الـخُرّمية.. ماذا تعرف عن أول حركة شيوعية في تاريخ الإسلام؟!
إعداد محمد شعبان أيوب
لم تكن مظاهر الدعوة إلى الاشتراكية ومبادئ اليسار والشيوعية وليدة العصر الحديث، فقبل أن نسمع عن ماركس وإنجلز وتروتسكي ولينين وستالين ونظرياتهم، ثم تطبيقاتهم عن مانفيستو الاشتراكية الذي آمنوا به، وساروا في طريقه حتى انقسم العالم إلى معسكرين بسببه، وعن شرارة هذه الأفكار التي انطلقت من قلب أوروبا إلى شرقها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتعلن انتصارها الأخير في ثورة البلاشفة على القيصرية والإقطاع وطبقة النبلاء، ومنهية بذلك عصر الأغنياء الروس على أعواد المقاصل والمشانق، والدعوة إلى حقوق العمال والبسطاء والفلاحين، والسواسية الاجتماعية، كانت هناك قبل ألف عام حركة وُجدت في التاريخ الإسلامي المبكر على قدر كبير من التشابه والتقارب الفكري!
جمعت تلك الحركة التي سرعان ما انتشرت بين الناس في إيران وامتدت حتى القوقاز الجنوبي، جمعت بين تماسك الأيديولوجيا والقوة المالية والتسليحية والتنظيمية العالية، كما وجدت حاضنة جماهيرية عريضة بين عموم الناس في إيران، نكاية في سيادة العنصر العربي منذ عصر الفتوحات ثم الدولة الأموية ثم العباسيين الذين أزاحوا الفرس عن سيادة الإقليم وجعلوهم شعبا مساويا لبقية الشعوب، ونتيجة لذلك استمرت هذه الحركة الفكرية والسياسية على مسرح الأحداث لعشرين سنة كاملة، استطاعت أن تهزم فيها جيوش العباسيين وتدحرهم، وتقتل عشرات الآلاف من المسلمين، وتأسر عشرات الآلاف الآخرين!
تلك هي الحركة الشيوعية البابكية الخرّمية، فما هي؟ ومن هو مؤسسها؟ ولماذا وَجدت في إيران متنفسا لها؟ ثم لماذا استمرت على قوتها وتمددها لمدة عشرين سنة متوالية؟ وكيف قضى العباسيون عليها في نهاية المطاف؟!
حين ارتقى الخليفة الأمين بن هارون الرشيد عرش الخلافة العباسية، كان والده -هارون- قبل ذلك قد كتب عهدا موثّقا وعلّقه على جدران الكعبة الشريفة، ليكون محترما ثابتا لا يُمكن تغييره، حيث جعل هارون الرشيد المأمون وليا للعهد من بعد وفاة أخيه الأمين، لكن الأمين الذي كان عباسيا هاشميا من ناحية الأب والأم، وبتأثير من الحاشية القريبة منه، ومن بعض كبار الأسرة العباسية حرّضوه على نقض هذا العهد، واستخلاف ابنه الصغير موسى خلفا له، وعزل أخيه المأمون الذي كان نصفه عربيا ونصفه فارسيا بحكم أن أمه كانت جارية فارسية لهارون الرشيد. وبالفعل حاول الأمين خلع أخيه، لكن الأمور لم تجر على النحو المرجو للأمين، ليعلن المأمون العصيان والمقاومة المسلحة من مقرّه في خراسان التي كانت تميل إليه بالكلية، واستمر ذلك الصراع عدة سنوات، لقي الأمين حتفه على إثره.
ورغم مقتل الأمين، فإن المأمون لم ينتقل من مرو عاصمة خراسان إلى بغداد عاصمة الدولة، ومقر الأسرة العباسية، الأمر الذي جعل الفتن والحركات المسلحة وقُطّاع الطرق ينشطون في تلك الأماكن، ولم يدر المأمون بما يدور نتيجة حجر وزيره الفضل بن سهل وأخيه الحسن.
في ظل تلك الأحداث، ظهر رجل يُدعى بابك الخرّمي بعد وفاة أستاذه الذي كان يُسمى جاويدان الفارسي، وكلاهما اعتنق مذهب المزدكية التي كانت تؤمن بمبدأ تناسخ الأرواح، وقد ادعت زوجة جاويدان أن روحه انتقلت إلى بابك الذي صار منذ تلك اللحظة زعيم تلك الحركة، كما اعتنقوا مبدأ الحلول، أي إن بابك ادّعى الألوهية وحلولها به[1].
آمن الخرّمية برفض تكاليف الإسلام، كما آمنوا بالإباحية والاشتراكية بمفهومها الاقتصادي في ذلك التوقيت، وهذا ما ذكره عدد من المؤرخين، بل إن المؤرخ والجغرافي المقدسي قابل هؤلاء وتناظر معهم، وعاصرهم، وأدرك طبيعة ما يدعون إليه، ورأى بنفسه “بين الخرّمية في ديارهم ماسبذان ومهرجان قذق (مراكز بابكية في فارس)… مَن يقول بإباحة النساء على الرضا منهن وإباحة كل ما يلذ النفس وينزع إليه الطبع ما لم يعد على أحد بالضرر”[2].
وكانت الحاضنة الشعبية لهؤلاء من الفلاحين، وقد حاولوا حل مشكلة الأراضي بنزعها من الملاك الكبار وتوزيعها على الفلاحين، فمازيار أحد كبار الإيرانيين الثائرين على حكم الخليفة المأمون في منطقة جرجان شمال إيران، كان على صلة كبيرة ببابك الخرمي وأصدر أوامره بإكراه كبار الملاك على التنازل وتقسيم أراضيهم بين صغار الزراع والفلاحين، وانتهاب أموالهم وتقسيمها كما يذكر الطبري في تاريخه[3].
امتلك بابك قوة الفكرة وانتشارها بين عموم الناس، كما امتلك أموالا ورجالا آمنوا بفكرته، فأنشأ جيشا قويا، ووضع نصب عينيه هدفا سياسيا واضحا وبسيطا بالقضاء على السلطة السياسية للعرب، وعداوة الدين الإسلامي، وقد أجمع على ذلك كافة المعتنقين لهذه المذهب الشيوعي، كما ساعدته الظروف الجغرافية الوعرة في منطقة الجبال في همذان وما فوقها حتى أذربيجان وأرمينيا وجنوب القوقاز، فحصّن نفسه وأتباعه حول هذه المسالك الوعرة واتخذوا من مدينة البذ حصنا لهم[4].
استغل بابك وقواته الكثيفة ضعف الحاميات العباسية في مناطق الجبال النائية والوعرة، فكانوا يفتكون بهم بكل سهولة ممكنة، واستطاع قطع خطوط تموين القوات العسكرية العباسية
وتجلى البُعد العنصري في الحركة الخرّمية البابكية واضحا للغاية، حيث كانت تنفسيا عن الكراهية التي تمتلئ بها نفوس جماعات من الفرس ضد الإسلام الذي قضى على الإمبراطورية الساسانية الفارسية، وربط بابك نفسه بأبي مسلم الخراساني، فادّعى أنه من نسل ابنته فاطمة، مما يدل على النزعة الفارسية القديمة[5].
وفوق ذلك، أراد بابك أن يحصّن نفسه وموقعه من أي هجوم للعباسيين، فدخل في مفاوضات سرية مع البيزنطيين أعداء العباسيين، طالبا منهم العون والمساعدة وقت الضرورة، وأبرم الجانبان اتفاقا دفاعيا مشتركا، وبالفعل دخلت فرقة بابكية إلى الدولة البيزنطية داعمة لها في إحدى هجماتهم على الحدود مع الدولة العباسية، وتشير المصادر التاريخية إلى أن عدد جيش الشيوعيين البابكيين بلغ ما بين 20 إلى 60 ألف مقاتل، بل تبالغ بعض المصادر لتوصل أعدادهم إلى 300 ألف مقاتل[6] صاروا لمدة عشرين سنة شوكة في حلق الدولة الإسلامية.
استغل بابك وقواته الكثيفة ضعف الحاميات العباسية في مناطق الجبال النائية والوعرة، فكانوا يفتكون بهم بكل سهولة ممكنة، واستطاع قطع خطوط تموين القوات العسكرية العباسية ونهب قوافلهم حتى يشل هجماتهم، وخرّب حصون أذربيجان حتى يضعف دفاعات العباسيين، وكثيرا ما فشلت الحملات العسكرية التي أُرسلت من بغداد للقضاء على هذه الحركة الشيوعية المسلحة التي أضحت مع الوقت أكثر خبرة ودُربة بحرب الجبال والعصابات المسلحة من جيوش العباسيين المنظمة.
وعلى الرغم من عودة المأمون إلى بغداد، واستقراره بها، فإنه لم يستطع طوال فترة خلافته أن يقضي على شوكة البابكية الخرّمية فضلا عن أن يُضعفهم أو يُلجئهم إلى الأماكن الأبعد عن إيران وأذربيجان، وكانت إحدى وصاياه الأخيرة لأخيه وولي عهده المعتصم بالله أن يُسرع بالتصدي لهذه الطائفة بكل ما لديه من قوة عسكرية ممكنة[7].
كان الخليفة المعتصم، الأخ غير الشقيق للمأمون، رجلا عسكريا من الطراز الأول، حيث تراه طيلة الوقت في صحبة الجيش وقادته العسكريين، ولم يكن من المستغرب أن يُكثر من جلب الأتراك في بنية الجيش العباسي ويبني لهم عاصمة جديدة وهي “سامراء” بعيدا عن بغداد[8]؛ لقوتهم وثباتهم في المعارك، ثم إنه كان نصفه تركيًّا من جانب أمه، لذلك، فقد حرص المعتصم على وضع الخطط والإستراتيجيات مع قواته للقضاء على الحركة البابكية الشيوعية التي وصلت إلى حدود العراق وأذربيجان وامتدت في إيران وحتى أرمينيا وجنوب القوقاز.
وبدأت أولى الحملات العسكرية في خلافة المعتصم سنة 218هـ/833م بقيادة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، واستطاعت القوات العباسية القضاء نهائيا على الحركة الشيوعية الخرّمية في إيران، وجاء خطاب البُشرى بالنصر “وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفا، وهرب باقيهم إلى بلاد الروم”[9] البيزنطيين كما يروي العلامة الطبري في تاريخه.
كانت الخطوة التالية من المعتصم للقضاء نهائيا على الخرّمية بتعيين القائد العسكري التركي الأفشين حيدر بن كاوس على رأس الجيش العباسي المتجه صوب أذربيجان والجبال، وقد تميّز هذا القائد بالحذر والذكاء، ووضع خطة محكمة أمّن فيها ظهره فيما بين العراق وأذربيجان حتى لا تنقطع خطوط الإمداد ويقع محصورا بين الخرمية بدلا من حصارهم.
ثم جعل البريد يستغرق أربعة أيام فقط أو أقل فيما بين أذربيجان وسامراء، كما استخدم الحمام الزاجل لنقل الأخبار أولا بأول لإيقاف الخليفة المعتصم على آخر المستجدات، كما أسس جهازا قويا للاستطلاع والمخابرات، وجنّد العملاء لصالح العباسيين لمعرفة آخر تطورات ما يحدث بين الخرّمية وخططهم التالية، ويخبرنا المؤرخ شمس الدين الذهبي أن المعتصم أنفق في تلك السنة مليون درهم في حرب بابك[10].
أسهم ذلك في دخول الأفشين إلى قلب معركة عسكرية سريعة وحاسمة، كانت حصون وقلاع الخرمية تتساقط في يده بسهولة، حتى استطاع الوصول إلى مدينة البذ عاصمتهم، وحاصرها حصارا شديدا حتى تمكن من دخولها في رمضان 222هـ/أغسطس/آب 837م[11]، الأمر الذي اضطر بابك إلى الهروب صوب أرمينية فكتب الأفشين إلى بطارقتها وحكّامها بسد الطرق عليه، حتى استطاع أحدهم أن يقبض عليه ويُسلمه إلى الأفشين[12].
استطاع الأفشين أن يُسقط الحركة الشيوعية الخرّمية، وأن يقضي على نفوذها وتمددها، وأن يستنقذ عشرات الآلاف من الأسرى، حتى إن الطبري يؤكد أن عدد الأسيرات المسلمات اللاتي وقعن في يد بابك الخرمي كان سبعة آلاف مسلمة، وسيق بابك مكبلا في أغلاله حتى جيء به إلى سامراء، وفيها أنزلت عقوبة الإعدام عليه، وقطع رأسه وطيف به في كافة البلدان والمدن التي كانت تدين له؛ إسقاطا لشأنه من أعين ونفوس بقايا مؤيديه!
وهكذا استطاع العباسيون بعد حروب دامت عشرين سنة متواصلة، ومئات الآلاف من الأموال، ومئات من الشهداء والقتلى، وآلاف من الأسرى، أن يقضوا على الحركة الشيوعية الأولى في تاريخ الإسلام في قرنه الثاني، وهو تاريخ يسبق ظهور الحركات الشيوعية الحديثة، والتي تختلف بالطبع من حيث مضامينها وسياق نشأتها وفلسفتها وامتداداتها عن الشيوعية القديمة، لكنهما تشابها في بعض الملامح الاقتصادية والفكرية التي دعت لشيوع اقتصادي وتمرد على النظام القائم!
(المصدر: ميدان الجزيرة)