمة
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل بقي لدى أَحَد من عقلاء الأمَّة شكٌّ في أنَّ محكمات الدين وثوابته مستهدفةٌ من قبل أعدائه بالاستئصال والاجتثاث؟ لا أعتقد أنَّ عاقلاً راشداً من أهل الإسلام يخفى عليه إلى الآن ما يعانيه الإسلام من غارات متوالية وحملات متتابعة، تستهدف أصوله وجذوره، بأساليب متنوعة وذرائع شتى، يَشُنُّها أعداء الإسلام في الخارج، وأولياؤهم وأبواقهم في الداخل.
لقد غدت أصول ديننا وفروعه في مهب الريح العاتية، وأضحت خيمة الإسلام عرضة لمخاطر الاقتلاع؛ بسبب السهام الموجهة إلى المحكمات، التي هي أعمدة الخيمة وأوتادها؛ فهل نحن مستعدون لمواجهة هذه الأخطار؟ وهل يوجد بيننا من هو مستعد لبذل الغالي والنفيس من جهده ووقته ونفسه وماله ؟ لا ريب أنَّ لله في كل جيل من أجيال هذه الأمَّة رجالاً راسخين راشدين ينفون عن دينه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ فكن – أُخَيَّ – منهم، فما أشرف أن يستعملك الله في حفظ دينه، وأن يبقي بذلك في أثرك ما يدر عليك الرحمات بعد الممات (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (يس 12).
وإنَّ إخوانكم في مركز (محكمات) – وقد عزموا على بذل المجهود في نصرة ثوابت الملة – ليشرفهم التعاون معكم على البر والتقوى، والتواصل معكم للاستفادة بنصائحكم وتوجيهاتكم، وإيصال مخرجات المركز لكم ولمن وراءكم من خلالكم، والدال على الخير كفاعله، والله المستعان.
والمحكمات التي نَعْنِيها ونُعْنَى بها هي: “حقائق الإسلام الواضحة البيّنة الثابتة، التي أُحكمت بالبيان والبرهان، وقامت عليها الحجج والأدلة؛ بما يزيل الالتباس والاشتباه، ويرفع الخلاف فيها أو يجعله خلافاً غيرَ سائغ”، وهذا معنى بسيط لا تعقيد فيه، وهو – فوق كونه يؤلف بين مصطلحات العلماء – متسق مع معنى الإحكام في اللغة التي نزل بها القرآن، فالإحكام في اللغة([1]) هو المنع والتوثيق والإتقان والإحراز؛ وعلى هذا يكون معنى الْمُحْكَمُ في اللغة هو: الْمُتْقَنُ بشدةِ التلازمِ بين مبناه ومعناه، الْمَوَثَّق بالأدلة الواضحة على ما اشتمل عليه من دلالات، الْمُحْرَز من دخول الفساد والتحلل عليه، الممنوع من الدخول في أشكال تجعله يشتبه على الناس ويلتبس عليهم.
وفي هذا السياق يقدم المركز هذه الدراسة عن الفتاوى المسوغة للتطبيع مع العدو الصهيونيّ؛ باعتبارها تضادّ الثوابت وتهدد الممحكمات، فوجوب جهاد الدفع لتحرير الأرض الإسلامية والمقدسات الإسلامية ولنصرة المظلومين من المسلمين أحد المحكمات التي يهددها مشروع التطبيع، ومثله وجوب حماية بيضة الإسلام وتحصين ثغور الأمة من تغلغل المشروع الصهيونيّ، وكذلك حرمة الولاء والمظاهرة للكفار المحاربين المغتصبين للأرض الإسلامية والمقدسات الإسلامية، وغير ذلك.
وقد رصدت فتاوى عديدة لجهات وشخصيات عديدة؛ أيدت بصورة وبأخرى معاهدات السلام العربية الإسرائيلية، ودعمت بشكل أو بآخر مشروع التطبيع مع الكيان الصهيونيّ؛ لذلك جاءت هذه الدراسة التي تنتهج سبيلا وسطا بلا إسهاب ولا اقتضاب، ونسأل الله تعالى الإخلاص والصواب.
مبحث تمهيدي
عرض موجز للفتاوى المسوغة للتطبيع
هل يستحق رجل مثل “عبد الله بن بَيَّة” بعد أن سقط سقوطا مروعا، وانحدر في منزلق الدجل السياسيّ المعَمَّم بتسويغه لابن زايد وزبانيته ما يرتكبونه من جرائم في حق الإسلام والمسلمين؛ هل يستحق مثل هذا الرجل أن نلتفت إليه أو نعطي لكلامه أهمية؟ لا أظنُّ، ولا أحسب المسلمين اليوم يستمعون إليه فضلا عن أن يتأثروا به؛ بعدما دخل مع السفهاء في جُحْر الضَّبّ، وصار يؤيدهم ويدعمهم في كل ما يصنعون حتى في بدعة الدين الإبراهيميّ المزعوم، وها هي كلمته المقتضبة عن مبادرة التطبيع الإماراتية، ها هي كقطعة من الخردة ملقاة على قارعة الطريق لا معنى لها ولا قبول بها: “المبادرة من الصلاحيات الحصرية والسيادية لولي الأمر شرعا ونظاما” عبارةٌ لا شرعية لمعناها ولا نظام لمبناها؛ فهل عبارة كهذه في زمان كهذا يمكن أن تدخل عقل صبيّ حدث فضلا عن شخص كبير عاقل؟
وليُّ أمر مَنْ ذلك الذي تعطيه الصلاحيات السيادية والحصرية شرعا ونظاماً؟! وليّ أمر منْ ذلك الذي تمنحه صلاحية الإبرام لأمر يَعُمُّ ويَهمُّ المسلمين أجمعين؟! وليّ أمر منْ أيها الشيخ المثير للدهشة؟! إنّني لَعَلَى يقين من أنّك توقن بينك وبين نفسك أنّه لا يصلح أن يلي أمر عنزات في فلاة، وأنّه ليس له من وجهة نظر الشرع ولاية على نسمة واحدة من شعب الإمارات الأقل عددا بين سكان الأقطار العربية الممزقة، إنّني لعلى يقين من أنّ هذا هو معتقدك المستقر في سويداء قلبك، ولكنّك تثني صدرك عنه، وتلوي أعناق الناس معك بحيَلِكَ الْمُعَقَّدة؛ فاركب قطار الساقطين واذهب غير مأسوف عليك، ولا تنس أن تأخذ في يدك غلامك الببّغاء، ذلك المدعو “وسيم يوسف”!!
أم هل يسترعي انتباهنا بوق مرتزق كذلك الغلام الببّغاء “وسيم يوسف”؟ وهل يثير هذا البوقُ إلا الاشمئزازَ وهو يهذي مخاطباً الفلسطينيين: “حِنَّا نبغى سلام؛ روحوا انتوا حرروا فلسطين، ما لنا وما لكم!”؟ أعتقد أنّه من الحزم أن نتجاوزهما، ولا سيما مع تهافت أقوالهما وهشاشة ما بنيت عليه.
أمّا تبريرات الدكتور سعد الدين العثماني فيعلم القاصي والداني أنّها لَعِبٌ بميزان المصالح، ويكفي رداً على تلك التبريرات الهائمة على وجهها أن نتعرض في ورقتنا هذه لحجم المفاسد والشرور التي انطوت عليها مبادرات السلام وعمليات التطبيع، بل يكفي الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن وقد تربعت إسرائيل على عرش المنطقة بأسرها، بينما تموج بلادنا من حولها بالخراب واليباب.
دعونا من كل هؤلاء، ولنتوجه باهتمامنا إلى فتوى الشيخ بن باز رحمه الله؛ فإنّه أبرز من أفتى فأثرت فتواه في القطاع الكبير من المسلمين، وهو من هو في علمه وفضله، وفتواه قد جمعت أهم ما يمكن أن يكون سندا منسوبا للشرع في عملية تسويغ التطبيع؛ فإذا ثَبَتَ بطلان فتواه وانهارت كما ينهار صرح من ورق بني على حافّة منزلق؛ انهار بانهيارها جميع ما دار حولها وما جاء قبلها وبعدها من فتاوى واجتهادات، وانطوت وانزوت جميعها في النقطة التي هبت منها، كما تنزوي الزوابع الهوجاء بعد تعكيرها للأجواء وتلويثها للجهات والإنحاء، ولا أعتقد أنّ من مارسوا تسويغ التطبيع بخطاب منسوب للشرع خرجوا عن المحاور التي تركزت في فتوى هذا الرجل.
سُئل سماحة الشيخ ابن باز – سامحه الله – عن التطبيع وعن الصلح مع اليهود؛ فأجاب إجابة تُعَدُّ – بالنسبة لحساسية الموضوع وخطورته – مُقْتَضَبَةً ومُرْتَجَلَةً إلى حدّ كبير، وجاءت أجوبته صادمة للكثيرين ومحيرة لخلق الله أجمعين، وحاول البعض استثمارها في تبرير ما تقوم به الأنظمة الآن من المسارعة إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، وحاول آخرون ممن يُكِنُّون للشيخ الاحترام والتقدير – وإنّه بذلك لجدير – أنّ يؤولوا فتواه بما يبرئه من القول بجواز هذا التطبيع الذي تهرع إليه الأنظمة المنبطحة في زماننا هذا.
وقد كان للمؤسسات الدينية الرسمية في مصر فتاوى إبّان اتفاقية كامب ديفيد، تشبه إلى حد كبير فتوى الشيخ ابن باز لكنّها جاءت إنشائية وغير منضبطة المصطلحات، مثل تلك التي وردت بلسان الشيخ “جاد الحق” رحمه الله في 26/11/1979م، والتي جاء فيها: «…وإذا عرضنا اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل على قواعد الإسلام التي أصلها القرآن الكريم وفصلتها السنة النبوية، وبينها فقهاء المذاهب الفقهية … نجد أنها انطوت تحت أحكام الإسلام، فهي استخلصت قسما كبيرا من الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967م، وما دامت هذه الاتفاقية قد أفادت المسلمين ووافقت مصلحتهم فإنه لا يليق بمسلم أن يبخسها حقها من التقدير…»([2]).
وعلى نفس النهج سارت المؤسسات الدينية الرسمية في البلاد التي سارعت إلى التطبيع قديما وحديثا، وبنفس المنطق ومن ذات المنطلقات التي انطلق منها الشيخ ابن باز ووغيره، وهو التركيز على محورين: الأول جواز الهدنة في الإسلام وكونها تناط بنظر الإمام، الثاني: تحقق المصلحة بهذه المصالحة، وكان لفتاوى أثرها في تغيير ثقافة المسلمين، غير أنّ فتوى الشيخ ابن باز كانت أكثر خطرا وأعمق أثرا؛ حيث تعصب لها قوم، وتعصب ضدها آخرون، وبين هؤلاء وأولئك تاهت الحقيقة وضاعت المحكمات.
والموقف في الحقيقة ليس موقف التبرير ولا موقف التصحيف والتزوير، وإنّما هو موقف الجدية، والمنهجية العلمية المتجردة من التعصب للشيخ أو التشنج ضده، يجب أن نخلص من كل هذه الجواذب المشغلة؛ لندلف إلى مضمون الفتوى عبر عرضها على المعيار الذي لا يضِل ولا يزِل، معيار الشريعة الغراء، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركنا على المحجة البيضاء، وجاءنا بها بيضاء نقية؛ فلا ريب أنّ الحقيقة لن تغيم ولن تغيب إذا بذلنا وسعنا في البحث والتنقيب، وأحكام الهدنة والصلح مع دار الحرب ليست بخافية ولا متوارية، إنّها في الفقه الإسلامية بادية راسية كالأعلام.
خلاصة فتوى الشيخ ابن باز
يقول رحمه الله تعالى: “تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى وليّ الأمر المصلحة في ذلك” لقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم) ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا”([3])، ويواصل: “ولأنّ الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم القول في ذلك في كتابه أحكام أهل الذمة، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم”([4])، ويتابع: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة لبقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإن رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يبيحها الشرع المطهر فلا بأس في ذلك”([5])، قال ذلك في صدد الإجابة على سؤال عن مدى جواز التطبيع، ثم يستطرد مبيناً أنّ مثل هذا الصلح لا يترتب عليه ولاء لليهود ولا محبة لهم ولا غير ذلك.
الفتوى والواقع النّكد
هذا ما قاله الشيخ وأفتى به، وقرره وكرره، وأيده فيه الشيخ ابن عيثيمين رحمه الله، وعنهما نقلت الفتوى عبر المواقع والميديا إلى أقطار الدنيا، ولا أعتقد أنّ أحداً أفتى في هذه المسألة فخرج عمّا جاءت به هذه الفتوى، بل لا أتصور أن يبلغ أحد بفتواه ما بلغته من حيث إحاطتها بالأدلة المنسوبة للشريعة، لكنّ السؤال هنا: هل المشايخ يعيشون تحت الأرض فلا دراية لهم ولا علم بما يجري فوقها؟! ليس هذا طعنا في أمانتهم على العلم، وإنّما هو لقطع السبيل على المبررين الذين يسرفون في التبرير بما يعود على مؤسسات الفتوى بالخلل والاضطراب، فمن المعلوم لدى العلماء وأنصاف العلماء وأرباعهم أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فهل تصور الشيخ المسألة؟ وهل سأل عن واقعها إذ سُئِلَ عن حكمها الشرعيّ؟!
هل يخفى على الشيخ ماذا يعني إبرام صلح مع عدو محارب يحتل الأرض والمقدسات ويقتل المسلمين ويأسرهم ويسجنهم؟ هل يخفى عليه أنّ الكيان الصهيوني ليس عدوا يعيش على أرضه كفرنسا أو الصين أو روسيا، وإنّما يحتل أرض الإسلام ويخطط عليها لمشروعه المحادد للمشروع الإسلاميّ جملة؟ هل يدري الشيخ الفقيه العلامة ماذا يعني هذا؟ إنّه يعني الاعتراف بهذا الكيان الدخيل كدولة تعيش على أرضه وتنعم عليها بسلام دائم مع جيرانها، وتُحترم حدودها ولا تُنتهك، ويُحترم حقها في العيش بسلام على (أرضها!) دون (عدوان!) عليها من أيّ دولة من الدول، إن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم!!
وهل بلغه ما يصنعه هذا العدو بشعب فلسطين، هل بلغه استمراره في الاستيطان وتوسعه في بناء المستوطنات على حساب الشعب الفلسطينيّ، وهل بلغه خبر الغارات التي يشنها على غزة تلك الغارات التي حصدت من أرواح المدنيين العزل الكثير والكثير بل الجمّ الغفير؟ وهل بلغه نبأ المسجد الأقصى وما يحاك به من حفريات تجري تحته وحوله. هذا بخلاف التضييق على المصلين واضطهاد السكان الأصليين، وهل قرأ الشيخ عن خطط الصهاينة أو طالع أخبارهم عبر تاريخ الصراع العربيّ الإسرائيليّ ذلك التاريخ المليء بنقض العهود والانقلاب على كل المواثيق؟!!
ينبغي أن نقول الحق في هذه المسألة واضحاً، وأن يقال إنّ الشيخ أخطأ في فتواه خطأً فاحشا، لا أن تُلْتمس له الأعذار التي لا يصح أن تُلْتمس لطالب علم مغمور فضلا عن عالم كبير وعَلَمٍ مشهور، إنّ الخطأ الذي نرتكبه نحن هو إقرار مبدأ التقديس في المنهج العلميّ، وهذا – لَعمر الحق – زلل كبير ودجل خطير، أمّا مكانة الرجل وأمثاله من الرجال الطيبين الذين اشتهروا بالعلم والفضل فهي محفوظة ويجب أن تبقى محفوظة، وليس من الدين الحطّ من أقدار العلماء وأخذهم بزلاتهم، ما لم تصر عادة عندهم.
إنّ فتوى الشيخ – بالمقاييس العلمية المنهجية – مطمورة في الخطأ والزلل ومجللة بالخرافة والدجل، ومخالفة لشريعة الإسلام في شكلها ومضامينها كافّة، فما هذه بفتوى في مسألة من المسائل العظام ونازلة من النوازل الجسام، ولو أنّ الشيخ سُئل عن امرأة رأت الدم في غير أيام عادتها لسأل أولا عن لونه وشكله وهل تكرر من قبل أم لا، ولأَطال وفصّل وأوضح وبيّن، وإنّ فتاواه لتملأ الدنيا سهلها ووعرها – جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين – وأمّا في مسألة كهذه يتعلق بها مصير الأمة وحاضر ومستقبل المسلمين فيطرحها هكذا ويلقيها كما يُلقي البَصْقَةَ مِنْ فِيهِ!
إنّ ما جرى في واقع الأمة اليوم ليس من قبيل الهدنة أو الصلح الذي يتحدث عنه الشيخ ويسوق له الأدلة، إنّه لا يتوافر فيه شرط واحد من الشروط الأربعة التي إن غاب منها شرط واحد كان عقد الهدنة باطلا ومحرما، إنّ معاهدات السلام التي أبرمها الكيان الصهيونيّ مع الدول العربية كل منها على انفراد، وما تلى ذلك من عمليات التطبيع؛ ليست سوى استسلام لهذا الكيان المجرم الذي يحتل الأرض ويطرد منها أهلها، ويهيمن على المقدسات الإسلامية، ويقبع في كبد الأمة يمكر بها ويكيد لها، ويربض في خاصرة العالم الإسلاميّ كخنجر مسموم سلته على الأمة قوى الإمبريالية العالمية.
إنّ فتوى الشيخ ومن تابعه عليها من المشايخ صارت اليوم متكأ لمن يقولون بجواز التطبيع مع العدو الصهيونيّ الذي لا يزال إلى اليوم يعتدي على المسلمين ويرميهم بالحمم، والتطبيع هو السلام الدائم وقيام علاقات طبيعية كسائر العلاقات الطبيعية بين الدول، بل إنّه في الواقع لا يقف عند حدود المعنى المباشر وإنما يتجاوز ذلك إلى شراكات سياسية واقتصادية وثقافية، بلغت اليوم حد التمهيد للولايات المتحدة الإبراهيمية التي تتزعمها إسرائيل وتدين بالدين الإبراهيمي الجديد الذي تنصهر فيه كل الأديان الثلاثة!!
وإذا كنّا قد تعجلنا ببعض الردود؛ فإنّ هذا لا يغني عن استعراض المسألة من جذورها وأصولها الشرعية؛ فما هو حكم الصلح مع الأعداء الحربيين؟ وما هي الشروط التي ينبغي مراعاتها؟ ثم ما مدى صحة هذه الفتوى وما شابهها من الفتاوى في ضوء ما يتقرر من الأحكام الشرعية؟ هذا هو المسار الذي سوف نسلكه في المباحث الرئيسية لهذا البحث.
المبحث الأول
أحكام الهدنة في الشريعة الإسلامية
فلنبدأ بعرض موجز لأحكام الهدنة في الشريعة الإسلامية، ثم ننظر كيف يمضي بنا الحديث، فقد عرف العلماء الهدنة بتعريفات متقاربة، من أقْوَمِها تعريف الموسوعة الفقهية الكويتية: “مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره”([6])، وتسمى الهدنة والموادعة والمتاركة والمهادنة والصلح.
وأمّا عن حكم الهدنة فإنَّ الأئمةَ الأربعة وعلماءَ الأمصار كافَّةً متفقون على أمرين، الأول: أنّ الهدنة مع دار الحرب جائزة بشروطها، الثاني: أنّ جوازها مرهون بشروط لا بدّ من توافرها، وإلا كانت باطلة ولو بفقد شرط واحد من الشروط؛ إذ إنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم، فلو فقد شرط واحد لم يغن عن البطلان توافر باقي الشروط، وهذا الكلام بأدلته مبسوط في كتب الحنفية([7])، والمالكية([8])، والشافعية([9])، والحنابلة([10])، والزيدية([11])، والإمامية([12])، والإباضية([13])، وغيرهم([14])، بل لقد نُقل الإجماع على جواز الهدنة بالشروط المقررة عند العلماء([15])، لكن دعوى الإجماع يردها أن الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم قالوا بأن المهادنات كلها منسوخة بآيات السيف([16]).
وكما أنّ جواز الهدنة بشروطها صار من المحكمات والثوابت باتفاق العلماء عليه وبكثرة ما قام عليه من أدلة من الكتاب والسنة القولية والعملية؛ فإنّ الشروط التي يجب توافرها في الهدنة لكي تصح وتجوز وتلزم الأمة الإسلامية، والتي إن غاب منها شرط واحد بطلت وحرمت وانفرط عقدها هي أيضاً ترتقي إلى مستوى المحكمات؛ إذْ توافقت عليها جميع مذاهب جماهير العلماء القائلين بالجواز، مع كونها متآلفة تمام التآلف مع مقاصد الشريعة وأصولها العامّة.
وقد اشترط العلماء لصحة الهدنة أو الصلح شروطاً، اتفق عليها القائلون بجواز الهدنة وهم الجمهور، فإذا إضيف لاتفاقهم أنّ الظاهرية خالفوهم في جواز الهدنة من حيث الأصل؛ فيكون القدر المجمع عليه هو عدم جواز المصالحة مع دار الحرب إذا غاب شرط من الشروط التي اشترطها العلماء، وبالطبع يتأكد عدم الجواز بانعدام أكثر من شرط، فإذا انعدمت كلها انسدت كل الأبواب أمام القائلين بالجواز.
أول هذه الشروط: أن يكون في المصالحة مصلحة للمسلمين، فإن لم يكن فيها مصلحة للمسلمين لم تجز؛ لأنّ الأصل مع دار الحرب إمضاء الجهاد([17])، وثاني هذه الشروط: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد» وهذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب الإسلامية، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد، وهي لا تقل عن التصريح بالشرط([18]).
وثالث هذه الشروط: يرى جمهور الفقهاء « المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»([19])، أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه، لأنه عقد يترتب عليه تعطيل الجهاد وهو من المصالح العامة التي لا يقف عليها غير الإمام، وخلاف الحنفية ضعيف لا دليل عليه، ورابع هذه الشروط ألا يكون العقد مؤبداً، ومن تأمل أقوال المذاهب يتبين له أنهم لم يختلفوا في عدم جواز التأبيد، وإن كانوا قد اختلفوا هل يشترط تحديد المدة أم يجوز أن تكون مطلقة، واختلف القائلون بعدم جوازها مطلقة: هل لها مدة محددة في الشرع أم أن تحديدها يرد إلى نظر الإمام وإلى حاجة المسلمين؟([20])، وبالجملة: «تجوز مطلقة ومؤقتة، فأما المطلقة فجائزة غير لازمة يخير بين إمضائها وبين نقضها، والمؤقتة لازمة»([21]).
