مقالاتمقالات مختارة

الغوطة بين التفاؤل والتخاذل

بقلم د. جمال الباشا

 

بين بثِّ روح التفاؤل في الناس وتخديرهم شعرة، فمنشأ الأول: العلم والبصيرة والقراءة الواعية لسنن الله وفقه الواقع بسياقاته بعيدًا عن النرجسية الحالمة، ومنشأ الثاني العواطف الجياشة واستقراء النصوص الشرعية المتفائلة بطريقة خاطئة وتكلف إسقاطها على الواقع.

وفي الطرف الآخر من المعادلة يقف فريق آخر ليس له وظيفة سوى التخذيل وتثبيط العزائم، ولا يحسن سوى النقد الهدام، نظرته سوداوية قاتمة، لا يقع نظره إلا على النقائص، ولا يخط قلمه غير المعايب.

يضعُ شروطًا مثاليةً تعجيزيةً للنصر لم تكن موجودةً حتى في عصر النبوة.

نسي هؤلاء أنَّ المنافقين كانوا يملأون المدينة النبوية ويتمالؤون على المؤمنين ليل نهار، وأنَّ رأسهم رجع بثلث الجيش يومَ أحد، وأنَّ الرماة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم طمعًا بالغنيمة، وكان ذلك سببًا في تقهقر المسلمين في المعركة، وأنه لم يخلُ عصر الصحابة الكرام من نزاعات وخلافات داخلية أضرَّت بالدولة الإسلامية وأخَّرت توسَّعها.

والعبرة في تقييم الحالة العامة والحكم عليها من خلال تحولاتها الإيمانية وعزيمتها الجهادية صعودًا ونزولا.

أخبرتني السنن أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يسرا، وأنَّ الفئة القليلة بالإيمان تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنَّ المؤمن مكلف بأداء ما كلف به من إقامة شرع الله ودينه، وحصول النتائج بيد الله وحده، وأنَّ العبد يستعجل النصر ولكنَّ الله لا يعجل لعجلته.

أخبرتني السنن أنَّ دورة التاريخ أطول من عمر الفرد، ولأجل ذلك تتشوف نفس الواحد منا إلى رؤية النتائج العاجلة في حياته، لكن من قرأ التاريخ أدرك أنَّ النصر قد تصنعه أجيال متعاقبة، فقد يزرع الأجداد ويقطف الأحفاد.

لقد اختلَّ مفهوم النصر وميزانه عند بعض الناس فبات لا يرى النصر إلا في صالح القاتل ضد المقتول دون الأخذ بعين الاعتبار أوجه النصر الأخرى كالثبات على المبدأ وصلابة الإرادة وظهور الحقيقة وتعرية الباطل.

قال لي أحدهم يوما: إنَّ الصحابة قدَّموا تضحياتٍ جسامًا في سبيل دينهم فاستحقوا النصر والتمكين، فهل قدَّمت الأمة اليوم كما قدموا؟

فكان جوابي:

نعم، سيشهد التاريخ أنا رأينا صورا من البطولات في الأمة لم يشهدها أسلافنا ولم نقرأ عنها من قبل.

إذا كان في الأمة من سحبه المشركون على رمال مكة الحارة بضع ساعات، فقد رأينا من تفنن المجرمون بتعذيبهم حتى الموت بالمثقاب الحديدي والتيار الكهربائي، وأُجلسوا على الخوازيق.

رأينا من قضى في السجون سنوات وهو عار بلا ثياب في شدة البرد، وقُلل عنه الطعام حتى التصق جلده بعظمه ليموت موتا بطيئا.

رأينا مئات الآلاف بما فيهم العلماء والدعاة وحفظة القرآن يعذبون في السجون من أجل دينهم.

آلاف النساء انتهكت أعراضهن في سبيل دينهن.

إن كان الناس يُقتلون في ما مضى بالسيوف والرماح فالقتل اليوم بالبراميل المتفجرة التي تمزق الأبدان وتفتت العظام، فكم من شهيدٍ دُفن في صندوقٍ كرتوني صغير لأنه لم يبق من أشلائه إلا ما تحمله اليد الواحدة.

إن كان الرعبُ فيما مضى ببرق السيوف فوق الرؤوس فرعب اليوم بأصوات الصواريخ والطائرات التي تبلغ بالقلوب الحناجر.

الموت اليوم بنكهة سموم الكيمياوي ووهج الفسفور الأبيض.

لقد رأينا أحد الأبطال وقد دفنه الجلاوزة حتى رأسه وهو معصب العينين، يساومونه على أن يذكر طاغوتهم بالتوحيد، فيردد بقوة وثبات: لا إله إلا الله محمد رسول الله فينقطع صوته مع انقطاع نفسه بردم التراب عليه.

إن كان في سالف الأمة خنساء صبرت على فقد أبنائها الأربعة في سبيل الله، فقد رأينا اليوم مئات الخنساوات تفقد العشرة وزيادة من أهلها فتحتسبهم عند الله وتقول: كلنا فداء للإسلام، ولم تذرف لها عين.

رأينا فتىً من جند الإسلام دون البلوغ يحيط به الشبيحة من كل مكان يوسعونه ضربا ويأمرونه بالسجود لصورة طاغوتهم فيقترب منها متظاهرا بالاستجابة ثم يبصق عليه.

ولا ننسى تلك الفتاة اليافعة التي أدهشت الملايين وهي تُستخرَج من تحت الركام قد غطاها التراب ولا همَّ لها إلا حجابها وعفتها، فتقول بصوتها المتهدِّج للمصور: “عمو لا تصورني ماني محجبة”!!

أليس من الظلم والإجحاف أن ننسى كل هذه البطولات، وأن نتنكر لأكثر من مليون شهيد قتل من الأمة في هذا العقد على يد الظالمين من الرافضة واليهود والصليبيين والملاحدة، بسبب تخاذل من تخاذل، وخطأ من أخطأ؟!

هل تلوموننا على حسن ظننا بالله الكريم الذي توعد عباده بالنصر إن هم نصروه فقال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)؟!

أقولها وبكل صراحة.. لم أكن في وقت من الأوقات أعظم تفاؤلا مني اليوم..

لقد كان أكثر الناس في غفلة وجهل وسبات عميق، نعم يأكلون ويشربون ويتنفسون ولكن بلا همٍّ ولا قضية، ووصل بهم الحال في غفلتهم أنهم يرون الشيعة إخوانا لهم، ويعوِّلون عليهم في تحرير فلسطين، في الوقت الذي كانت إيران تسير في مشروعها الاستراتيجي للهيمنة على المنطقة بأسلوبها الناعم وبمدد من كل أعداء الملة في الداخل والخارج، بما فيهم اليهود، فجاءت هذه الثورات لتسقط القناع عن هذا المشروع الكارثي قبل تحقيق أهدافه، وفضحته وهتكت ستره، وصار أصغر أبناء الأمة واعيًا بالخطر الشيعي ومشروعه في المنطقة، وهذا المكسب لو لم تخرج الثورات إلا به لاستحق الكلفة، ووالله لو أنفقت الأمة مئات المليارات لشراء هذا الوعي ما قدرت عليه.

إنَّ لدينا في الشام اليوم عشرات آلالاف من المجاهدين قد باعوا أنفسهم لله، وفي الأمة عشرات الملايين من الأبطال الذين يتحرَّقون في تربُّصهم لملاقات عدوِّهم حينما تُتاح لهم الفرصة، قد ألهبتهم الأحداث من حولهم، وصار الجهاد أشهى لأحدهم من الماء البارد على الظمأ.

ولا ينبغي أن ننسى أنَّ أعداءنا قد دفعوا ثمنا باهظا في تلكم النزالات، وسَلوا مقابرَ النجف والسيدة زينب، وطائرات الشحن الأمريكية عن عشرات آلاف النعوش التي أرسلها المجاهدون من الميادين.. إنهم يألمون كما نألم، ونرجو من الله ما لا يرجون، فقتلانا في الجنة وقتلاهم في الجحيم.

إنَّ نصر الله قريب وَفق هذه القراءة التي عرضتها بإيجاز، والشواهد على ما ذكرت كثيرة جدًا، ولا ينبغي أن يُفهم من كلامي هذا أنَّ النصر سيكون خلال بضعة أشهر ولا بالضرورة أن يكون في بضع سنين، ولكني أقول: إنَّ الأمة اليوم في حالة نهضةٍ ووعي إيماني وسياسي غير مسبوق، وقد أبدت من الصمود والتضحية في سبيل عزتها وانعتاقها من الطواغيت ما يجعلها على الطريق الصحيح، وأما وقت بلوغ النهاية فعلمه عند الواحد الأحد وحين يأذن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى