شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
هناك من يرى أن دراسة الأخلاق لا تفيد شيئاً ولا تحقق نفعاً في تقويم السلوك وإصلاح النفوس حيث يرون أن الأخلاق غير قابلة للتغيير وأن ما يطبع عليه الإنسان يستعصي عليه التحويل والتبديل.
وقام الإمام الغزالي بتخطئة هؤلاء، وانتقد رأيهم، ورماهم بالقعود والكسل والتواكل، لأنهم يستثقلون تزكية النفوس وتزكية الأخلاق مستدلين على ذلك بعدم تغيير خلقة الإنسان حيث اعتقدوا أن الخُلق كالخلق لا يقبل التغيير ظناً منهم أن المطمع في تغيير الأخلاق إنما هو طمع في تغيير خلق الله عز وجل.
وهذه حجتهم الأولى وهي مقايسة نظرية حيث بينوا أنه لا يمكن للإنسان تحويل خلقته الظاهرية من الدمامة إلى الوسامة، كذلك لا يمكنه تغيير طبيعته الباطنة الشرية إلى الخيرية، إذ لا فرق بين فطرة وفطرة: كلاهما من صنع الله الذي لا تبديل لخلقه.
وقد بين الغزالي بطلان حجتهم بأنه لو كان تغيير الأخلاق مستحيلاً وتبديل الطباع غير ممكن لما كان هناك جدوى للنصح والإرشاد، فقال: “لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حسنوا أخلاقكم”.
واستدل على أن تغيير طباع الإنسان أمر ممكن ميسور بتغيير طباع الحيوان بالتدريب والتهذيب فقال: “وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد” [1].
ومعنى ذلك أن الدليل التجريبي قائم على عكس ما ذهبوا إليه، فقد وفق الإنسان في كل عصوره على نقل طباع الحيوان من النفور إلى الإلف. ومن الصعوبة والحزونة إلى السلاسة والانقياد، ومن اعوجاج السير واضطرابه إلى اعتداله وانتظامه، حتى إن الإنسان ليرقص الخيل ويلاعب الطير ويعلم الجوارح.
فإذا كان هذا هو الشأن في غرائز العجماوات فكيف بالغرائز الإنسانية التي أثبت علم النفس المقارن أنه أسلس قياداً، وأعظم مرونة [2].
أما حجتهم الثانية فتقوم على التجربة العلمية حيث إن كثيراً من أهل المجاهدة والرياضة حاولوا في أنفسهم تحطيم قوتي الشهوة والغضب، وإسكات غريزتي الأمل والألم فباؤوا بالفشل، وإذا كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لاكتساب الخلق الحميد وقد ثبتت استحالتها كانت غايتها محالة كذلك.
ويكفي في الرد عليهم وإبطال حجتهم هذه أن نشير إلى أنه ليس المطلوب هنا قمع هذه الشهوات ومحو الطباع الإنسانية وإنما المقصود تهذيبها وتنظيمها فلا يستطيع الإنسان أن يبدل عناصر روحه تبديلاً ولكن يمكنه أن يتعهد عناصر الخير فيها إمداداً بماء العلوم والمعارف، ورفداً بالعمل الصالح، وصقلاً وجلاء بالندم على السقطات والزلات وبما شاء من تزكية وتنمية كما قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 103].
والخلاصة أن النفس وإن كانت خلقت ناقصة بالفعل لكنها منطوية على إمكانيات الكمال، قابلة بالقوة لما شاء الله من درجات الترقي والتدني، فعلى الإنسان أن يجاهد ويبذل قصارى جهده في التزكية والتطهير، يقول تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7-10]، فجعل الله سبحانه وتعالى تسوية النفس من فعل البارئ المصور، ولكنه جعل تزكيتها أو تدسيتها من عمل الإنسان [3].
فدراسة الأخلاق إذن وحدها ليست كفيلة بأن تجعلنا أخياراً صالحين ولكن ينبغي أن نكون ميالين بطبعنا إلى الخير والتقوى والصلاح، بجانب مجاهداتنا المستمرة في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.
فحسن الخلق كما يقول الشيخ محمد الغزالي: “لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل مجرد التعليم، وإنما التأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهداً مستمراً” [4].
————————————————————–
[1] راجع إحياء علوم الدين، ج3، ص55-56.
[2] راجع دراسات إسلامية للدكتور دراز، ص94، ولمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة راجع فطرية الأخلاق واكتسابها بين مسكويه والغزالي للدكتور فتحي محمد الزغبي: حولية كلية أصول الدين بالزقازيق، 2002م.
[3] راجع دراسات إسلامية للدكتور دراز، ص94-95، وفطرية الأخلاق واكتسابها المبحث الرابع.
[4] راجع خلق المسلم، ص15.
المصدر: موقع “الألوكة نت”.