مقالاتمقالات المنتدى

الغواية الإبليسية ومعارك الشيطان ضد بني آدم (1)

الغواية الإبليسية ومعارك الشيطان ضد بني آدم (1)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

إنّ من وسائل إغواء الشيطان لبني آدم؛ أن يزين لهم الباطل في الأرض ويحسن لهم كل قبيح ومحرم، فإبليس هو الذي زين الكفر والعصيان للأمم السابقة وحسّن لهم الصدود والإعراض عن دعوة الله على لسان أنبيائه حتى أخدهم الله بجزاء أعمالهم. (عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، الحواس، ص 309).

قال تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل: 63].

ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۝ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام 42-43].

– ويخبرنا القرآن الكريم أن طغيان قومي هود وصالح عليها السلام وتكبرهم عن الاستجابة لدعوة أنبيائهم والاغترار بما عندهم من القوة والعدة، إنما كان بتزيين عدو الله الشيطان لهم تلك الأعمال السيئة حتى صدهم عن سبيل الله تعالى، يقول جل وعلا: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38]. (عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، الحواس، ص309)

– وحينما عبدت ملكة سبأ وقومها الشمس من دون الله تعالى كانت تلك العبادة والسجود بتزيين الشيطان لها ولقومها ذلك الفعل، حتى حسّن لهم ببناء قصر عظيم رفيع البناء محكم التشييد وكان فيه ثلاثمائة وستون نافذة من مشرقه ومثلها من مغربه، وقد وضع بناؤه على أن تدخله الشمس كل يوم من نافذة وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحاً ومساءً، يقول الحق تعالى مخبراً عن تلك الملكة وقومها حكاية عن هدهد سليمان عليه السلام. قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ۝  إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ۝ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ۝ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل:22-26].

– ولما بزغت شمس الإسلام وظهر نوره، ساء ذلك عدو الله الشيطان وكره انتشار الإسلام، فجمع أمره للكيد لهذا الدين وجنده، لما يعلم أن في هذا الدين سعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، فزيّن للناس كراهية هذا الدين وحسّن لهم دين الآباء والأجداد والانتصار له ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى نسج للمشركين مخطط قتله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما زينه لهم يوم بدر لحرب للمؤمنين وإزهاق الحق وإظهار الباطل الذي هم عليه بصورة الحق الذي يستميتون من أجل الدفاع عنه، حتى قال وليُّ الشيطان أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره، وفي ذلك يقول الحق تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 48] . (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، البيهقي، ص 3/79)

واختلف في كيفية تزيين الشيطان الباطل المذكور في الآية، هل كان التزيين بالوسوسة فقط، أم تحول الشيطان في صورة إنسان فخاطب المشركين وزين لهم أعمالهم؟

على قولين في المسألة هما فيما يأتي:

– قيل: أن الشيطان زين للمشركين بوسوسته من غير أن يتحول إلى صورة إنسان، وهذا قول الحسن والأصم، وبه قال أبو السعود والألوسي.

– وقيل: بل ظهر لهم الشيطان في صورة إنسان، وهو سراقة بن مالك بن جُعْشُم، وهذا قول ابن عباس والسدي وعروة بين الزبير ومحمد بن كعب وابن جرير والطبري، والفراء وابن جزي وابن كثير وهو قول الجمهور. (تفسير الطبري، ص 10/18-20)

وهو الظاهر لما رواه ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس تمثل بيوم بدر في صورة سراقة بن مالك وأخذ يحرض المشركين على القتال، ولقد أضل عدو الله الشيطان بأسلوب تزيين الباطل كثيراً من الناس، فكم حسّن من قبيح وزيّن من فاحش وجمّل من رذيلة وملّح من ذميم، وقنّع عيوناً لترى الفواحش والمنكرات والحرمات في قالب مزخرف وصورة حسنة، وهي تُخفي في حقيقتها السمّ الزُّعاف والدّاء الدّفين، فهو يظهر الباطل في صورة الحق مع إضافة الشهوات كي تندفع إليها النفوس المريضة، لتقع فريسة للشيطان الذي يتربص بها الشر ويقودها إلى هلاكها وخسرانها، فعدو الله يعلم أن السبيل لإيقاع بني آدم في فخ طاعته ومن ثم موافقتهم إياه في جهنم، هو في اقتراف المحّرمات والوقوف في الموبقات وإطلاق العنان للشهوات لتشبع نهمها بكل طريق. (عداوة الشيطان للإنسان، الحواس، مرجع سابق، ص 312)