هذان الأمران المتكاملان محكمان ثابتان لا لَفَّ حولهما ولا دوران، الأول: جواز الهدنة بشروطها الأربعة الآنفة الذكر، الثاني: بطلان الهدنة وحرمتها إذا فقدت شرطا واحداً من تلك الشروط الأربعة، هذان حكمان ثابتان بلغ بهما البيان إلى حدّ الإحكام، بتظاهر الأدلة وتوافر البراهين، ومن هذين المحكمين الثابتين ننطلق لإجلاء الحقائق وإماطة الغبش عنها.
(17) راجع: العين (3/66 – 67) ، (5/ 129) – جمهرة اللغة (1/ 564) – أساس البلاغة (1/ 206) – لسان العرب (1/ 89) ، (8/ 57) ، (9/ 155) ، (10/ 371) ، (12/ 140 – 144) ، (13/ 73) – القاموس المحيط (ص: 59) ، (ص: 172) ، (ص: 371) – تاج العروس (1/ 322) – المصباح المنير (1/ 145)
([2]) نقلا عن: في الفقه الإسلامي والقانون الدولي، د. ياسر السيد محمد – رسالة دكتوراه، من كلية الشريعة والقانون 2007 (ص849).
([3])حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الإسلامية – سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – إشراف رئاسة البحوث والإفتاء – ط أولى 1996م – صــــ 4
([4]) السابق صـــــ5
([5]) أيضا صــــــــ19
([6]) الموسوعة الفقهية الكويتية (25/230).
([7]) المبسوط للسرخسي (10/86)، بدائع الصنائع (7/ 108)، ونصب الراية (4/239)، شرح السير الكبير (4/1689).
([8]) التاج والإكليل 4/ 605، شرح مختصر خليل محمد بن عبد الله الخرشي (3/ 150) – أشرف المسالك (1/113) .
([9]) أسنى المطالب (4/224)، مغني المحتاج (6/86)، تحفة المحتاج (9/304).
([10]) الإنصاف للمرداوي (3/211)، كشاف القناع للبهوتي(3/111) شرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/655).
([11]) التاج المُذَهّب – أحمد بن قاسم الصنعاني (4/449) البحر الزخار – أحمد بن يحيى بن المرتضي (ص446-447).
([12]) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام جعفر بن الحسن الهذلي(1/303-304).
([13]) جوهر النظام في علمي الأديان والاحكام للمسالمي (ص603).
([14]) ر: سبل السلام (1/202)، الدرر البهية (1/339)، نيل الأوطار
([15]) ر: أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224)، البحر الزخار (ص446)، والموسوعة الفقهية الكويتية (25/232).
([16]) ر: المحلي لابن حزم (7/357-358).
([17]) المبسوط للسرخسي 10/86 – شرح مختصر خليل للخرشي (150) – الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/200 – كشاف القناع (3/112) – التاج المذهب (4/449) – شرائع الإسلام (ص303-304) – جوهر النظام (ص603).
([18]) شرح السير الكبير (5/ 1750). شرح مختصر خليل (ص151) – أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) – الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) – التاج المذهب (4/449) – شرائع الإسلام (1/304).
([19]) بداية المجتهد (1/283)، المهذب للشيرازي (2/332)، مطالب أولي النهى 2/585، التاج المذهب 4/449
([20]) راجع: شرح مختصر خليل للخرشي (/151)، روضة الطالبين(9/141-143)، المجموع للنووي (21/373) – المغني لابن قدامة (12/591)، التاج المذهب لأحكام المذهب (4/449) – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (1/304).
([21]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح – ابن تيمية (1/176).
(المصدر: رسالة بوست)