– إن الشيطان حين يزين الباطل للإنسان فإنه بالمقابل يظهر الحق في صورة قبيحة ومستهجنة، لينفر النفوس عنه، فلا تتبعه وتدعو اليه، فالشيطان هو الذي أوحى إلى أوليائه من كفار قريش بوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسّحر والكهانة والجنون والكذب والشعر.

– إن الشيطان هو الذي أوحى إلى أوليائه بتسمية الحدود الشرعية قسْوة ووحشية، مع أن إقامتها يحقق العدل ويعمّ الأمن، وهو الذي أوحى إليهم بتسمية المرأة المحتشمة بحجابها الشرعي رجعية ومتخلفة وأوحى إلى أوليائه بتسمية الدين أفيون الشعوب، وشعائر الإسلام قيود فكرية، والإسلام كبت ورجعية … إلخ من الأوصاف التي ينعق بها الإعلام الموجّه، لإطفاء نور الإسلام وسحق الهوية الإسلامية، وهو إعلام ينطق على لسان عدو الله الشيطان الذي يدعو الناس إلى الكفر بعد الإيمان والضلال بعد الهدى. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾  [محمد: 25] .

– إن الشيطان حين يزين المعصية في نفس الإنسان، فإنه لا يدعوه إليها مباشرة، بل يقرّبه منها خطوة خطوة وشيئاً فشيئاً حتى يقع في الفخ الذي نصب له، ولذا حذرنا الله تعالى من اتباع خطوات الشيطان والاسترسال معها يقول جل وعلا:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 208]، ويقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ…﴾  [النور:21].

فالشيطان يتدرج مع الإنسان في إضلاله وغوايته، فيدعوه للمعصيّة ويزينها في نفسه، ثم يحبب له النظر إليها فتحسُن في عينيه، ثم يدعوه إلى الاقتراب منها وتحسسها وكيفية ارتكابها، وهو في ذلك يوسوس له بأن المعصية من اليسر اقترافها وليس هناك ما يدعو إلى التردد، حين يزيل هيبة المعصية من قلبه، ثم يؤمنه من عقاب فعلها، بأنه لن يكشف أمره، ولن يطلع أحد على جريمته، وأنه فعل ينتهي في وقته، وليس له مطالب ولا جريرة ويوحي إليه بأنها فرصة نادرة عليه اغتنامها والتلذذ بها، فربما لا يسمح بمثل هذه اللذة الحاصلة والفرصة النادرة.

وهكذا يقود الشيطان هذا الإنسان إلى تلك المعصية عن طريق الخطوات الشيطانية المتتابعة حتى يملأ فكره وقلبه ومشاعره بالرغبة في ارتكابها، ويشحذ عزمه وهمته على فعلها، ولا يدعه حتى يراه متلبساً بفعلها، وغارقاً في رذائلها، فيُسر عدو الله الشيطان غاية السرور وهو يراه مواقعاً لتلك المعصية فيتبهج بتطبيق خطته ونجاح مهمته.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من مادته على كتاب: ” عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، د. عبد المنعم حواس.

المراجع:

  • عداوة الشيطان للإنسان وعلاجها، د. عبد المنعم حواس.
  • دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر البيهقي.
  • روح المعاني، شهاب الدين الألوسي.
  • تفسير القرآن العظيم، شمس الدين ابن كثير الدمشقي.
  • قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى